الفن بن المح)اكاة والإبداع

الفن بين المحاكاة والإبداع
الأستاذ : سفيان عمران

للفن علاقة وطيدة بالإنسان ـ كما يرتسم في ثنايا التاريخ ـ ؛ فالإنسان المتوحش فنان والمتحضر فنان وكلاهما عبد للجمال ، وممارسة العبادة تعد فنا ، فمن تعريفات الفن المختلفة نجد أن : الفن هو المنتوج التعبيري الذي يفرزه الإنسان من حيث كونه كائنا حيا فاعلا و منفعلا، والهدف هو إثارة الشعور بالجمال في النحت ، النقش، العمارة الموسيقى ، الرقص ، الشعر وغيرها(...) ، هذا المنتوج الذي يمتلك ماهية تعبر عنه توقف الفلاسفة عندها في صورة جدل فمنهم من يرى أن هذا المنتوج الفني ما هو إلا محاكاة للطبيعة ، بينما يرى جملة أخرى أن هذا المنتوج إبداع يعبر عن تفرد شخصية الفنان وفي ظل هذا الجدل نتساءل :
هل الفن مجرد محاكاة للطبيعة أم إبداع ؟
أولا . الفن محاكاة :
1. في مفهوم المحاكاة : Imitation
ا. لغة :
جــاء في :"لسان العرب" لــ: (ابن منظور) أن المحاكاة من حَكيَ الحكاية ، وحكيت فلانا وحاكيته أي : فعلت مثله أو قلت مثله ، وأَحكيت العقدة :أي شددتها (1) ، أما في اللغات الأجنبية ، فإن لفظ المحاكاة استمد من المصطلح الإغريقي Mimesis الذي يترجم في الانجليزية إلى Imitation وهي يساوي عموما : التقليد والمشابهة (2) .

ب. في الاصطلاح :
المحاكاة عموما تطلق على التقليد والمشابهة في القول او الفعل أو غيرهما (3) ، وهي على وجه الخصوص تعني : إحدى طرق التمويه Camouflage ، التي تلجأ إليها جملة من الحيوانات في حالة الدفاع أو لخداع فريتها في حالة الهجوم (4) .
وفي الفلسفة : لا تبتعد المحاكاة عن باقي التعاريف ، فهذا الفيلسوف الإسلامي (ابن سينا ) يعرفها على أنها : إيراد مثل الشيء وليس هوهو (5) ، أي أن المحاكاة الترديد لموضوعات التجربة المعتادة لدى الإنسان .
2. الفنان يحاكي الطبيعة :
يرى جملة من الفلاسفة أن الفنان عندما يرسم لوحة ، أو ينظم قصيدة شعرية ، أو ينقش صخرا ، إنما هو يحاكي ما هو موجود في الطبيعة ، وأشهر الفلاسفة الذين أكدوا ذلك نجد الفيلسوف اليوناني (أفلاطون) Platon الذي اعتبر أن الفن يمتلك فعلا وظيفة حقيقة تعزى إليه ألا وهي المحاكاة ، وما على الفنان إلا أن يدير المرآة في جميع الاتجاهات فيعكس ما يدركه كما تعكس المرآة الأشياء ، لان هذا الفنان في انتاجاته يعكس خيال الأشياء لا جوهرها (6) قال (أفلاطون) :" إن الشاعر أو المصور يستطيع أن يخلق كل النباتات والحيوان ونفسه ، والسماء والآلهة ، فكل ما يحتاجه هو أن يأخذ المرآة ويديرها في كل الاتجاهات " (7) .
ومن أمثلة ذلك : الرسام الذي يرسم سريرا إنما يحاكي السرير الذي صنعه النجار ، الذي بدوره حاكى صورة السرير وبهذا فهو يحاكي المطهر لا الجوهر .
قال (فرانسوا شاتلي) F.Chatlli :"والسرير هو المثل الذي يضربه (أفلاطون) في الجمهورية ؛ إذ يبين بوضوح هذه المحاكاة ، فوراء كثرة الأسرة مثال واحد للسرير ، والذي يصنع السرير ينظر إلى مثال السرير قبل كل شيء فهو يحاكي المثال ، أما المصور فهو يصنع أيضا سريرا ، ولكن هذا السرير هو محاكاة سرير النجار الذي هو بدوره محاكاة لمثال السرير " (8) .
إذن فــ : (أفلاطون) يرى أن الفن تقليد للطبيعة ، والفنان يقلدها فيحسنها ، والطبيعة الحية في نظره ما هي إلا مجموعة أشباح وظلال كاذبة لعالم المعقول ، فأصبح بذلك عمل الفنان تقليد التقليد ، ان الفن :" محاكاة المحاكاة" (9) .

