- تحديد المفهوم:
لفظ الفينومينولوجيا لم يظهر مع هوسرل، بل لقد ظهر قبله في أعمال كانط وهيجل وهارتمان وغيرهم. ففي كتاب "فينومينولوجيا الروح" يستعمل هيجل لفظ الفينومينولوجيا للدلالة على التجليات المختلفة للروح، والتي تتخذ شكل فكرة مطلقة داخل الوجود. وفي تشمل عدة مستويات متدرّجة من المعرفة الحسية المباشرة إلى المعرفة العقلية الشاملة، مرورا بالمستويات المختلفة للفكرة المطلقة وما تشهده من تناقضات وصراعات وتطورات.
بعد هيجل استعمل هارتمان اللفظ بشكل متميز، بل إنه يقرن بالفينومينولوجيا لأنه اعتمد في دراساته الميتافيزيقية على النظرة الوصفية خصوصا فيما يتعلق بنظرية المعرفة. إذ راح يصف ظاهرة المعرفة انطلاقا من عنصرين: الذات والموضوع، مميزا كل عنصر وواصفا دور كل منهما في عملية المعرفة. تدلّ الفينومينولوجيا في هذا الاستعمال على عملية وصف المعرفة مع التخلي عن الأحكام المسبقة. إنها عودة إلى الأساس الأول الأنطولوجي للمعرفة، أي الأساس المؤسس للموجودات والمعرفة، وعدم اختزال الظواهر فيما يظهر بل الرجوع بها إلى الوجود الخفي الذي هو بمثابة الماهية الموجودة والحاضرة في كل الأشياء.
أما من الناحية الاشتقاقية، فإن لفظ الفينومينولوجيا يتكون من كلمتين: "فينومين"و"لوغوس"، ويعني حرفيا "علم الظواهر". والفينومين في أصله الإغريقي يفيد-حسب هيدغر-معنى الإبانة والظهور، كما يعني المنجلي أو الذي يحضر داخل شيء من الأشياء. كما يفيد الشيء الذي يبين عن نفسه. فالظاهرة هي إذن كل ما يمكن أن يظهر أو ينجلي إلى الضوء والنور، وهو إذ يظهر ويتجلى فهو يظهر على وجه مخصوص وعلى شاكلة معينة. لهذا فهو يشكّل ظهورا مقنّعا. أما اللوغوس فهو يفيد عنده الكلام وعملية إظهار ما يتكلم عنه الكلام وتمكينه من الانجلاء والظهور. اللوغوس إذن هو الكلام الذي يسمح بانجلاء ما يتحدث عنه فيتيح ملاقاته. وعليه فالفينومينولوجيا بمعناها المركّب تفيد جعل الموجود يظهر من تلقاء ذاته. مما يجعل المنهج هنا وصفي، لأنه منهج للوصف والإبانة أو الإظهار وليس منهجا للبرهنة. فأن تمارس الفينومينولوجيا هو أن تساعد الشيء على الظهور وتمكينه من الإفصاح عن نفسه بغية إدراكه. وكأن الفينومين هو الشيء المنسحب والمختفي لأنه لا يتجلى بذاته. وهذا ما يجعله معرّضا للنسيان والتجاهل، لأنه لا يظهر إلا عبر لعبة الأقنعة المستعارة. الفينومين- في المنظور الهيدغري- ليس هذا الموجود أو ذاك، ولكنه وجود الموجود c’est l’être de l’étant . لهذا وجدنا المنهج الفينومينولوجي يستجيب لمطلب إظهار المستتر في كنهه، أي إظهار المنسحب أو المنسي أو المقنّع.
