عندما نشر غادامير كتابه "الحقيقة والمنهج " سنة 1960 ربما لم يكن يتوقع انه سيصبح في مدة زمنية قصيرة محل اهتمام ودراسة ونقد، فقد أثار استخدامه لكلمة "التأويل " Herm eneudque جدلا واسعا داخل الأوساط الفلسفية الألمانية، وذلك من حيث ملامسته لمعارف متقاربة فنية وأدبية وكذلك تعمقه في البحث عن أسس الموضوعية في العلوم الإنسانية، وهذا ما يفصح عنه منذ مقدمة كتابه سابق الذكر بقوله: " إن الدراسات التي سنقرؤها هنا تعالج مشكلة التأويل، ذلك أن ظاهرة الفهم ومن ثم تأويل ما فهم تأويلا صحيحا لا يشكل مشكلا متميزا يتعلق بمنهجية العلوم الإنسانية فقط، فالفهم وتأويل النصوص ليسا حكرا على العلم ولكنهما يتعلقان أساسا بالتجربة الشاملة التي يكونها الإنسان عن العالم، ومن ثم فإن ظاهرة التأويل ليست مشكلة منهجية ".(1) فالرهان الحقيقي هنا لا يتعلق ببلورة منهجية معينة لقراءة النصوص وفهمها وتحديدا النصوص ذات الطابع العلمي، أو بتلبية رغبة دفينة لدى الإنسان ببلوغ المنهج المثالي، أو على الأقل الأقرب إلى الدقة في مجال المعرفة مادام الأمر يتعلق بالمنهج وبالحقيقة أيضا، وإنما يتعلق بتقدير أولى بتحديد المفاهيم والمنطلقات بوصفها المخل إلى اكتساب المعارف وبالتالي الوصول إلى الحقائق.
إن مشكل التأويل في نظر غادامير، ومن ثم مشكل الفهم بصفة عامة، لا يكتفي باستقصاء علاقات الإنسان بالعالم والأشياء على أهمية هذه العلاقات وإنما يعمل على بلوغ الخصوصية والاستقلالية داخل المنهج العلمي ذاته بل ويعمل على مقاومة ذلك التوجه الذي يعمل على إذابته داخل المنهج العلمي بأن يجعله تجليا من تجلياته المتعددة، من هنا إذا كان التأويل هو من جهة دعوة إلى الحوار والتفاعل مع العلوم الإنسانية والعلوم عامة، فإنه من جهة أخرى دعوة إلى مقاومة الانحلال والذوبان في هذه العلوم كما هو الشأن عند بعض المنادين في التشبه بالعلم والعمل على جعله مقياس المعرفة الأوحد، وما كتاب " الحقيقة والمنهج " إلا دعوة ملحة لهذه المقاومة من "الداخل " وذلك بتحديد معنى "الحقيقة " ومعنى " المنهج " في أن واحد.
ففي موازاة الشمولية التي يدعيها المنهج العلمي يلجأ المنهج التأويلي- إن صح التعبير- إلى بعث طريقة جديدة أساسها توزيع مساحة تواجد الحقيقة وجعلها أكثر مرونة وانسيابية، وأكثر انفتاحا على المعارف الأخرى، فقد تتلامس فيه العلوم الإنسانية مع فروع معرفية أخرى وتشكل تجارب مشتركة معها دون أن تكون لها علاقة بالعلم، أو أنك لا يمكن ا-كد من قيمة تجاربها بالطرق العلمية التقليدية كتلك التي تكونها مع الفلسفة الفن، وحتى مع التاريخ، ومع أن التأويل في تحديد غادامير يعطي أهمية خاصة لبناء المفاهيم الفلسفية ونحتها بوصفها منطلقا أوليا لبناء المعارف إلا أنه يرفض المغالاة في هذا الجانب بحيث تتحول هذه المسألة إلى لعبة في حد ذاتها، فعملية نحت المفاهيم عنده ليست عملية مجردة منسلخة عن العالم والواقع، بل إنها تنحدر وتأخذ كل مصداقيتها وشرعيتها من الممارسات العلمية ومن الاحتكاك بالواقع والأشياء لذا يرى غادامير:
"انه إذا ما أردنا أن فموقع عملنا داخل المنظومة الفلسفية لعصرنا، فانه ينبغي أن ننطلق من أننا حاولنا أن نقدم إسهاما يكون بمثابة حلقة وصل بين الفلسفة والعلوم، ومن ثم مواصلة العمل المثمر في ذلك المجال الواسع الذي هو مجال التجربة العلمية.