الحوار التلفزيوني الوحيد مع مارتن هايدجر...(الجزء الاول)

الحوار التلفزيوني الوحيد مع مارتن هايدجر:
لاتوجد إلا مقابلة تلفزيونية واحدة مع مارتن هايدجر الذي كان متحفظا الى أبعد الحدود مع الشاشة الصغيرة.وقد أعطى هذه المقابلة عشية عيد مولده الثمانيين ،لسيد ريتشا رد قيسر –أستاذ الفلسفة بجامعة ماينس-وفي هذه المناسبة ،تعمد أن يلقي كلمة الفصل حول فلسفته.ونحن نقدم هذا التسجيل قناعة منا ،رغم تعددية المواقف من هايدجر ،والتصريحات عنه ،بأنه هو بالذات،من يعرف أن يقنع بالطريقة الاكثر أقناعا ،مالذي شغله طوال حياته.
نص المقابلة مع مارتن هايدجر
_قيسر:حضرة الاستاذ هايدجر،في أيامنا هذه يسمع المزيد من الاصوات،وهذه الاصوات،تصبح ملحة أكثر فأكثر إنها تؤكد على أن المهمة الحاسمة في الوقت الراهن هي تغييير العلاقات الاجتماعية وترى في هذا التغيير المنطلق الوحيد الذي يعول عليه في المستقبل .
ماموقفك تجاه توجه كهذا، لما يسمى ب"روح العصر"،في مايخص الاصلاح الجامعي ،على سبيل المثال؟
هايدجر:لن أجيب على السؤال الأخير ،لأن ما سألته أولا هو موضوع رحب جدا،والجواب الذي أعطيك إياه هو ذاك الذي أعطيك إياه وهو الذي أعطيته منذ أربعين عاما ،في محاضرتي الافتتاحية بفريبورغ عام1929.
أستشهد لك بمقطع من المحاضرة"ماالميتافزيقا":((مجالات العلوم متباعدة كثيرا فيما بينها،والطرق التي تعالج بها موصوعاتها مختلفة بشكل أساسي ،هذه المناحي المتعددة والمتفرقة ،لا تصمد الأن معا إلا بفصل التنصيم الاختصاصي للجامعات والكليات ،التنضيم الذي لا يحتفض بدلالته إلا بفضل الغائية التطبيقية لهذه المباحث .
وفي المقابل ،لم تعد العلوم متجذرة في جوهرها الاساسي)).
أظن أن هذا الجواب لابد كافي .
_ قيسر:هناك مبررات شديدة الاختلاف ،أدت الى المحاولات المعاصرة الرامية الى التواصل،على المستوى الاجتماعي ،أو على مستوى العلاقات الانسانية المتبادلة ،الى إعادة توجيه للغائيات و "إعادة بنية "للمعطيات الحاصلة ،بالطبع،كان للفلسفة في ذلك ،أثار جمة إن خيرا،أو شرا.
فهل ترى للفلسفة رسالة إجتماعية ؟
هايدجر:كلا:-بهذها المعنى ،لايمكن التحدث عن رسالة إجتماعية.
وإذا أردناالأجابة عن هذا السؤال ،يجب قبل كل شئ أن نتسأل "ماالمجتمع؟"وفي صننا أن مجتمع اليوم ليس الاأطلاقية الذاتية الحديثة ، ومن هنا فأن كل فلسفة تخطت وجهت النظر الذاتية ليس لها حق إبداء الرأي .
أما أن نعرف الى أي حد يمكن حقا ،أن نتحدث عن تغيير للمجتمع،فهذه مسألة تغيير العالم تذكرنا بعبارة يكثر ترددها في كتاب "أطروحات فويرباخ"لكارل ماركس.أود أن أوردها وأن أقرأها فيما يلي :(الفلاسفة فقط فسروا العالم بطرق مختلفة ،المهم أن نغيره).
عندما نورد هذه العبارة ونطبقها فإنه يفوتنا أن (ندرك)أن أي تغيير للعالم يفترض تغيير ا في تصور العالم ،وأن أي تصور للعالم لا يمكن أن يحصل عليه إلا بواسطة تفسير واف للعالم.