2- المنهج الفينومينولوجي لدى هوسرل:
2-1 هدف المشروع الفينومنولوجي:
هناك سمتان طبعتا المسار الفكري لهوسرل: حرصه الشديد على الدفاع عن مواقفه وطروحاته في مواجهة نقاده وخصومه، ومن جهة أخرى ممارسته للنقد الذاتي واستعداده الدائم لمراجعة فكره وإعادة النظر في أفكاره عندما تبدو غير مؤسسة بشكل كاف. هاتان السمتان تجعل الخاصية الأساسية للفينومينولوجيا الهوسرلية هي الحركة الدائبة للهدم وإعادة البناء. وستبلغ هذه الحركة أوجها في كتاب هوسرل الأخير :"أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية". وهو الكتاب الذي سيعلن فيه عن الغاية من مشروعه الفينومينولوجي، بما هو الفلسفة القادرة على إخراج الفكر الغربي الحديث من "أزمة المعنى والتوجه". وهي أزمة يربطها بسيطرة العلوم الحديثة ذات النزعة الموضوعية. لقد أصبحت نظرة الإنسان الحديث إلى العالم ابتداء من النصف الثاني من القرن 19 تتحدد بكيفية شبه تامة من قبل الأسلوب الذي تتبعه تلك العلوم في تناول موضوعاتها ومعالجتها. ولقد نجم عن ذلك التخلي عن الأسئلة الحاسمة بالنسبة للإنسان واتخاذ موقف اللامبالاة منها. وهي في عمقها أسئلة مرتبطة بمصير الإنسان، وبمعنى وجوده، وبطبيعة علاقته بالمحيط، ودور العقل في الحياة. إن العلوم الطبيعية لا تهتم بهذه الأسئلة لأنها واقعة في أسر النزعة الموضوعية التي تقوم على استبعاد كل ما هو ذاتي من اهتماماته. إذ العلمية حسب المعيار العلمي السائد، تقتصر على ملاحظة الوقائع وتسجيلها، وهذا ما يؤدي إلى استبعاد الأسئلة الأساسية المتعلقة بالوجود الإنساني، ويجعل تلك العلوم عاجزة عن مساعدة الإنسان في إعطاء معنى لحياته وأفعاله وتوجيهها.
المظهر الثاني لأزمة العلوم الحديثة يتمثّل في افتقارها إلى الوحدة وإلى الرابط الموحّد بين مختلف تخصصاتها. وهذا المظهر الثاني يربطه هوسرل باستقلال العلوم عن الفلسفة، وهو يعكس في الوقت ذاته أزمة الفلسفة ذاتها والناجمة عن تخليها عن معناها الأصلي والدي يجعل منها معرفة صارمة ومؤسسة على منطلقات راسخة، معرفة تنفذ بعمق إلى كل أشكال الحياة الإنسانية وتطبع ميادينها، فتقوم بوظيفتها المتمثلة في توجيه حياة الإنسان وفقا لمعايير العقل وفي استقلال عن الأحكام المسبقة. إن فقدان الثقة في الفلسفة بما هي علم كلّي منذ عصر النهضة، هو الذي أدى إلى فقدان الثقة في العقل وفي قدرته التوجيهية للممارسة التاريخية للإنسان. وتحتد أزمة الفلسفة مع هيمنة النزعة الموضوعية على العلم ووضع الطابع العلمي والصارم للفكر الفلسفي موضع شك. وخطورة مثل هذا الموقف حسب هوسرل تتمثّل في كون أن التشكيك في علمية الفلسفة هذا يؤدي إلى الطعن في مصداقيتها مما يترتب عنه التخلي عن القضايا التي تنتمي إلى دائرة الفلسفة، وهو الذي يعني التخلي عن الأسئلة الكبرى للوجود البشري، أسئلة الحرية والمعنىوالتاريخ، والوقوع في أسر الحاجات اليومية للحياة العملية وآفاقها الضيقة. أزمة أوروبا إذن هي أزمة فقدان المعنى وتحديد الغاية، وهي في الوقت ذاته أزمة الفلسفة والعلم بما هما المبدأين المؤسسين للحضارة الغربية.
إن إثبات إمكانية تحقيق الفلسفة كعلم صارم، وإثبات ضرورتها في زمن سيادة العلم، تطلّب من هوسرل الكشف عن جذور النزعة الموضوعية التي تطبع العلوم الحديثة، والعمل على تعرية افتراضاتها غير المعلنة. تقوم هذه النزعة على تأويل خاطئ للعلم، مؤداه أن علم الفيزياء الرياضي الحديث هو النموذج الوحيد للعلمية، وهو صالح بل وملزم لجميع العلوم والمعارف بما في ذلك العلوم الإنسانية والفلسفة. وهذا ما جعل هوسرل يبرز حدود النموذج الرياضي الفيزيائي واستحالة تعميمه على كل المجالات، وذلك عبر القيام بتحليل فينومينولوجي تكويني عمل على التذكير بالإنجازات والحوافز الأصلية التي انبثقت عنها الفيزياء والتي تم نسيانها من قبلها. هذا الأساس المنسي للعلم والذي يوجد في أصل أزمته هو ما يسعى التحليل الفينومينولوجي إلى الكشف عنه بجعله يتكلم ويفصح عن نفسه. فماضي العلم-منظورا إليه من زاوية فينومينولوجية- يعيش في حاضره على شكل ترسبات. ومنطلق التحليل الفينومينولوجي للعلم هي وحدات المعنى التي تم بناؤها في الوعي، حيث يجب استنطاقها ومساءلتها عن تكوينها وتاريخها وذلك عبر الصعود إلى الإنجازات والحوافز الأصلية التي انبثقت عنها تلك الوحدات الدالة والبداهات الأولى التي استندت إليها. ليس التحليل الفينومينولوجي إذن سوى محاولة تأويلية تريد النفاذ إلى القصدية الحية التي توجد في أساس علم ما، وتعرية للمسبقات وكشف للافتراضات الخفية التي تحملها قصدية العالم والتي تحدد مسار تفكيره وأبحاثه دون أن يكون واعيا بها.
