العلم والفلسفة والدين كمقولات لنهضة العقل العربي
1 – ليس بإمكان المرء أن ينكر أو يتجاهل ما قدمه العرب من إسهامات ضخمة في مجال فلسفة العلم ( أو في مجال الكشوف العلمية من جهة، ومعالجاتها الفلسفية من جهة أخرى ) إبان مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية، وهي المرحلة التي باتت تاريخًا يشهد على قدرة الإنسان العربي – إذا ما أراد – على تحدي معوقات التقدم، وتذليل الصعوبات التي يمكن أن تحول دون قيام نهضته واستنفار طاقاته المعرفية والإبداعية في شتى الميادين، نظرًا وتطبيقـًا، ومن ثم قدرته على » بناء « و » إعادة بناء « العديد من الأنساق الفكرية والنظم التقنية ذات الطابع العربي الأصيل، أعني تلك التي تـُشبع خصوصية المحتوى الثقافي العربي، وتتفق ومعطيات الدين، واللغة، والتاريخ، والخصائص الروحية والأخلاقية التي تقع في صميم هذا المحتوى الثقافي، وتعكس في النهاية ما ندعوه بالهوية العربية المميزة.
وليس الهدف من هذا المقال هو تعداد الإنجازات العربية في الفروع المختلفة والمتباينة للعلم وفلسفته، فذلك ما تبارت الأقلام في وصفه وتبيانه منذ أن أفلت شمس الحضارة الإسلامية، بل وما تصدى لتحليله العديد من مؤرخي الغرب المحدثين على اختلاف مشاربهم الفكرية وتنوع أهدافهم البحثية!. كما لا يهدف المقال إلى التباهي بصنيع الأجداد، أو اجترار الأحزان وذرف الدموع على انفراط عقد الحضارة العربية الإسلامية، وإفلات الريادة الفكرية من بين أيدينا، ذلك أننا على اقتناع تام بما أكدته الشواهد التاريخية من أن لكل حضارة دورتها الزمكانية المحددة، وهو ما بيّنه – على سبيل المثال – كل من » ابن خلدون (732 – 808 هـ & 1332 – 1406 م ) و » أوزفالد شبنجلر « (1880 – 1936 م )، حين عمدا إلى تمثيل الحضارات بالكائنات الحية، تولد، ثم تنمو وتزدهر، ثم تهرم وتفنى. وإن كنا على اقتناع مساوق بما قرره » أرنولد توينبي « A. ( 1889 – 1975من أن أية حضارة لا تموت قضاءً وقدرًا، وإنما تموت انتحارًا(1)، وذلك حين تعجز عن الوفاء بمتطلبات الريادة، فتفقد مقومات الإبداع، وتهوي إلى أدراك الصراع السياسي، أو إلى ما أطلق عليه السيناتور الأمريكي » وليم فولبرايت « (1905 – 1995 م ) اسم » غطرسة القوة « (2). إنما يهدف المقال بالدرجة الأولى إلى إلقاء نظرة موضوعية على العوامل التي أدت إلى انطلاق المشروع الحضاري العربي وازدهاره في القرون الوسطى، وتحديد عناصر الأصالة » المحلية « – والمغيّبة غالبًا من قبل مؤرخي العلم والفلاسفة اللاحقين بتأثيرٍ من محليتهم الخاصة – فيما أنتجه العقل العربي من علوم وفلسفات، ومن ثم تعيين الموضع الدقيق لحضارتنا عبر مسيرة التطور الحضاري للإنسان بصفة عامة. وفي بؤرة هذه الأهداف يقع تساؤلنا المحوري الذي نسعى للإجابة عنه في نهاية هذا المقال، والذي يمكن أن نصوغه على النحو التالي: هل من الممكن في ضوء محليتنا الراهنة – وما يحيط بها من متغيرات دولية بالغة التأثير – قيام مشروع حضاري عربي معاصر يناظر المشروع الحضاري الضخم لأسلافنا ؟. وقبل أن نعمد إلى تحقيق هذه الأهداف، والإجابة عن سؤالنا المطروح، ينبغي البدء بوضع تعريفات وافية لمصطلحاتنا، لا سيما مصطلح » المحلية « Locality، والذي بدونه يصعب فهم ما نعنيه بالعلم والفلسفة والدين في عصر النهضة العربية الغائبة.
أولاً: النهضة العربية في ضوء محلية الزمان والمكان
2 – » كل التاريخ تاريخ معاصر «، بهذه العبارة وضع الفيلسوف الإيطالي » بندتو كروتشه « (1866 – 1952 م ) حدًا فاصًلا بين دراسة الطبيعة، ودراسة الحدث الإنساني في الطبيعة، فالأولى علمٌ يسعى إلى صياغة الأفكار ووضع القوانين، أما الثانية فعلمٌ يسعى إلى التعرف على مغزى وكيفية الحدوث التاريخي للأفكار، الأولى تبقى نتائجها مجرد قضايا محايدة، يمكن تجريدها من الأطُر الزمانية – المكانية اللازمة لتحديد الحوادث التاريخية، أما الثانية فمحكومة بالسياق الزماني – المكاني المحلي للحدث من جهة، وبالسياق الزماني – المكاني المحلي للمؤرخ من جهة أخرى، بحيث يمكن القول بأن أي مؤرخ للفكر إنما يعيد بعث الماضي لينفخ فيه من روحه، ويُسقط عليه من خبراته التي بلغت قطعًا نقطة تفوق معينة على الحدث الذي يؤرخ له. خذ مثلاً قانون » نيوتن « (1642 – 1727 م) العام في الجاذبية، والقائل بأن » أي جسمين يتجاذبان فيما بينهما بقوة تتناسب طردًا مع مضروب الكتلتين، وعكسًا مع مربع المسافة بين الجسمين «، إن هذا القانون في ذاته ليس حدثـًا في الزمان والمكان، وليست له إحداثيات زمانية – مكانية، لكننا نعرفه كقضية في نسق علمي معين، ولقد كان هذا النسق إنجازًا لشخص ما له بالتأكيد مثل هذه الإحداثيات، إن الحدث إذن هو » أين « و » متى « و » كيف « أنجز » نيوتن « هذا النسق، وحين يؤرخ المؤرخ لهذا الحدث فإنما يؤرخ له من نقطة تفوقه، من محليته الخاصة التي تحكمها خبراته بتطورات البحث الفيزيائي في حركات الأجسام وطبائعها.
