تحولات الجسد

الجسد دلالة ايقونية على الروح التي يتضمنها ورغم قدريته وهو يحتوي هذا العنصر المفارق لطبيعته لكنه احياناً في لحظات التمرد القصوى يكون مستعداً للانطفاء في ذاكرة الموت كالقوس الذي يمد نفسه الى اقصاها ويتحول الى امكانية اصابة،




حينئذ تكون هذه الاصابة نوعا من التماهي بين قوتين، الجسد في كثافته والروح في الحرية التي تنهض على اشلائها، الجسد هو ارض تنطلق منها نبتة الروح .. تنمو على وقع خطى خلود ممكن في لعبة الالهة.
وعندما تأخذ كفايتها من استراحتها الجبرية في كثافة الوجود المعطى ، تنطلق الروح الى لامكان يحيط نفسه بغموض هو غموض العالم كله .
والانسان في علاقته المحتدمة بالتوجسات في الوجود لايجد في ذاته اي عنصر مختلف اللهم الا هذه الروح التي تزعجه برغبتها الدائمة المتكررة في الخروج من تكرار الدور حينئذ يدفع الجسد ثمن هذه الرغبات ولاستحقاقات التي قطعها على نفسه بان يستضيف الامانة التي اعتذرت السماوات والارض عن حملها.
والجسد الانساني ليس هو سوى هذه الامكانية المستمرة في ان يضم بين اوراقه عنصرا مختلفا في طبيعته متلاحما معه في نسيج (التكوين).
ولهذا كانت قدرة الانسان على ان يكون الهياً وليس(الهاً) كما يريد ادونيس فبدون هذه العلائقية بين الجسد والروح يكون الانسان مجرد تمثال يوضع في الساحات العامة نجره عند الحاجة!
الذات احياناً في لحظات تأزمها الكبرى ، في خياراتها المقلقة تقدم الجسد قرباناً لالهة التأريخ.
انها تخسر الكثافة ولكنها تربح الحضور المختلف الذي أنشئت في الاصل حتى تتلاقى معه في رحلة الغيب الدامية وهكذا الابطال.. يعطون الجسد هدية الى الممكن التاريخي في عملية استبدال رمزي بالممكن الزمني.
ولهذااعطى الحلاج جسده لصليب المساومات لانه لم يجد الفرصة لانتزاع روحه هذا الوثن الضاج بالحاجات المتكررة.
الجسد هو السجن الذي يتضمن الذات لدى السهروردي ولكنه الجنة التي يتمتع بها الباحث عن دور البطولة في ملهاة (الواقع) ولهذا يضطر الابطال التاريخيون دائماً الى التنازل طوعاً عن اجسادهم.. عن رؤوسهم المثقلة بالاختلاف عندما يبصرون ثمة تضاد بين ما هو داخلي يتشكل بضوء الحلم وبين ماهو خارجي حسي مضاد لنقاء اللون المسافر في ذاكرة الريشة.
الجسد هنا يكون نوعا من القربان، اضحية يتقدمون بها الى خلود التأريخ ثم ان الموت فوق خشبة الزمن لايكون موتاً انه نوع من الامتطاء لجواد ولكنه مصنوع من خشب الكبرياء.
الجسد هو قدرتنا على رؤية صيرورة الكون والتطابق مع هدفيته وهو الذي يدفع الثمن عندما نخطئ في التعبير عن انفسنا او المجازفة بمصيرها.
اليس اوديب هو المثال الحي عندما فقأ عينيه احتجاجاً على ممارسة اثمة ولو كان سوفو كليس معاصراً لنا لاستطاع ان يوظف الجسد وحده في بحثه عن الخلاص ولكان دور الكلام ثانوياً وهذا ما انجزه نسبياً (ارتو) في استبداله حسية اللغة بأهمية الفضاء المسرحي، انه يحول ممثليه الى نوع من التماثيل الحجرية التي هي بالنسبة اليه الجسد في اقصى حالات تحققه بعد ذلك قام (بارو) بتطوير مفهوم تقنية الجسد ليصبح كل ماهو اصيل منتمياً الى نوع من القداسة وفي هذا اجابات مهمة عن بعض الاشكاليات النظرية لمفهوم المقدس كما تطرحه بعض الايديولوجيات العربية.
اما (غروتوفسكي) في مسرحه الفقير فانه يلغي العناصر المكونة للعرض المسرحي ويعتمد على فضاء تجريدي للمسرح وقدرة الممثل على الانجاز.
وحتى في الاعمال المرتجلة يتفق بعض الممثلين على فكرة معينة ومن ثم يقدمونها في الشوارع تجارب سعدي يونس في العراق مثلاً وهو امر يكرس حضور الجسد في العرض المسرحي ويهمش العناصر السينوغرافية الاخرى..
الم يقل (بارت كوت) بأن الجسد هو العلاقة الكبرى في سيمياء العرض المسرحي.
على صعيد النحت.. الجسد هو محاولة الانسان للوصول الى نوع من تأليه الجهد عندما يداهم الفنان الاحساس بأنه انجز شيئاً له فرادة الشكل الانساني ، ولهذا ضرب مايكل انجلو التمثال الذي صنعه في لحظة انبهار طالباً منه ان يتكلم ،ولكن مايكل انجلو نسي ان الالهة الكبار هم وحدهم قادرون على ان يجعلوا من تماثيلهم المهشمة قادرة على الكلام في ليل احزانها الطويل.
في الاوبرا استثمر الفنان كل طاقة الجسد في ان يعطي مايفوق قدرته فكانت الاوبرا نشيدا متواصلا لتمجيد الانسان في حركته العمودية لصنع الجمال.
الجسد هو نقطة ضعف الانسان وقوته، يكون قوياً عندما يتناص مع ذروته ولكنه في لحظات المساومات الكبرى يستغل الطغاة المهرة هشاشة الجسد وعدم قدرته على ان يعبأ بالم متواصل فيثقبون امكانيته على البقاء عندها يفقد الانسان السيطرة على الجسد المصنوع من حلمه بالبقاء ويضيع في دائرة.
انه يسقط في النهاية.. ولكنه سقوط مدو يكشف عورة الاخرين الذين يحاولون هتك احلامنا ،اليس الموت هنا خدمة تحرمنا منها الحياة كما يقول افلاطون.
البعض يسقط كالاشجار
والاخر كالاقمار يغيب بين دفتي كتاب الغيم.
والبعض الاخر كالسماء تتلاشى في افق الله!