2- 2- دلالات وخطوات المنهج الفينومينولوجي:
يقدّم المنهج الفينومينولوجي ذاته باعتباره مجهودا لتجاوز الثنائيات الميتافيزيقية وفي مقدمتها ثنائية الذات والموضوع. ويقوم هذا المسعى من جهة على رفض النزعة الموضوعية التي تختزل المعنى في الموضوع المعطى، كما تقوم من جهة أخرى على رفض النزعة السيكولوجية التي تختزل المعنى في الذات. ولهذا فهي كمنهج تسعى إلى الربط بين الذات والموضوع بحيث المعنى لا يوجد في العالم بشكل مستقل عن الذات، كما أنه لا يوجد في الذات أو الوعي بشكل مستقل عن العالم. بل المعنى يتشكّل في انفتاح الذات عن العالم. هكذا فموضوعات الإدراك والتفكير والإحساس لا توجد بشكل موضوعي خالص، كما لا توجد بشكل ذاتي خالص، بل توجد كما يقول هوسرل في العلاقة التي يقيمها الإنسان مع العالم. وفي هذه العلاقة ومن خلالها يتم التفكير في المعنى، معنى الأشياء، ومعنى الحياة الإنسانية. وهي معاني يتم الولوج إليها عير إدراك الوجود والحياة في ماهيتهما السابقة على كل معرفة وإدراك. وهي معاني تعطى للإنسان في تجربته المعيشية اليومية. لهذا فالمسعى الفينومينولوجي من حيث دلالته العامة، يتحدد باعتباره مجهودا موجها كله نحو استرجاع الماهية الثاوية وراء الأشياء، ولكن الحاضرة في التجربة التي يكونها الإنسان عنها. لهذا كان المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه هذا المنهج، يتمثّل في الدعوة إلى"الرجوع إلى الأشياء ذاتها"، أي إلى حدوسها الأصلية. وتعني هذه العودة رفض كل ادعاء بامتلاك الحقيقة أو العلم، ورفض اختزال الإنسان إلى أي حقيقة كيفما كانت بيولوجية أم سيكولوجية أم سوسيولوجية؛ لأن كل ما يعرفه الإنسان عن الحياة والوجود يتم انطلاقا من منظور معين، وزاوية خاصة، وتجربة فريدة. وأساس المعرفة والعلم هو عالم العيش هذا، أو عالم التجربة المعيشية الأولى. العودة إلى الأشياء ذاتها هي عودة إلى هذه التجربة التي هي بمثابة ماهية قبلية حيث كل معرفة وكل علم يكون لاحقا وتابعا لها على غرار تبعية علم الجغرافيا إلى تجربة المشهد أو المنظر، حيث معاني الغابة والسهل والجبال والوديان يتلقاها الإنسان في تجربته المعيشية قبل العلم بها بواسطة الجغرافية. يدعونا مبدأ العودة إلى الأشياء في ذاتها إلى الإخلاص لتجربة الإنسان في الحياة ومحاولة وصفها دون البحث عما يجعلها ممكنة أو حقيقية. فالعالم ليس هو ما أفكر فيه أو ما أدركه، وإنما هو الفضاء الذي أعيش فيه وأحياه في الوقت نفسه. فأنا منفتح على العالم وأتواصل معه لكنّي لا أمتلكه لأنه غير قابل للاستنفاد. فمعنى الأشياء والعالم يخترق لغاتنا وخطاباتنا ومواقفنا، ويجب أن نعرف كيف نلتقط هذا المعنى. المنهج الفينومينولوجي إذن هو دراسة للمعاني، أي للماهيات. والماهية توجد كإمكانية، أي أنها مجال لبناء المعنى انطلاقا من تعدد المظاهر التي يقدّمها لنا الشيء موضوع الإدراك. والقول بأن الماهية هي بمثابة إمكانية الهدف منه هو نزع عنها صفة الوجود الموضوعي الخالص، وإثبات لها صفة الوجود القبلي أو البينذاتي الذي يجعلها لا تنكشف إلا في علاقة الموضوع بالذات. إنها أشبه بعقل أو لوغوس محايث للوجود، أو هو أشبه بالمعنى القبلي الذي تسعى الذات أن تدخل في إطاره الوجود. وعليه فالماهية لا توجد منفصلة