3 – يمكننا إذن إعادة الصياغة لعبارة » كروتشه « السابقة بحيث نقول: » كل التاريخ تاريخ محلي «( 3)، وما دام ذلك كذلك فمن الصعب قطعًا بلوغ الحياد التام في كافة تآريخنا، وبصفة خاصة تأريخنا للعلم، اللهم إلا إذا نحينا جانبًا محليتنا الراهنة، بما تشمله من رؤى مختلفة، ومن تساؤلات نطرحها من نقطة تفوقنا، ومصطلحات تـُصاغ بها هذه التساؤلات. بذلك فقط نستطيع فهم خصوصية الحضارة العربية الإسلامية ومقوماتها، فضلاً عن أصالتها وموضعها المميز في السياق الحضاري العام.
إن السمة المميزة للنهضة العربية، قواها وإخفاقاتها، وسبل تطورها، ومصيرها الذي آلت إليه،…، كل ذلك تم تفسيره – من قبل العديد من المؤرخين ذوي التوجهات المختلفة – بالنظر إلى اللغة كقالب للتفكير والتعبير، وإلى الدين كقوة تشكيل صلبة، وإلى المهارات المتباينة للأفراد والجماعات كنتيجة لثقافة عالم كانت الحضارة الإسلامية مضمونه الأخير. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، خذ مثلاً الإبداع العربي غير المسبوق في علم الجبر: إن هذا الإبداع، وبغض النظر عن إبداعات أخرى للعرب في المجالات المختلفة للرياضيات البحتة والتطبيقية، تم التركيز عليه غالبًا تحت زعم تمتع اللغات السامية بسمات معينة، تجعل الناطقين بها على استعداد للاشتغال بالجبر، في مقابل الاشتغال بالهندسة عند اليونان !، كذلك الحال بالنسبة للمحاولات المبكرة لعلماء الفلك المسلمين لبناء نماذج حركية تعبر عن مبادئ النسق الفلكي البطلمي وتعكس مدى تمثلهم لبنائه المنطقي، إذ تم النظر إلى هذه المحاولات كدليل على فقر الخيال العربي، أو توجه العقل السامي نحو دراسة الأشياء التي يمكن إدراكها حسيًا بسهولة !، أيضـًا اعتـُبـِر الدين الإسلامي كأصل ومصدر لعافية العلم الإسلامي في العصر الوسيط، ثم كسببٍ رئيس لسقوطه النهائي !، وأخيرًا نجد تصور» روح الحضارة« – وهي في هذه الحالة» حضارة سحرية « * – وقد تمت الاستعانة به لتفسير كل أوجه الحضارة الإسلامية، بما في ذلك الدراسات والكشوف العلمية (5).
وليس من الصعب كشف الضعف الذي تعاني منه مثل هذه التفسيرات، فعلى سبيل المثال، يمكننا الإشارة إلى الجهود الكبيرة والناجحة تمامًا لعلماء الرياضيات العرب والمسلمين في مجاليّ الهندسة وحساب المثلثات، كما يمكننا أن نربط البرنامج النظري لعلماء الفلك المسلمين بنسق » بطليموس « ذاته وبالمثاليات المبكرة لعلم الفلك اليوناني *، ونستطيع كذلك أن نشير إلى التعقيد البالغ للعلاقة بين العلم والدين عبر مجرى التاريخ الإسلامي بأكمله، وفي أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي، وأن نبين بسهولة خلو النظريات العلمية والفلسفية المبتكرة من تصور » روح الحضارة « !.
ولسنا نزعم بذلك أن اللغة والدين والثقافة لم تكن عوامل مؤثرة في انطلاق المشروع العربي النهضوي لدى أسلافنا، لكن ارتكان التفسيرات السابقة إلى هذه العوامل بمفردها، ومن منظورات لغوية ودينية وثقافية مختلفة، يطمس بقسوة خصوصية المشروع الحضاري العربي، ويذيب خياراته المحلية في خيارات أخرى مغايرة، ومن ثم كان التركيز على جانب دون جانب، وعلى إبداعٍ دون آخر، وكان الجنوح إلى التأييد أو الاعتراض، بمثابة نزوع غير موضوعي لتقديم تفسيرات جاهزة، وربما مريحة لواقعٍ عربي لم يتم التعرف عليه بدقة !)7).
4 – دعنا إذن نضع تعريفـًا لكل من العلم والفلسفة بمقتضى السياق الزماني – المكاني المحلي لحضارتنا المنزوية.