تعقيب :
إن المحاكاة الحرفية للطبيعة لا تخلق فنا ذلك ان الفن عالم قائم بذاته له قوانينيه الخاصة ، إنه عالم بديل لعالم الواقع ينشئه الفنان المبدع بعد أن يكتسب القدرة والوسيلة التي تعينه على إبداع العالم (10) .
قال المفكر والأديب الفرنسي (اندريه مــالرو) A.Marlo في كتابه :"أصوات الفن " :" لا يشغف الفنان بغناء الطيور قدر شغفه بالموسيقى ولا يعجب الشاعر بغروب الشمس، قدر إعجابه بقصائد الشعراء عن هذا الغروب " (11) .
ومعنى هذا أن الفنان لي فنان لمحاكاته أصوات الطبيعة ، بل لقدرته على التعبير عن تلك الموجودات ، ومن ثم الإبداع .
ثانيا . الفن إبداع :
1. في مفهوم الإبداع : Creation
أ‌. لغة:
الإبداع في اللغة إحداث شيء على غير مثال سابق ، وعند البلغاء اشتمال الكلام على عدة ضروب من البديع (12) .
ب‌. اصطلاحا :
الإبداع في الفلسفة:
هو تأسيس الشيء عن الشيء ، أي تأليف شيء من عناصر موجودة من قبل ، فهناك الإبداع الفني، والعلمي ومنه التخيل المبدع في علم النفس .
ومن التعريفات كذلك : إيجاد شيء من لا شيء كإبداع الله سبحانه وتعالى ، فهو لي تركيب ولا تأليف وإنما هو إخراج من عدم (13) .