عن الموضوع أو الظاهرة ولكنها تؤسسه وتشرطه وتسبقه. ولتحديد الماهية ووصفها، يلتجئ هوسرل إلى أحد المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها المنهج الفينومينولوجي والذي استعاره من برنطانو وهو مفهوم القصدية. ويفيد هذا المفهوم في الاستعمال الهوسرلي أن الوعي هو دوما وعي بشيء ما toute conscience est une conscience de quelque chose ، فمن غير الممكن دراسة الوعي بشكل مستقل عن الموضوع ولا دراسة الأشياء في استقلال عن الوعي، إذ الموضوع يستمد معناه من الوعي الذي يقصده. وعليه تصبح الماهية مرتبطة بانفتاح الوعي على الموضوع ولا وجود لها خارج ذلك الوعي. وهذا ما يجعل الفينومينولوجيا تحدث خلخلة
جذرية في مطرح السؤال الفلسفي حيث تنقله من سؤال الماهية إلى سؤال القصدية. لكن الماهية التي يقصدها التحليل الفينومينولوجي ليست ثابتة بل تتميز بطابع دينامي، فهي ليست مستقلة عن الوعي الذي يقصدها ولا عن الموضوع الذي تؤسسه. فهي تقتضي إذن الإقرار بوجود تلازم بين الذات والموضوع، وهذا التلازم هو الذي تطلق عليه الفينومينولوجيا "القصدية الأصلية". وللولوج إلى هذه القصدية يوظف هوسرل مفهوما آخر أساسيا هو مفهوم "الاختزال الفينومينولوجي". فانفتاح الوعي على الموضوع والأخذ بهما معا، يقتضي البحث عن معيش معين يكون مؤسسا لذلك الوعي. والآلية التي يجب توسلها في ذلك هي الاختزال. الهدف من الاختزال هو الوصول إلى منطقة من الوجود يتسم فيها الإدراك بالأصالة والفرادة. وهذه المنطقة هي منطقة الوعي الخالص أو كما يسميها هوسرل الأنا الترنسندنتالي بما هو الضامن لوحدة الحدوس أو المعيشات المتعددة في الوعي. وهذه الأنا الخالصة هي المحددة لمعنى العالم وأساس ذلك المعنى. إن العودة إلى الشيء في ذاته أي الماهية يتم عبر الاختزال الفينومينولوجي. وهذا الاختزال ليس إلغاء للدلالات المترسبة عن الشيء بل وضعها بين هلالين كما يقول هوسرل، من حيث أنها عبارة عن أحكام مسبقة. وهذا ما يجعلها تشكّل عوائق لإدراك الماهية. لأن ماهية الشيء لا تظهر أمام الوعي أو الفكر إلا بعد تعريته من طبقاته المترسبة أو قشوره. وخلال عملية الاختزال هذه يتم تعليق كثيرا من الأشياء: يتم تعليق أولا كل ما هو ذاتي خالص في إدراكنا للشيء، وذلك عبر توجيه التفكير نحو الموضوع مباشرة. ويتم ثانيا تعليق كل الاهتمامات العملية والبراغماتية وما يقدّمه الموضوع من فوائد أو من أضرار، فلا يسأل سوى عن ماهيته. وثالثا يتم تعليق التاريخ وما يمثّله من أحكام مسبقة. ورابعا يتم تعليق كل ما يتعلق بطبيعة الشيء ووجوده، لأن الوجود ليس من صلب الماهية. وخامسا يتم استبعاد في الشيء صفاته العرضية، لأن ماهيته تتقوّم من خلال صفاته الضرورية التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر تجريد كلّي للموضوع وإضفاء على وجوده طابعا مثاليا. وبصفة عامة فعبر الاختزال يتم تعليق كل العناصر التي لا تعطى لنا في الحدس الأصلي أو في التجربة الأولية. وهناك مفهوم آخر أساسي في المنهج الفينومينولوجي لا يقل أهمية عن مفهومي القصدية والاختزال وهو مفهوم "الأفق". ولقد وضع هوسرل هذا المفهوم لتوضيح البنية القصدية للوعي: فكل فعل إدراكي تعيشه الذات على مستوى الوعي يتسم بأفق متغير ومتعدد من حيث