[ 4 – 1 ] – يشير مصطلح العلم العربي (أو الإسلامي) إلى أوجه النشاط العلمي لأولئك الأفراد الذين عاشوا في الفترة الممتدة من القرن الثامن بعد الميلاد إلى بداية العصر الحديث، وشغلوا جغرافيا المنطقة الممتدة من شبه الجزيرة الإسبانية وشمال أفريقيا إلى وادي الهند، ومن بحر العرب الجنوبي إلى بحر قزوين، أي المساحة الزمكانية التي شهدت حدوث ما ندعوه بالحضارة الإسلامية، والتي تم فيها التعبير عن أوجه النشاط المشار إليها باللغة العربية(8). هذا عن الإطار الزماني – المكاني للعلم العربي، أما عن محتواه فيشمل العلوم الرياضية ( علوم التعاليم أو العلوم التعليمية )، والتي ضمت في البداية علم العدد، والهندسة، وعلم الفلك، والنظرية الموســــــــيقية ، بالإضافة إلى تطبيقات هذه العلوم في مجالات مثل البصريات ، والميكانيكا . ولقد أضيف علم الجبر إلى هذه المجموعة في مرحلة لاحقة كفرع من فروع علم العدد أو الحساب العملي (9)، هذا فضلاً عن العلوم الطبيعية التجريبية بأنماطها المختلفة، كالطب، والسيمياء (الكيمياء القديمة)، وغيرهما.
[ 4 – 2 ] – وفي الإطار الزماني – المكاني ذاته تبرز الفلسفة كنشاط معرفي عقلي مارسه العرب والمسلمون انطلاقـًا من موروثات يونانية وافدة، وإن اصطبغ هذا النشاط بصبغة محلية مضمونها رؤى وتساؤلات وقضايا تهم المسلم بالدرجة الأولى. ورغم نزعة الشك والمعارضة التي جوبهت بها الأفكار الفلسفية من قبل بعض الفئات في المجتمع الإسلامي، إلا أن هذه الأفكار احتلت مكانتها البارزة في قائمة العناصر الأساسية لنهضة العقل العربي، وهنا تنبغي الإشارة إلى نقطتين مترابطتين، الأولى أن الفلسفة قد احتفظت بالاسم اليوناني لها حتى يومنا هذا، وذلك على الرغم من وجود كلمة مكافئة لها في اللغة العربية هي كلمة » الحكمة «، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على نجاح التطبيع بين الحضارتين: العربية واليونانية، حتى لقد أصبح لفظ » الفلسفة « وكأنه لفظـٌ عربي أصيل، فمنه مثلاً اسم الجمع » فلسفات «، والصفة » فلسفي «، واسم الفاعل » فيلسوف « و » فلاسفة «، والفعل » تفلسف «، فكل هذه الألفاظ كانت ولا زالت مستخدمة في المؤلفات العربية ككلمات مفهومة عمومًا، وإن وجودها المستمر لهو دليلٌ في الواقع على عملية أعمق من التمثيل ، اخترقت خلالها عناصر الفلسفة – وبدرجات مختلفة – كل قسم من أقسام التفكير الإسلامي عمليًا !. أما النقطة الثانية فمؤداها أن لفظ » فلسفة « لم يكن أبدًا دالاً على النظر في مسائل الإلهيات والإنسان والعالم بطريقة ما عامة وغامضة، لكنه كان يدل بالأحرى – صراحة أو ضمنـًا – على معتقدات عقلية معينة، وعلى أسلوب في التفكير كان سائدًا بفضل ولوج بعض المذاهب النوعية في الفكر العربي الإسلامي، لا سيما مذهب الأفلاطونية المحدثة * بأبعاده الأرسطية، ومن ثم أشارت كلمة » فلاسفة « إلى أولئك الأشخاص الذين ارتضوا لأنفسهم هذه المعتقدات وذلك الأسلوب في التفكير، والذين آلوا على أنفسهم نشرهما وتطويرهما في بيئتهم الإسلامية الخاصة(11).
[ 4 – 3 ] – وغني عن الذكر أن الصلة كانت وثيقة بين العلم والفلسفة، وأن الدين الإسلامي كان بمثابة البوتقة التي انصهرا فيها، والتي قدمت لهما البواعث ذات الاستجابات الضخمة في كل أجزاء العالم الإسلامي. وهكذا، فعلى الرغم من التمييز الواضح – في أزمنة العصور الوسطى – بين الرياضيين ( التعليميين ) وفلاسفة الطبيعة ( الطبيعيين )، إلا أنه من المعروف أن اهتمامات وأنشطة هاتين المجموعتين قد تداخلت غالبًا بقدر كبير، إذ لم تكن العلوم الرياضية سوى فئة فرعية من العلوم الفلسفية، والتي شملت أيضـًا فلسفة الطبيعة ( الطبيعيات ) والميتافيزيقا، وأنها كونت جميعًا ما نسميه » علـــــــــــوم الأوائل « أو » العلوم القديمة « ( 12 ).