2. الفن إبداع لا محاكاة :
يرى جملة من الفلاسفة أن الفنان الأصيل يرغب في أن يكون نسيجا فنيا جديدا يعبر عن الأصالة لا التمثيل وإدراك مضمون الفكرة لا شكلها ،باستعمال عقله الفعال ؛ ومن وحي هذا القبيل قال الفيلسوف الألماني (فريديريك هيجل) F.Higel :" تكمن أصالة الكاتب الحقيقية ، وكذلك أصالة المؤلف والفني ، في أن الكاتب والمؤلف والفنان بوجه عام ينبضون بمعقولية المضمون الحقيقي في ذاته " (14) .
واعتبار لهذا فالإنسان يبدع من عنده أَشكالا وصورا للجمال ،متساميا على الطبيعة الواقعية (15) ، إذن فالفن الحقيقي هو الذي يحاول ان يتسامى فوق معطيات الواقع الفجة ، متعاليا على الطبيعة ، فيرفض التقليد والمحاكاة (16) .
إن المحاكاة عند (هيجل) لا جدوى منها ، لأنها تقدم لنا ما تعارفنا عليه ، وخبرناه ، لا تأتي بجديد ، تقدم حيوانات مناظر طبيعية ، أحداث إنسانية ، وما ذا نفعل بها إذن (...) ؟ قال (هيجل) في كتابه :" المدخل إلى علم الجمال" : " ما حاجتنا أن نرى في لوحات ، أو على خشبة المسرح حيوانات او مناظر أو أحداث إنسانية سبق لنا أن عرفناها على اعتبار اننا رأيناها أو نراها في حدائقناّ، أو في بيوتنا أو أننا نسمع عنها في أحوال معينة " (17)، واعتبار لهذا فالفن الحق ـ حسب هيجل ـ هو الذي يتجسد في الفكرة والمضمون لا الشكل الخالص ، وعلى الفنان الا يحاكي ، بل يفكر مليا ويتامل بعمق في الفكرة التي يجدها من خلال العمل الفني المبدع (18 ) .
تعقيب :
إن الفنان لي بامكانه ان يبدع دون خبرة كبير بالوسيط المادي ، دون الرجوع الى ما هو موجود في الطبيعة فيحاكيه ، ومن ثم يزيد عليه ، فيخرج عمله الفني .
ثالثا . الفن بين المحاكاة والإبداع :
إن العمل الفني لا يتم في الغالب دون التعامل مع الواقع المادي ، فالفنان لا يبدع من عدم ، وإلا أصبح خالقا ، والواقع يجعل الفنان يعيد النظر في تصويره للأعمال ، أو يبدأ العمل في اتجاه جديد ، وقد يوحي للفنان بأفكار جديدة لم تخطر بباله ، ذلك إن الطبيعة غنية بمجموعة من الأشكال والأصوات من شأنها أن تدفع الفنان لمحاكاتها ، ومن ثم إبداع أعمال جديد ة تؤكد تسامي الإنسان ، من قوة شخصيته وتفردهها ، وفي الأخير إن الفن فيه ما هو محاكي لمعطيات الواقع والطبيعة ، وفيه ما هو مبدع يؤكد تفرد شخصية الفنان .
(1) ابن منظور : لسان العرب ، المجلد 14 ، دار صادر ، بيروت ، ط 3 ، 1994 ، ص 19.
(2) جيروم ستونليتز : النقد الفني (دراسة جمالية وفلسفية) ترجمة : فؤاد زكرياء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط2 ، 1981، ص15.
(3) جميل صليبا : المعجم الفلسفي ، الجزء 2 ، دار الكتاب اللبناني ، د ط ، دس ، ص 349.
(4) مراد وهبة ، يوسف شلالة ، يوسف كرم ، المعجم الفلسفي ، القاهرة ، ط2 ، 1971، ص209.
(5) ألفت محمد كمال عبد العزيز : نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين ، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب ، مصر د ط ، 1984، ص 83.
(6) هديل بسام زكارنة : المدخل إلى علم الجمال ، المكتبة الوطنية ، عمان ، د ط ، د س ، ص 57.
(7) المرجع نفسه ، ص 10 .
(8) فتحي التريكي ، أفلاطون والديالكتيكية ، الدار التونسية للنشر ، تونس ، د ط ، 1985 ، ص 55-56.
(9) محمد علي أبو ريان : فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، د ط ، د ،ّ ص 12.
(10) أميرة حلمي مطر :فلفة الجمال ، دار المعارف ، القاهرة ، د ط ، د س ، ص 8.
(11) المرجع نفسه ، ص 09.
(12) جميل صليبا : المرجع نفسه ، ص 31.
(13) المرجع نفسه : 31.
(14) مصطفى عبده : فلسفة الجمال ودور العقل في الإبداع ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، ط 12 ، 1997 ، ص 58.
(15) محمد علي أبو ريان : مرجع نفسه ، ص 44.
(16) راوية عبد المنعم عباس : القيم الجمالية ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، د ط ، 1987، ص 148 .
(17) فريديريك هيجل : المدخل إلى علم الجمال ، ترجمة : جورج طرابيشي ، دار الطليعة ، بيروت ، ط1 ، د ، ص 37
(18) هديل بسام زكارنة : المرجع نفسه ، ص 43. .

» العبقرية .... بين الإلهام والإبداع.
» الفن في الحضارة الاسلامية
» الفن الإسلامي الوسيط ... مقاربة نقدية لتصور الذات والمعقولية