إمكانيات تعالقاته وإحالاته. فكل فينومين يقدّم ذاته أمام الوعي يتسم بتعدد آفاق إدراكه، فله أفق داخلي وآخر خارجي، وأفق زمني وآخر بينذاتي. فلكل إدراك حسي فعلي مثل إدراك هذه الجريدة التي توجد على مكتبي، هو في حقيقته إدراك لها من جانب من جوانبها، بحيث كل جانب يمكن له أن يحيلنا على الجوانب الأخرى غير المدركة منها. وهذا ما يجعل فضاء الجريدة هو صلة وصل بين أفقها الداخلي(كل مكوناتها الداخلية)وأفقها الخارجي(صلاتها بالأشياء المتعالقة معها والمحيطة بها)، وبين أفقها الزمني(تاريخها الخاص وشروطها التاريخية)وأفقها البينذاتي(الوعي القصدي). إن هذه الفكرة – حسب هوسرل- تمثّل قانونا ضروريا يعبّر عن علاقة قبلية بين فعل الإدراك والموضوع المدرك. إذ رغم أن الإدراك يقصد الموضوع ككل، إلا أن الموضوع لا يظهر بأكمله في أي إدراك؛ لأن الإدراك يتم بالضرورة في وضعية معينة وانطلاقا من زاوية معينة ومن موقع معين. ففي كل فعل إدراك لا أدرك إلا جهة معينة، أو وجه معين من الموضوع، غير أن كل إدراك إلا ويتضمن إمكانيات أخرى أصيلة لإدراك ذات الموضوع. المهم أن كل إمكانية حينما أحققها تفتح أمامي إمكانيات جديدة تدعوني هي كذلك إلى تحقيقها. بحيث يبدو وكأن الموضوع يناديني ويخاطبني بأنه لازال هناك شيء أو وجه آخر يمكن رؤيته فيه، فيطالبني بأن أدره في كل الجهات وأطوف حوله وأن أختبر كل مقوماته. وهذا يعني أن إدراكنا لأي موضوع كيفما كان لا يمكن أن يستنفد كل مضمونه، وأن يحيط بكل خصائصه
3- المنهج الفينومنولوجي لدى هيدغر:
يعتبر هيدغر بأن الفينومينولوجيا بما هي منهج لا يمكن اعتبارها مذهبا، ولا حتى وجهة نظر فلسفية معينة، وإنما يجب النظر إليها باعتبارها محاولة لفهم الذات عبر مجموعة من الأسئلة التي تستمد قيمتها من خلال طبيعة الأشياء التي تضعها موضع تساؤل، ومن خلال الكيفية والأسلوب الذي ينهجه في إجلاء تلك الأشياء. فالفينومينولوجيا بهذا المعنى الميتودولوجي ليست خاصية للأشياء أو الموضوعات التي تستكشفها، كما أنها ليست المحتويات والمضامين المعرفية التي يتم التوصل إليها بصددها، بل هي كيفية التعامل معها، وهي كيفية بقدر ما تبتعد عن الوصفات التقنية الجاهزة وتتجه مباشرة إلى الأشياء ذاتها، بقدر ما تكون أسلوبا أصيلا وجذريا. فشعار الفينومينولوجيا يمكن صياغته على النحو التالي: "لنتجه مباشرة إلى الأشياء ذاتها". وهذا الشعار من شأنه أن يحصّنها ضد المفاهيم غير المؤسسة والأسئلة الزائفة. هكذا وعلى غرار هوسرل، تتحدد الفينومينولوجيا في منظور هيدغر في العودة إلى الأشياء ذاتها. بيد أن هذه العودة الهيدغرية تتحقق في الفلسفة على شكل عودة إلى الوجود، عودة تساؤلية حول معنى الكينونة. والهدف من ذلك هو تجاوز الميتافيزيقا بما هي نسيان الوجود وإحلال الموجود محلّ الوجود، وعدم الاعتراف بالاختلاف الأنطولوجي بينهما. إذ السؤال الأساسي لتجاوز الميتافيزيقا يتعلق بالكيفية التي يجب بها تحديد الوجود للحفاظ على هذا الاختلاف الأنطولوجي. ويقتضي هذا بدوره طرح مسألة ماهية الموجود الإنساني وما الذي يميزه عن الوجود وعن الموجودات الأخرى. وأهمية هذا السؤال وأولويته في دراسة الوجود راجع إلى أنه يستحيل دراسة الوجود l’être خارج الموجود l’étant . وعليه يجب القيام بفحص في إطار الموجودات عن الموجود الأكثر قدرة على تحديد معنى الوجود. ويرى هيدغر أن هذا الموجود هو الكائن الإنساني. لكن هناك فرق بين دراسة هيدغر للوجود من خلال الوجود الإنساني، وبين الدراسة التي قامت بها الفلسفة الحديثة والتي اتخذت من الإنسان أساسا للمعنى الذي يمنح الوجود، فأصبحت بذلك الذات هي أساس اليقين والوجود كما يتضح ذلك من خلال الكوجيطو الديكارتي"أنا أفكر إذن أنا موجود