من جهة أخرى، وكدليل على تفرد المشروع العربي النهضوي في ضوء محليته، وتميزه عن المشروع الغربي في عصر النهضة الأوربية مثلاً، يورد الدكتور عبد الحميد صبرة ملاحظتين هامتين، الأولى أن النهضة الأوربية، بقدر ما اهتمت بالعلم والفلسفة في القرن السادس عشر، كانت رد فعل – أصبح جليًا وصريحًا خلال القرن السابع عشر – ضد نماذج من التفكير والحجج مرتبطة بالنزعة المدرسية في العصور الوسط *، أما في التاريخ الإسلامي فقد كان نظام الحوادث معكوسًا، فالنهضة – إن صح التعبير – جاءت أولاً خلال القرنين التاسع والعاشر، ثم أعقبتها النزعة المدرسية التي احتواها الدين الإسلامي بتعاليمه، وإن لم يكن ذلك مباشرة وباطراد في كافة أجزاء العالم الإسلامي؛ وأما الملاحظة الثانية فتشير إلى تضاد آخر – أكثر أهمية – بين النهضتين، ففي ظل الإسلام ( سواء في بغداد خلال القرنين التاسع والعاشر، أو في مصر وآسيا الوسطى خلال القرن الحادي عشر، أو في إسبانيا خلال القرن الثاني عشر، أو في المراغة – في الشمال الغربي الإيراني – خلال القرن الثالث عشر، أو في سمرقند خلال القرن الخامس عشر ) كان القائمون على النهضة يجمعون بين كونهم علماء، تدفعهم غايات عملية مأمولة نحو مزاولة الطب والفلك والرياضيات التطبيقية وغيرها، وبين كونهم فلاسفة، لديهم القدرة على مزج المعتقدات الأرسطية والأفلاطونية المحدثة وتبنيها، وهو ما نجده مثلاً في أعمال » الكندي « ( 796 – 873 م )، و» الفارابي « (872 – 950 م )، و» ابن سينا « (980 – 1037 م ). وفي رحاب هذا المناخ الفكري الحر، تميزت ممارسات العلم والفلسفة بكونها نشاطات دنيوية مورست وتطورت وأعلنت كمتطلبات عقلية مستقلة تمامًا عن أية سلطة دينية، بل إن هذه الأخيرة لم تمنع المزاولين لتلك النشاطات – المستقلة بذاتها والمشرّعة لذاتها – من تقديم تفسيراتهم العقلانية﴿ الهيلينية﴾ الخاصة للمعتقدات الدينية، كالوحي، والنبوة، والعناية الإلهية،… إلخ. وفضلاً عن ذلك، كانت الفلسفة وقتئذ تنطوي ككل على رؤية للعالم تزعم أنها الأحق بالتبني، و تعمد إلى تفسير كل شئ في محيط الخبرة الإنسانية، بما في ذلك الخبرة الدينية. ربما كان الاستثناء الوحيد في ذلك هو » ابن رشد « Averroes ﴿1126– 1198م ﴾ الأندلسي، الذي جاء من عائلة مشهورة من فقهاء المالكية، والذي طبق الرؤية المالكية للقانون الإسلامي كقاضي، وإن اعتبر نفسه في النهاية وارثـًا لدثار أرسطو ( 14 )
ما نود قوله، أن النهضة العربية الإسلامية في مرحلة ازدهارها، كانت مدفوعة دومًا – ومحاطة برعاية – أرباب السلطة الدينية، وذلك على العكس من النهضة الأوربية التي حاربت طويلاً ضد سيطرة الكنيسة ورجال الدين!.
ثانيــًا: جدل الآخر وتثبيت الهوية كمقومات للنهضة
5 – بنظرة ثاقبة للمؤرخ، وصف » ريتشارد ساوثرن « R.Southern عملية الاكتساب والتكيف للعلم والفلسفة اليونانيين من قبل العرب والمسلمين بأنها » الحدث الأكثر دهشة في تاريخ الفكر« ( 15 )، هو حدثٌ مُدهش أو محير لأنه يصدمنا بما هو غير متوقع، والطريقة المثلى لتفسير ما هو غير متوقع هي محاولة فهمه، لا بالنظر إليه من الخارج، وإنما بالنفاذ إلى باطنه، وإدراك مغزى الخيارات التي قام بها صانعوا الحدث بما يوافق مواقعهم وأهدافهم.
على أن معظم مؤرخي النهضة العربية الإسلامية إنما كانوا ينظرون إليها من أحد منظورين، فإما أن نجد اهتمامًا بالنصوص العربية بهدف » استرداد « الأعمال اليونانية المفقودة وإعادة بناء مشاهد غامضة في الفكر اليوناني القديم، وإما أن يكون الاهتمام منصبًا على التأثيرات المختلفة لتلك النصوص العربية على تطور الفكر الأوربي الحديث !. والحق أن كلا المنظورين يتجاهلان النهضة كظاهرة للحضارة العربية الإسلامية في حد ذاتها، ومن ثم بدت تلك الحضارة – في كثير من الأحيان – كمَعْبَر سلبي فحسب لأفكار الآخرين، أو كحلقة وصل باهتة، تربط من خلال حركة الترجمة بين فكر إبداعي غربي قديم، وآخر حديث يُعد استكمالاً له، وهو ما لا ينطق به الواقع بحال من الأحوال ( 16 ).