هذا يعني أن ماركس يرتكز الى تفسير محدد تماما للعالم حتى يتطلب "تغييره" مما يبرهن أن هذه العبارة غير مثبتة ،تعطي إنطباعا بأنها مقررة بشكل قاطع ضد الفلسفة ،بينما في القسم الثاني من العبارة ،هناك إفتراض لضرورة الفلسفة ،بصورة ضمنية .
قيسر:بأي طريقة تستطيع فلسفتك أن تكون فاعلة اليوم حيال مجتمع قائم ،بما له مهام عديدة وهموم،ومخاوف و أمال ؟أم يصدق من ناقديك من يدعون أن مارتن هايدجر يهتم"بالكينونة"بطريقة حصرية الى درجة أنه يضحي بالوضع الانساني ،بكينونة الانسان في المجتمع بإعتباره شخصا.
هايدجر:يقع هذا النقد في سوء فهم كبير لإن مشكلة الكينونة ،وتطور هذه المشكلة،يفترضان،تفسيرا للكائن الموجود هنا أي الدازين،أعني :تحديدا لجوهر الانسان،والفكرة التي بني تفكيري عليها بالتحديد ،أن الكينونة أو إمكانية إستكشاف الكينونة،بحاجة الى الانسان ،و العكس بالعكس ،إن الانسان هو إنسان فقط بقدر مايحقق إمكانية إستكشاف الكينونة .
من هنا يجب أن تسوى المسألة المتعلقة بمعرفة إلى أي أي حد أنا لا أهتم بالكينونة ،مغفلا الانسان ،فلا يمكن طرح السؤال عن جوهر الانسان .
قيسر: قال نيتشه مرة ،إن الفيلسوف هو بثابة الوجدان الشقي لعصره ،وماذا كان يعني نيتشه بذلك.
إلا أننا إذا أخذنا بعين الاعتبار ،محاولتك لأن ترى التاريخ الفلسفي الماضي بمثابة تاريخ للأنحطاط نسبة الى الكينونة ،ومحاولتك بالتالي "لهدمه"فقد يمكن لاكثر من واحد أن يسمى مار تن هايدجر بالوجدان الشقي للفلسفة الغربية.
علام تقوم ،في رأيك ،العلامة ،لكي لا نقول الاية الاكثر تمييزا ،لما تسميه "نسيان الكينونة "و "هجران الكينونة".
هايدجر:أولا،يجب أن أصحح وجها من وجوه سؤالك،إذ تتحدث عن "تاريخ الانحطاط"فهذه العبارة لم تستعمل بالمعنى السلبي .
أنا لاأتحدث عن تاريخ الانحطاط ، ولكن فقط عن مصير الكينونة ،بقدر ما ينأى تدريجيا عن إمكانية إستكشاف الكينونة لدى الاغريقيين حتى ينتهي به الامر الى أن تضحى الكينونة مجرد معطى للسيطرة التقنية .
على العالم .نرانا إذا لا ضمن تاريخ للإنحطاط ،بل ضمن إنتقاء الكينونة.
فالعلامة الاكثر تمييزا لنسيان الكينونة-ويجب أن نتناول النسيان دائما هنا ،إنطلاقا من اليونانية ()،أي أن الكينونة تنتزح – إذا تنتفي ، العلامة الاكثر تمييزا للمصير الذي هو مصيرنا ،هي بقدر ماتوصلت إليه –إن سؤال الكينونة،كما طرحته لم يفهم بعد.
(العلم لايفكر).
قيسر :هناك أملران تضعهما دائما موضع الشك،وتشدد فيهما على الطابع المريب :الادعاء بسيطرة العلم،وطريقتك لتصور التقنية ،لاترى فيها إلا وسيلة نافعة للوصول بطريقة أسرع الى الغاية النشودة بأحترام ، وفي زماننا بالتحديد،حيث معظم الناس ينتظرون الكثير من العلم ،وحيث تتحقق لهم القناعة بواسطة إرسالات تلفزيونية عالمية ،وحتى فضائية ،إن الانسان لا بد أن يبلغ بالتقنية ما يبتغييه، في هذا الزمان ،تثير أفكارك عن العلم وعن جوهر التقنية بعض الاحجيات لكثير من الناس .
ماذا تعني أولا حين تؤكد أن العلم لايفكر ؟
هايدجر :فلنبدأأولا بالأحجيات:أرى أنها مفيدة تماما ،فمازال هناك القليل من هذه الاحجيات اليوم في العالم ،مع غياب كبير للأفكار ،هو بالتحديد نسيان الكينونة.