لكن كيف يبرر هيدغر تأكيده من جهة على عدو ربط الوجود بموجود معين وعدم السعي لاستخلاصه منه، وتأكيده من جهة أخرى على ضرورة الانطلاق من الوجود الإنساني لدراسة ماهية الوجود ؟. إن ما يعيبه هيدغر على الفلسفة التقليدية الميتافيزيقية هو إغفالها للاختلاف الأنطولوجي الآنف الذكر بين الوجود والموجود، وهذا يؤدي بها إلى السقوط في إقامة تطابق بينهما. وهيدغر حينما ينتقد التقنية فهو يفعل ذلك من حيث أنها تلتقي مع الميتافيزيقا في شكلها القديم في نقطة أساسية، تتمثّل في إقصائها للوجود لكي تتعامل مع الموجود فقط، بما هو نسق ون العلاقات والخصائص الموضوعية القابلة للقياس وللرصد في كلّيتها. بينما التوجه نحو الكائن الإنساني والتساؤل عن وجوده لأجل استخلاص معنى الكينونة، هو الذي يسمح في نظر هيدغر بالحفاظ على ذلك الفرق والاختلاف الأنطولوجي. فالوجود الإنساني هو وحده الذي يسمح بالانفتاح، لأنه الكائن الوحيد الذي تتوقف فيه ماهيته على ذاته، بينما كل الموجودات الأخرى تتوفر على ماهية معينة تتحدد بها مع بروزها إلى الوجود. وهي ماهية تملي عليها طريقها في الوجود والكيفية التي تستحق بها وجودها. في حين تتوقف ماهية الإنسان على ذاته بحيث لاشيء فيه يحدد سلفا ماهيته ويفرض عليه أن يسير في هذا الاتجاه أو ذاك، وإنما يقرر بذاته ما يمكن أن يكون عليه وجوده، إلى حد يمكن معها القول بأن ماهيته لا وجود لها مادامت أنها لا تفرض عليه سلفا نمطا من الوجود. إن الإنسان وفقا لهذا الفهم الهيدغري سيصبح هو المحدد لما سيكونه وجوده، مما يعني أن نمط وجوده هو الإمكانية وليس الواقعية، إذ ماهيته تتحدد باعتبارها القدرة على الوجود. إن الكائن الإنساني ليس معطى وإنما هو الكائن الوحيد الذي يتحدد انطلاقا من إمكانياته إذ يتجاوز التحديدات والتعيينات. لهذا فهو لا يكتفي بالحضور السلبي كما هو الشأن بالنسبة للكائنات الأخرى، بل هو يتجاوز الواقع باتجاه الإمكان، وذلك هو الاختلاف الجوهري بين الوجود والموجود.
لكن كيف يوفّق هيدغر بين إقراره بالماهية، وبين تأكيده على أن الإنسان إمكانية حينما يجعل منه انفتاحا ؟ إن هيدغر يحاول قلب مفهوم الماهية بحيث لم يعد مجموعة من الخصائص الثابتة، بل هو ما يعمل على إدراج الإمكان كبعد من أبعاد الإنسان. فالإنسان في لحظة ما لا يمكن اختزاله فيما هو عليه. إن الممكن مرتبط بالوجود لدى هيدغر، لأن من طبيعته الانفتاح بينما الممكن عند هوسرل على سبيل المقارنة مثلا يرتبط بالذات وبالأنا الترنسندنتالي. فالقول بأسبقية الوجود على الماهية لدى هيدغر ليس قولا بالذات، لأن حديث هيدغر عن بنيات الوجود الإنساني تسير كلها في اتجاه تقويض الذات والبرهنة على غيابها، عكس ما عليه الأمر لدى سارتر مثلا الذي أعاد الاعتبار من جديد لمفهوم الذات من خلال نفيه لوجود ماهية إنسانية.