[ 5 – 1 ] – وحين نتحدث عن الترجمة ينبغي ألا نغفل أو نتغافل عن أمرين: الأول هو مشروعية، بل وضرورة، التواصل الثقافي بين الأمم والحضارات بما يحقق مقولة التأثير والتأثر، فالنهضة العربية إبان العصر الوسيط – شأنها في ذلك شأن النهضة الأوربية في العصر الحديث – لم تبدأ من فراغ، إنما بدأ العرب من حيث انتهى أسلافهم اليونان وغيرهم، تمامًا كما بدأ الأوربيون من حيث انتهى أسلافهم العرب، وهو ما تمثل في جهود الترجمة الضخمة التي بـُذلت في رحاب الدولة الإسلامية المتسعة، والتي شملها البلاط العباسي في بغداد برعايته، لا سيما في عصر المأمون، الأمر الذي أدى إلى نقل جملة العلم والفلسفة اليونانيين، وكذلك عناصر التفكير العلمي الهندي والإيراني، إلى الأراضي الإسلامية. حقـًا لقد بدأت ترجمة المؤلفات المختلفة إلى العربية في وقتٍ مبكر، بل لقد سبقتها في الشرق الأوسط ترجمات أخرى من اليونانية إلى السيريانية والإيرانية، إلا أن العباسيين هم الذين صعّدوا من جهود الترجمة بعد ما تولوا مقاليد الأمور في منتصف القرن الثامن، وهم الذين نظموا وكثفوا إلى حدٍ بعيد من مساندتهم لهذه الجهود خلال القرن التاسع ( 17). ولا شك أن ما اتسمت به الدولة الإسلامية من امتداد مكاني، وما اتسم به حكامها من شغفٍ بتحصيل العلم والمعرفة بكافة أشكالهما، كان له تأثيره البالغ في تحقيق التواصل عبر عدة مراكز للترجمة، ففي عهد الأمويين (الذين حكموا من دمشق في الفترة من عام 661 إلى عام 750) شملت الإمبراطورية الإسلامية مناطق واسعة كان النفوذ الهيليني يبسط سيطرته عليها منذ زمن الإسكندر، بما في ذلك مصر، وسوريا، وإيران. وقبل القرن التاسع كان الحكم الإسلامي قد وصل إلى كشمير في الشرق وخوارزم في الشمال.
وفي العهد العباسي المبكر كانت الإدارة العليا للبلاط الحاكم في أيدي مدراء إيرانيين نالوا نفوذًا ورعاية كبيرة من الحكام العباسيين، وقد أخذ بعض هؤلاء على عاتقهم نقل الأعمال الإيرانية بصفة خاصة إلى العربية، ليمثلوا بذلك مجموعة العمل الأولى في الترجمة، في حين تمركزت مجموعتان أخريان في كل من سوريا والعراق وإيران، الأولى منهما كانت تشمل علماء الفيزياء واللاهوتيين المسيحيين، الذين واصلوا متابعتهم لاهتماماتهم بالمنطق والفلسفة اليونانيين في المدارس الرهبانية المبعثرة، أما الثانية فكانت مؤلفة من صابئة حران الوثنيين في مملكة العراق الشمالية ، والذين ربطتهم ديانتهم المتعلقة بالنجوم بكل من علم الفلك وعلم التنجيم الهيلينيين من جهة، وبالهرمسية * من جهة أخرى. ومن هاتين المجموعتين كان المدرسيون الذين استطاع العباسيون تجنيدهم للقيام بترجمة الأعمال الرياضية والفلسفية والطبية اليونانية إلى العربية، إما من ترجمات سيريانية موجودة من قبل، أو من اليونانية مباشرة (19).
والحق أن بقاء هذه المجموعات – المتأثرة بالهيلينية – خلال القرون الأولى من الحكم الإسلامي في الشرق الأوسط وآسيا، ورغم كونها مبعثرة ومحدودة في جاذبيتها، لم يكن مفيدًا للعرب فحسب، بل كان مفيدًا كذلك للأوربيين الذين بدأوا نهضتهم بالارتحال إلى حواف العالم الغربي المسيحي، لا لشيء إلا لاكتساب التعاليم اليونانية والعربية من أطراف العالم الإسلامي وعبر ح
[ 5 – 2 ] – أما الأمر الثاني فيما يتعلق بالترجمة فمؤداه أن تلقي الفكر الوافد – على جدته وتنوعه وقوته – لم يمنع العرب من فحصه ونقده والإضافة إليه، وهو ما نجده مثلاً لدى » ابن الهيثم « (965 – 1039 م) في » الشكوك على بطليموس « و » الشكوك على إقليدس «، إذ تشير كلمة » الشكوك « لديه إلى أنه لم يكن بمثابة المتلقي الإيجابي ( الساكن ) لنصوص اليونان، وإنما كان يمثل بالأحرى ذلك المتلقي السلبي ( الناقد ) الذي لا تبهره رؤية النص بقدر ما يكون غرضه الأساسي هو الوصول إلى الحق، وهو ما عبر عنه » ابن الهيثم « في مطلع مقاله الأول بقوله » الحق مطلوب لذاته… وطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين، والمسترسل مع طبعه في حسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم، المتوقف فيما يفهمه عنهم، المتبع الحجة والبرهان لا قول القائل الذي هو إنسان… « (20)
[ 5 – 3 ] – بعبارة أخرى نستطيع القول أن انتقال التراث الفكري القديم إلى الأراضي العربية الإسلامية لا يعني في الحقيقة أن الجسد الثقافي العربي قد تغذى على ما لا يلائم طبيعته، أو أن فترة نهضته لم تكن سوى فترة لاستقبال، وتخزين، ونقل منظومات فكرية غريبة عليه، بل على العكس من ذلك، فلقد انطوت حركة الترجمة على ما يمكن أن نصفه بالحوار العقلي المفتوح والحر مع الآخر، وهو حوارٌ كان من أهم أركانه تثبيت عناصر الهوية، وبعث قدرات العقل العربي على امتلاك نواصي الأفكار الوافدة، واتخاذها كوقود لإبداعات شتى، ومن ثم أثمر هذا الحوار تقليدًا علميًا – فلسفيًا جديدًا، وبلغة جديدة ( هي العربية )، بسطت بمقتضاهما الثقافة العربية الإسلامية شراعها على أجزاء كبيرة من العالم، ولفترات زمنية طويلة. وهكذا، فلم يكن » الكندي « – مثلاً – قادرًا على استيعاب وشرح العديد من جوانب العلم والفلسفة اليونانيين، بل لقد كتب أيضًا صراحة وبقوة ضد كافة أشكال التعصب الديني والانحصار الفكري. لقد كانت مهمته – كما فهمها هو، وكما صرح بذلك أيضـًا – هي العمل على » اكتمال نوعنا الإنساني «، وهو كأحد هؤلاء الذين عاشوا تحت مظلة الثقافة العربية، أدرك بوضوح دوره المباشر: أن يهدي إلى معاصريه القارئين بالعربية ( أهل لساننا ) تلك الحكمة اليونانية التي أسرته دون أن تفقده هويته الثقافية، وهو الدور الذي تكفل بإنجازه بتقديم عددٍ ضخم من التكييفات والشروح العربية الموجزة، مع إضافات تكميلية لعددٍ كبير من فروع العلم والفلسفة الوافدة. وربما كانت تلك مهمة مستحيلة، لكن الكندي تمكن من إنجازها بكفاءة وتفوق يثيرا الإعجاب.
