وبالرجوع إلى استقراءات الدكتور محمد عابد الجابري للخطاب الفلسفي العربي الإسلامي فيقول إن الفلسفة الاسلامية متهمة بأنها مدينة بكل شيء للفلسفة اليونانية ويقول فلنعمل على إبطال هذه التهمة بإثبات وجود تفكير فلسفي قبل ترجمة الفلسفة اليونانية وسيكون ذلك برهانا على الأصالة ولكن في حقيقة الأمر بوجود فقهاء كأمثال ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية أرى من الصعوبة إثبات هذه الأمور وذلك للمعارضة الشديدة التي أبديت من قبل الكثير من علماء الدين ضد الفلسفة والفلاسفة وإذا صار الاتجاه في هذا المجال صار بإمكاننا تلمس بداية النظر العقلي لدى المسلمين قبل عصر الترجمة بكثير وخاصة في صدر الإسلام فيما صار الاجتهاد بالرأي أسلوبا ضروريا لتعميم حكم الشرع على الوقائع الجديدة ويعلق الأستاذ محمد عابد الجابري قائلا:إن الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين وقد نما وترعرع في رعاية القران وبسبب من الدين ونشأت منه المذاهب الفقهية وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم أصول الفقه وفي حقيقة الأمر إن الخوض في مسالة العلاقة بين الفقهاء والفلاسفة واثبات الفلسفة لدى الفكر الإسلامي ليس بالمهم بالقدر مما أنتج من خطاب فلسفي معاصر قادر على مواكبة الحاضر الحي ولو ننتقل إلى النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية والتي يقررها الدكتور محمد عابد الجابري من خلال عدة مضامين ومن خلال الأشكال المادية الفلسفية كما عرفت في تاريخ تطور الفلسفة العالمية :وهي :
1- المادية الساذجة: المعبرة عن نظرة القوى التقدمية في المجتمع العبودي والتي وصفت قديما بالديمقراطية العبودية وابرز ممثليها طاليس وانكسيمانس وانكسماندر وهيراقليط وديمقريطس وابيقور.
2- المادية الميتافيزيقية: مادية المفكرين الأوربيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر وأوئل القرن التاسع عشر وكانت تعبر عن ايدولوجية البرجوازية الناشئة وسائر القوى التقدمية في ذلك العصر .
3- مادية الديمقراطيين الثوريين: خلال القرن التاسع عشر في بعض بلدان أوربا الشرقية واسيا في عصر انتقال هذه البلدان من الإقطاعية إلى الرأسمالية وهي تعبر بالأساس عن ايدولوجية القوى الثورية بالأكثر.
4- المادية الديالكتيكية: وهي الشكل الأخير للمادية تاريخيا حتى مرحلتنا الحاضرة هي المادية الماركسية معبرة عن ايدولوجيا البروليتاريا (حسين مروة :النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية ص33-35 دار الفارابي بيروت 1979ج1) ويعلق الدكتور الجابري قائلا (البحث عن مكان في التاريخ للفلسفة الاسلامية يتطلب إذن في نظر الماركسي العربي مقارنة نزعاتها المادية مع احد هذه الأشكال التاريخية الأربعة من المادية وهكذا فعلى الرغم من أن المادية الفلسفية العربية الاسلامية كانت تتخذ أشكالا غامضة تتمخض بين ثناياها الدراسات الاسلامية فانه بالنظر إلى طابع أسلوب الإنتاج الإقطاعي المتداخل مع بقايا العبودية المنحلة والقطاع التجاري المتنامي إلى جانب نمو الصناعات الحرفية المتطورة نسبيا في المجتمع العربي الإسلامي خلال العصور العباسية وبالنظر كذلك إلى طابع الازدهار الذي حظيت به العلوم الطبيعية في هذه العصور انه بالنظر إلى هذين العاملين الرئيسيين ربما صح القول بان النعات المادية في هذا التراث العربي الإسلامي اتخذت أشكالا غير ثابتة بل ترددت بين الأشكال