إذن الخاصية الأساسية للوجود هي الانفتاح ورفض اختزاله إلى الموجود، لأنه لا يمكن لموجود ما أن يستنفد الوجود. وهذا هو جوهر الاختلاف الأنطولوجي بين الموقف الهيدغري والميتافيزيقا الحديثة. وهذا ما جعل هيدغر يدرج كل الفلاسفة المحدثين تحت مقولة ميتافيزيقا الذات. وهي ميتافيزيقا تقوم على ثلاثة ركائز رئيسية:
1- اعتمادها على مبدأ العقل المفسّر، حيث يتم تناول الواقع الطبيعي والتاريخي وكأنه عقلاني في كلّيته. وتفترض هذه الميتافيزيقا-على نحو ما يتجلى ذلك بوضوح في فلسفة هيجل-وجود عقلانية محايثة للواقع هي التي تجعله قابلا للتفسير والتعليل.
2- ضرورة امتلاك الواقع وإحكام السيطرة عليه. حيث الميتافيزيقا لا تعود تتسم بطابع تأملي خالص على غرار ما كانت عليه في القديم، بل ستحمل أيضا مشروعا عمليا وإراديا يهدف إلى السيطرة على الطبيعة والتحكم في التاريخ. وإن تصور الذات بما هي إرادة، هو الذي في نظر هيدغر أفضى بالميتافيزيقا إلى العنف والإرهاب.
3- ربطها بنظرية إرادة القوة. فالإرادة في ميتافيزيقا الذات ليس لها هدف محدد، وإنما تتوجه إلى ذاتها لتصبح حسب تعبير هيدغر بمثابة "إرادة الإرادة"، أي إرادة لا تريد سوى ذاتها بحثا عن القوة من أجل القوة. وهذه الصيرورة الميتافيزيقية هي التي أدت في نظره إلى ما يسمى بالعقلانية الأداتية، أي إلى التقنية بما هي أرقى أشكال الميتافيزيقا وأكثرها فظاعة. هكذا يتضح أن القاسم المشترك بين هذه الركائز الميتافيزيقية هو غياب ما نصطلح عليه بالوجود. فما يهتم به الميتافيزيقي هو الحاضر أو الحضور كما هو معطى. صحيح أن هيدغر يسعى بدوره إلى الارتباط بما هو كائن وحاضر، لكن دون أن يختزل الكائن والكينونة في الحضور. إنه بصدد البحث عن موجود يكون بالفعل متمتّعا بحضور تام، لكن دون أن يكون وجوده مستغرقا كله في حضوره. وإذا كان هذا الموجود هو الكائن الإنساني، فلأنه كما يقول هيدغر يحتوي على أبعاد تجعله ينفلت ويتجاوز كل البنيات التي تسعى إلى استيعابه وقولبته. ومن أهم تلك الأبعاد، بعد الإمكان الذي رأينا الأهمية التي يولّيها له هيدغر، لأن ما يميز الإنسان، هو الحضور والتعالي معا، فهو كائن المحايثة والتعالي في الوقت ذاته. لا يعني هذا أن النظرة الهيدغرية هي نوع من الأنتروبولوجيا، ذلك لأنها تتجاوز البنيات والعلاقات إلى الأنطولوجيا التي تتساءل عن الأساس العميق فيما وراء الذات أو الأنا الترنسندنتالي كما ذهبت إلى ذلك فينومنولوجيا هوسرل. هدف هيدغر هو الجمع بين الموقفين: التركيز على البنيات والعلاقات دون الاستغراق في الواقع الموضوعي، ودون السعي إلى استخلاصها من الأنا المتعالي. وهذا الجمع هو ما يتحقق من خلال النظر إلى الوجود الإنساني بما هو وجود في العالم être dans le monde . إن التركيز على الوجود الإنساني هو تركيز على ماهية هذا الوجود. وما يميز الوجود الإنساني ويشكّل في الوقت ذاته بنيته الأولى هو القدرة على الوجود existance ، أي إمكانية على تجاوز الواقع والتعالي عنه. وهذه البنية الأولية هي التي تمكّن من الحفاظ على الاختلاف الأنطولوجي.