وبإمكان المرء أيضًا أن يشير إلى الإنجاز المذهل لعلماء الفلك المسلمين – من » الطوسي « (1201 – 1274 م ) إلى » ابن الشاطر « (1304 – 1375 م ) – في بناء النماذج غير البطلمية للأجرام السماوية، والتي انطوت على تماثلات دقيقة لتلك التي ارتبطت باسم » كوبرنيكس« (1473– 1543)، واعتبرت واحدة من أكبر الثورات الفكرية في التاريخ ( 21 )
6 – هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن تسامح السلطة الدينية والسياسية إزاء دراسة علوم الأوائل، بل وتشجيعها لتلك الدراسة ببناء المدارس والكليات والمكتبات العامة، سوى دلالة واضحة على قدرة العقل العربي المسلم على تمثل الأفكار الوافدة، وتسخيرها في النهاية لخدمة الفكر الديني بمعتقداته وعباداته، ومن شواهد ذلك أن كثيرًا من فقهاء الشريعة كانوا يدرسون الفلسفة ومبادئ العلوم الطبيعية وبخاصة الطب، كما تم تطوير الرياضيات العليا ( بما في ذلك الجبر والهندسة وحساب المثلثات ) وتوظيفها بنجاح في الفلك بغية ضبط» المواقيت « في المساجد المحلية، بل وحتى المنطق كان يُعد من كثير من رجال الدين أداة ضرورية لموازنة الحجج في الحوار الفكري *،… إلخ (23)، الأمر الذي يدحض الدعاوى الغربية المتكررة بهامشية العلم والفلسفة في المجتمع العربي الإسلامي( 24).
ولا ننكر أن المعرفة الدينية كانت لها سطوتها بوصفها أسمى المعارف وأجدرها بالدراسة، وأن ثمة نزعة نفعية ( نجدها مثلاً لدى » الغزالي « (1058 – 1111 م ) و » ابن خلدون « ) اقتصرت بموجبها في النهاية دراسة العلوم المدنية كالمنطق والرياضيات والطب على ما فيه فقط مصلحة المسلم، وما لا يتعارض ومعتقداته الدينية الأساسية، لكن ذلك لا يعني أن هذه النزعة الأداتية كانت سببًا مباشرًا لتدهور الحضارة وأفولها، بل إن من يزعم ذلك فإنما يسيء فهم الدعوة القرآنية الصريحة لتحصيل العلم، ويتغافل عما أقرته مصادر التشريع من مكانة عالية لأرباب العلم والمعرفة، فالأحرى بنا إذن أن نقول أن تخلي العرب والمسلمين عن هويتهم الثقافية، وتغييبهم المتسارع للنظرة الدينية إزاء الإنسان والعالم، كانا بمثابة البداية لشيخوخة الحضارة وأفولها.
7 – خلاصة القول، أن ما حدث في التاريخ الإسلامي الوسيط كان في حقيقته عملية تمثيل ناجحة لعلوم الأوائل، انتهت بتطبيع كامل لكل من العلم والفلسفة الوافدين من جهة، والروح الدينية الإسلامية من جهة أخرى، بحيث يحق لنا النظر إلى الثلاثي المترابط: العلم والفلسفة والدين كمقولات أساسية لنهضة العقل العربي في طور ازدهاره. ويمكن تقسيم المراحل التي مرت بها هذه النهضة إلى ثلاث مراحل، تعقبها مرحلة الأفول بأبعادها المتشابكة والمعقدة، ففي المرحلة الأولى بدأت النهضة خطواتها الأولى بعملية الاكتساب النشطة للأفكار العلمية والفلسفية القديمة – واليونانية منها خصوصًا – من خلال الترجمة من اليونانية والسيريانية والإيرانية إلى العربية، حيث كان للمسيحيين والصابئة الدور الأكبر في ذلك.