الميتافيزيقية والأشكال الديالكتيكية بمستواها الملائم للوضع التاريخي ذاك (حسين مروة :النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية - دار الفارابي 1979 ج1ص8) وهكذا فالخطاب الفلسفي في الفكر العربي الحديث والمعاصر في نظر الدكتور الجابري هو خطاب ايدولوجي وبالتالي فهو يحمل معه ومستعد لان يحمل بطبيعته كل التناقضات الممكنة ما دامت تجد تبريرها ايدولوجيا عند صاحبها ,صحيح انه لا يمكن فصل الخطاب الفلسفي عن الايدولوجيا ولكن صحيح كذلك إن الخطاب الفلسفي ذاته هو أكثر أنواع الخطاب الايدولوجي تجريديا أي إخفاء لطابعه الايدولوجي وبعبارة أخرى يصوغها الدكتور الجابري قائلا (لا يكون الخطاب الفلسفي جديرا بهذا الاسم إلا إذا استطاع أن يحول الايدولوجي إلى نظري كذلك إلا إذا استطاع أن يجعل من قضيته كلية ضرورية على مستوى الخطاب إن ذلك هو ما يعطي القدرة للخطاب الفلسفي على توفير ذلك الحد الأدنى من التصورات المشتركة التي تجعل التفاعل بين التيارات الايدولوجيا ممكنا ويجعل الحركة فيها تتجه إلى الأمام وذلك هو طريق التقدم على صعيد الفكر النظري وبالانتقال إلى مفهوم (الفلسفة العربية المعاصرة) التي هي على حد تعبير الأستاذ الدكتور الجابري ليست أصيلة لأنها تفتقد العالمية ولأنها تفتقد الطابع القومي الخاص والقول إن الكثير من المفكرين والكتاب قد حاولوا إنتاج فلسفة عربية معاصرة ولكن الأمر يتعلق بخطاب يريد أن يقدم نفسه في صورة بناء فكري متماسك أو على الأقل يفترض فيه الطموح إلى ذلك ولكن المخالفة التي تكمن في هذه المسالة ان الفلسفة العربية المعاصرة هي التي تنتج خطابا فلسفيا معاصرا ولكن الإشكالية تكمن هل يتضمن هذا الخطاب النظرة القومية الأيدلوجية؟ بالتأكيد إن المستوى الأيدلوجي لأي خطاب ممكن هو مستوى متدن بالنتيجة وسينتج خطابا مؤدلجا لجهة معينة ونحن نريد خطابا فلسفيا مؤنسنا ومن خصائص هذا الخطاب انه يقبل التلخيص والشرح والتعليق والحكاية والتأويل سواء باللغة التي كتب بها أو بأي لغة أخرى ذلك لأنه خطاب عقل والعقل مشترك بين الناس فيعلن صاحب الرحمانية على سبيل المثال:زكي الارسوزي عن إنشاء فلسفة عربية يتحول فيها ما نسجته الحياة عفوا إلى مستوى من الشعور بحيث نشترك مع العناية الإلهية في تعيين مصيرنا نشترك بذلك هذه المرة ونحن أحرار (زكي الأرسوزي-المؤلفات الكاملة مجلد2-1972ص4) هذه الفلسفة تؤدي بنا إلى نتيجتين هامتين يذكرها الدكتور محمد الجابري لزكي الأرسوزي.
الأولى: إرساء فكرة البعث الإنساني على قواعده الصحيحة.
الثانية: إسهام العرب إسهاما جديدا وحاسما في التراث الإنساني (مجلد1-ص32) ويعلق الجابري على كلام الارسوزي قائلا (فلسفة عربية من اجل البعث والنهضة ...جميل...ولكن بأي معنى) ويؤكد صاحب الرحمانية إن للعرب فلسفة كاملة قائمة في ثنايا لغتهم لم يعبر عنها حتى الآن أي مفكر آخر تعبيرا كليا إذ أن أحدا منهم لم ينتبه إلى أن الطريق التي تؤدي إليها يجب أن تستند إلى طبيعة فهم اللغة العربية وذلك لخصوصية هذه اللغة من بين كل اللغات وهنا تبرز السمة القومية لهذه الفلسفة حيث يتعلق الأمر لا بفلسفة عربية مستوحاة من معطيات الواقع المعاصر واقع العرب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري بل وهنا الكلام للجابري بالفلسفة العربية الثاوية وراء كلام العرب الكامنة في لغتهم وألفاظهم والفلسفة التي تميزوا بها ويتميزون عن الأقوام الأخرى.