وهذه الجملة :العلم لايفكر،التي أحدثت ضجة كبيرة حين ألتقيتها في إطار محاضرة في فريبورغ ،نعني أن العلم لايتحرك في البعد الفلسفي ،ولكنه دون أن يعي فإنه يحتاج الى هذا البعد.
فالفيزياء ،مثلا ،تتحرك في المكان والزمان والحركة ،ولكن العلم بماهو علم ، لا يستطيع أن يجزم فيما تكون الحركة أو مايكون الزمان والمكان،العلم إذا لايفكر ،ولايقدر بهذا المعنى أن يفكر إذ ما ضل يستخدم مناهجه .
لا أستطيع أن أقول مثلا ،بإستخدام مناهج الفيزياء ،ماهي الفيزياء ،ماهية الفيزياء ،لا أستطيع أن أعقلها بطريقة تسأول فلسفي .وجملة العلم لا يفكر ،ليست مأخذا،بل هي مجرد ملا حظة للبنية الداخلية للعلم :فمن صفات جوهره أنه من جهة أخرى ،ينسى ذاته ،ويهمل تلك التي تفكر له. قيسر:وماذا تعني حين تقول ،مجددا،إن هناك خطرا أكبر من خطر القنبلة الذرية ،وهو بالنسبة إلى الانسانية اليوم خطر "القانون –القاعدة" وخاصيتها التي هي السمة الاساسية للتقنية كما تسمونها ،إنها تكشف الواقع كما لو أنها توجه أمرا بعبارات أخرى :أن نعمل بحيث أن كل شئ وكل أمرئ يمكن أن ينادي بكبسة زر؟
هايدجر :فيما يخص التقنية ، إن تحديدي لجوهر التقنية الذي لم يقبل حتى الأن في أي مكان ،هو _لكي يقال بعبارات صحيحة – إن العلوم الطبيعية الحديثة يقوم أساسها في تطور جوهر التقنية الحديثة وليس العكس.
لابد من القول مبدائيا أنني لست ضد التقنية ،ولم أتكلم قط ضد التقنية ،إلا ضد مايسمى بالوجه "الشيطاني"للتقنية ،إنما أحاول فهم جوهر التقنية .
حينما تثير هذه الفكرة عن الخطر الذي تمثله القنبلة الذرية ،والخطر الاكبر الذي تمثله التقنية ،فأنني أتأمل فيما ينشأ اليوم نحت أسم الفيزياء الأحيائية ،في أننا ،لوقت منظور ،سنكون قادرين على صنع الإنسان ،أي تركيبه في جوهره العضوي ذاته،تبعا لحاجتنا :أناسا بارعين ،أو عديمي المهارة أذكياء أو أغبياء .هذا ماسنتوصل إليه .
إن الامكانات التقنية ،بلغت أوجها اليوم ،وقد كانت موضع تداول من قبل بعض الحائزين على جائزة نوبل ضمن ندوة عقدت في لندو –وقد سبق لي أن تحدثت عن ذلك في محاضرة ألقيتها في مسكيرش منذ سنوات.
إذن:قبل كل شئ يجب دحض إساءة الفهم التي تصعني ضد التقنية .
في التقنية و أعني ،في جوهرها ،أرى أن الإنسان يقع تحت سيف قوة تتحداه ولن يكون حرا إزاءها –أرى أن شيئا مايبرز هنا ،أعني علاقة بين الكينونة والانسان – و أن هذه العلاقة ، التي تتخفى في جوهر التقنية ،يمكن أن تتجلى يوما ما بكل وضوحها .
لست أدري إذا كان ذلك سيحصل ،ومع ذلك أرى في جوهر التقنية ،التجلي الأول لسر أعمق بكثير أسميه" الحدث " –ويمكن أن نستنتج من ذلك أن القضية ليست على الاطلاق ،قضية مقاومة أو إدانة للتقنية ،ولكن المطلوب أن نفهم جوهر التقنية والعالم التقني ،وعندي أن هذا لا يمكن أن يتم مادمنا نتحرك ،في مجال الفلسفة ،ضمن العلاقة بين الذات والموضوع .وهذا يعني أن جوهر التقنية لا يمكن أن يفهم أنطلاقا من الماركسية .
......يتبع.