ومن الملاحظ في هذا الصدد أن الفكر اليوناني قد دخل العالم الإسلامي وقتئذ، لا كقوة غازية منطلقة من حصن قوي في الإسكندرية، أو أنطاكيا ( غرب سوريا )، أو حران ( شمال العراق )، وإنما كضيف مدعو، ورغم الحذر المبكر من ذلك الفكر بسبب الدين، إلا أن الضيف سرعان ما أثبت أن له جاذبية لدى أصحاب البيت تتجاوز حدود الوعد بقدراته العملية، وهو ما تجلى خلال المرحلة الثانية في ظهور عدد من المفكرين الإسلاميين الأقوياء، الذين أخلصوا لوجهة النظر الهيلينية إزاء عالم المادة والفكر والقيم، بل والتزموا بها تمامًا، من أمثال » الفارابي « و » ابن سينا «، و» ابن الهيثم «، و» البيروني « (973 – 1048 م)، و » ابن رشد «. ومن السمات الهامة لهؤلاء أنهم كانوا على وعي تام بالمشكلات الناجمة عن التصادم بين معتقداتهم الدينية والمعتقدات الهيلينية، كما كانت لديهم القدرة على التحليل والانتقاء والفرز بما يتفق وتوجهاتهم الدينية.
أما المرحلة الثالثة فقد تم فيها هضم الفكر العلمي الفلسفي تمامًا، وبدأت الرؤى والمناقشات الفلسفية التي انطوت عليها كتابات » الفارابي « و » ابن سينا « وغيرهما في الانتقال إلى سياق علم الكلام ( البحث في العلاقة بين ذات الله وصفاته، وفي العالم كإبداع إلهي، وفي الإنسان كمخلوق خاص يدين لله بوضعه في هذا العالم )، حيث حل الفيزيائي الفقيه [ كما يمثله » ابن النفيس « ( 1210 – 1288 م ) ] محل الفيزيائي الفيلسوف [ كما يمثله » الرازي « (866 – 925 م ) ]، وحل العالم بحساب المواريث ( الفرائضي) محل الرياضي ( أو التعاليمي )، وحل الماهر بعلم المواقيت محل الفلكي الباحث في مواقع الكواكب والنجوم،… إلخ. والجدير بالذكر في هذه المرحلة أن حاملي المعرفة العلمية والطبية والتقنية لم يكونوا فحسب مسلمين بحكم الميلاد والعقيدة، بل كانوا أيضًا مشربين بالروح والتعاليم الإسلامية، لتبدأ بعدهم فترة ركود حضاري استمرت حتى يومنا هذا ( 25 ).
ثالثـاً: إحياء النهضة العربية: الحدود والآفاق
8 – في تحليله لمظاهر التحدي الصارخة التي واجهتها أوربا من قبل الحضارة العربية الإسلامية في العصر الوسيط، والتي أعقبتها سلسلة من الغزوات الصليبية للشرق المسلم – تطورت فيما بعد إلى استعمار كامل لأجزاء كبيرة منه – يصف » أرنولد توينبي « رد الفعل العربي المقابل بأنه قد تمثل في مظهرين لا ثالث لهما، الأول هو مظهر التزمت أو التقوقع على الذات بحثـًا عن السلوى في ازدهارات الماضي، وقد تجلى هذا المظهر في النزعة السلفية التي اتخذت من التشدد الديني درعًا لها في مواجهة العدوان؛ أما المظهر الثاني فهو مظهر التشكل ( الكاذب ) بسمات الحضارة الغربية كوسيلة لدرء الخطر، وهو ما تمثل في النزعات العلمانية التي ألقى دعاتها بهويتهم الدينية وموروثاتهم الثقافية خلف ظهورهم على أمل اللحاق بركب التقدم (26). ويُعلق » توينبي « على هاتين الاستجابتين بأنهما فاشلتان، ذلك أن الأولى لم تقدم طاقات خلاقة صادرة عن روح أصيلة، إنها لا تزيد عن راسب حضاري متحجر من حيث الطاقة الحيوية، أما الثانية فقد تنجح، لكن نجاحها براني لأنها لا تقدم إسهامًا إبداعيًا في تيار الحضارة القائمة، فهي عملية تقليد لا إبداع ( 27 ). وبعبارة أخرى يمكننا القول أنه إذا كان الفريق الأول ( المتزمتون ) عربيًا، فهو ليس بالمعاصر، وإذا كان الفريق الثاني ( المتشكلون ) معاصرًا، فهو ليس بالعربي ( 28 ) !.
9 – فإذا ما نظرنا إلى العالم العربي في ضوء محليته الراهنة لوجدنا أن مقولة » توينبي « لا زالت صادقة إلى حدٍ بعيد، وإن كانت قد اتخذت أبعادًا جديدة أكثر خطورة، فتيار التشكل يزداد اتساعًا على امتداد الوطن العربي دون استفادة من التجربة التركية الحديثة ( حيث أصبح التركي الآن كائنـًا لا هو بالشرقي ولا هو بالغربي، وبات يخاطب الأوربي – الرافض له – معاتبًا بكلمات من إنجيله: » زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تلطموا « (29) )، أما تيار التزمت فقد تقلص وحوصر داخليًا وخارجيًا، سياسيًا واقتصاديًا، وغدا الوصف الجاهز له هو الإرهاب الهادف إلى تقويض أسس الحضارة !.
هذه الأبعاد تزيد بلا شك من صعوبة الإجابة على سؤالنا المطروح في بداية المقال: هل من الممكن في ضوء محليتنا الراهنة قيام مشروع حضاري عربي معاصر يناظر المشروع الحضاري الضخم لأسلافنا ؟.
10 – على أن استقراء الماضي العربي الزاهر على أسس منطقية صحيحة من شأنه تذليل تلك الصعوبة: لقد كان الإشكال الفلسفي عند أسلافنا هو طريقة اللقاء بين أحكام الشريعة ومنطق العقل، وكان خيارهم الواضح في مواجهة التحدي الهيليني هو الحوار العقلي الحر والمفتوح مع الآخر من خلال الترجمة، وتـَمَثـُل علوم الأوائل دون التفريط في هويتهم الثقافية بصفة عامة، ونحن الآن نواجه الإشكال ذاته، وإن اتخذ صورة مغايرة تؤرق بالمثل فلاسفة الغرب الأوربي – الأمريكي، ألا وهي طريقة اللقاء بين الإنسان والعلم، بين القيم الدينية والخلقية والجمالية للموجود البشري، ومقتضيات العلم التي لا نستطيع تجاهلها. ولا سبيل إلى تجاوز هذا الإشكال إلا ببعث وإحياء برامج النهضة العربية الإسلامية بكافة عناصرها ومقولاتها، وأولها بالطبع انطلاق مشروع قومي ضخم لترجمة المؤلفات العلمية والفلسفية من كافة اللغات – وفي شتى المجالات – إلى العربية، على أن يترافق هذا المشروع مع دعمٍ لاستقلالية الجامعات ومراكز البحث من جهة، ودعم لمواردها من جهة أخرى، بحيث يتسنى لأعضائها حرية وإمكانية التصنيف والتحليل والانتقاء وتمييز الغث من السمين، ولدينا من الثروات المادية والبشرية ما يكفل لنا تحقيق ذلك، كما أن لدينا من المؤسسات الثقافية من هي مرشحة قبل غيرها للبدء بمشروع الترجمة بحكم إمكاناتها وخبرات القائمين عليها، مثل مكتبة الإسكندرية الجديدة، والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ( الإيسيسكو ).
ولن يتسنى لنا ذلك إلا بإصلاحات إعلامية وتعليمية واقتصادية وسياسية تنبع من داخلنا قبل أن تـُفرض علينا من منظورات محلية أخرى، إصلاحات إعلامية وتعليمية تحفظ للعربي هويته الثقافية ( اللغوية والدينية والأخلاقية والتاريخية ) التي باتت تهددها غزوات فكرية متلاحقة لا مناص منها في عصر العولمة: عصر السماوات المفتوحة وتكنولوجيا المعلومات؛ وإصلاحات اقتصادية تنتشل مجتمعاتنا من أزماتها اللاعقلانية ذات الخطى المتسارعة، والتي تغذيها قراءات مغلوطة لحاجاتنا الملحة، ولمواطن القوة والضعف في برامجنا الإنتاجية والاستهلاكية، وأخيرًا إصلاحات سياسية تعيد للمواطن العربي كرامته في وطنه فيحترمه العالم مثلما يحترم الآخرين. حينئذ فقط نستطيع الحديث عن نهضة عربية واعدة، ولتكن الحكمة موئلنا في الأوقات الراهنة، فالحكمة تـُلتمس في أحلك اللحظات، أو كما قال » هيجل « (1770 – 1831 م ): » إن بومة مينرفا لا تحلق إلا عند الغسق «.
وعلى الله قصد السبيل والله أعلم
المراجع
أولاً: المراجع العربية
1. أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، 1975.
2. توبي أ. هاف: فجر العلم الحديث: الإسلام – الصين – الغرب، ترجمة أحمد محمود صبحي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 219، جـ 1، مارس 1997.
3. زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي، طـ 7، دار الشروق، القاهرة، 1982.
4. قدري حافظ طوقان: العلوم عند العرب، ط 2، دار اقرأ، بيروت، 1983.
5. ماهر عبد القادر محمد: الحسن بن الهيثم وتأسيس فلسفة العلم، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1997.
6. مجمع اللغة العربية: المعجم الفلسفي، تصدير إبراهيم بيومي مدكور، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، 1983.
7. محمد كمال الدين عز الدين: العلوم الطبيعية عند العرب في العصور الوسطى، مكتبة دار التأليف، القاهرة، بدون تاريخ.
8. وليم فولبرايت: غطرسة القوة، ترجمة محمود شكري العدوي، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، بدون تاريخ.
ثانياً: المراجع الإنجليزية
1. Arnaldez , R. & Massignon, L., “Arabic Science ”, in Taton, René (ed.), “History of Science: Ancient and Medieval Science, from the Beginnings to 1450”, Trans. By A. J. Pomerans, Basic, N. Y., 1963, Vol. 3, Ch. 2, pp. 385 – 421.
2. Sabra, A. I., “Avicenna on the Subject Matter of Logic”, The Journal of Philosophy, Inc., 1980, pp. 746 – 764.
3. -----------------, “The Appropriation and Subseq- uent , Naturalization of Greek Science in Medieval Islam : A preliminary statement”, History of Science, Vol. 25, Part 3, No. 69, September 1987, pp. 223 – 243.
4. -----------------, “Science and Philosophy in Medieval Islamic Theology: the Evidence of the Fourteenth Century”, Zeitschrift für geschichte der arabisch – islamischen wissenschaften, Sonderdruch, Band 9, 1994, pp. 1 – 42.
5. -----------------, “Situating Arabic Science: Locality versus Essence”, Isis, 87, 1996, pp. 654 – 670 .
6. Southern, R. W., “Western Views of Islam in the Middle Ages”, Harvard University press, Mass., London, 1978.
7. Spengler, O., “The Decline of the West”, Trans. into English by Charles Francis Atkinson, Allen & Unwin, London, 1959.
8. Walzer , Richard , “ Islamic Philosophy ” , In “ Greek into Arabic : Essays on Islamic Philosophy ” , Bruno Cassirer , Oxford , 1962 , pp. 1 – 28.
الرد على هذا المقال