السمة الثانية المميزة للوجود الإنساني هو أنه وجود في العالم Dazein ، بحيث التجاوز الذي يحققه الكائن الإنساني بالانتقال من إمكانية إلى أخرى، يكون دوما تجاوز لشيء ما داخل وضع معين، إذ ينتقل من وضع إلى وضع آخر. وهو الذي يعني أن حضور الإنسان في العالم يكتسب صفة المشروع. إذ ليس الوجود أو الكينونة مجموعة من الموجودات والعلاقات التي تحيط بالكائن الإنساني: أشياء، كائنات حية…إذ في هذه النظرة الميتافيزيقية للكينونة يكون الإنسان كذات في تقابل ومواجهة مع العالم بما هو موضوع يرتبط به في علاقة عبر سلسلة من الإحساسات والمدركات. أي تصبح علاقته بالعالم علاقة معرفية، أي علاقة خارجية: إذ هناك طرفان مستقلان تقوم بينهما علاقة، هناك ذات وموضوع. لهذا كان القول بوجود الإنسان في العالم قولا يخرجنا من التصور الميتافيزيقي للإنسان بما هو كائن عاقل، ويخرجنا من التقابل السائد في الفلسفة الكلاسيكية بين الذات والموضوع. فلا يمكن للعالم أن يكون في تقابل مع الإنسان. وهذا ما يفسّر حرص هيدغر على استعمال بعض المفاهيم التي تبرز ذلك الترابط الحميمي بين الطرفين وليس التقابل، مثل الإقامة، والانتماء، والرعاية، والانوهاب، والعطاء، والحفظ، والامتنان…إلخ. فالإنسان هو الفسحة أو الفتحة التي تنجلي فيها وعبرها الكينونة والكائنات. فالأصل في الإنسان أن يكون هو المحلّ le site الذي به وفيه تصير الكينونة متجلية ومنبثقة. ومهمة الإنسان ليس صنع أو إنتاج الكائنات، وإنما أن يكشف عنها ويجليها ويبرزها. فلا يجب أن يكون مكرها بل مصغيا لها. لهذا لما رفع هوسرل شعار "لنعد إلى الأشياء"، ضاده هيدغر بشعار "لنحرّر الأشياء". وليست الحرية في المنظور الهيدغري سوى أن تدع كينونة الكائنات تتجلى. هذا ما يجعل الصلة المعرفية بالكائنات هي صلة تكرّس نسيانا أساسيا لها، بينما صلة الإنسان بها صلة خبرة واتصال والتقاء وانتماء ورعاية متبادلة، وليست بتاتا صلة ذات بموضوع والتي تنتهي بالضرورة إلى إفقار الكائنات والإنسان وإلى استنزاف الكينونة.
فالوجود الإنساني معطى مثله في ذلك مثل باقي الموجودات، أي أنه مثلها موجود في العالم. لكنه لا يمكن أن يختزل في هذا الوجود المعطى. ومن جهة أخرى لا يمكن التعامل مع الإنسان كذات متعالية كلّيا. فتوفر الإنسان على البعد المتعالي المجاوز لوضعيته المعطاة في العالم لا يسمح له بالانفصال عن الواقع على نحو ما تصورت ذلك الميتافيزيقا التقليدية عبر تاريخها، ذلك لأن الإنسان موجود في العالم وهذه الخاصية هي التي تسد الطريق أمام التعالي التام.
الميزة الثالثة للوجود الإنساني هي الفهم ويطلق عليها هيدغر البنية المؤسسة للقدرة على الوجود. فوجود الدزاين في العالم مفاده أنه يوجد أصلا في علاقة حميمية مع مجموعة من الدلالات، إذ لا ينفتح الكائن في مرحلة أولى على العالم بما هو مجموعة من المواضيع ليدخل معها في علاقة في مرحلة لاحقة بعد أن يسند إليها وظائف ويغدق عليها معاني معينة. فليس هناك أي ظاهرة أو معطى لا يحمل دلالة معينة، ولا يهم طبيعة تلك الدلالة هل هي كنهية أو مزيفة، حقائق أم أساطير، إيديولوجيا أم علم. إن ما يرومه هيدغر هنا هو دحض بعض الأفكار التي سادت عبر تاريخ الفلسفة كالقول بوجود عقل محض، أو عقل فارغ، وكذا دحض الفكرة التي تمنح الذات مبادئ وتصورات قبلية عن العالم والأشياء يتم التحقق منها أو تذكرها عبر الاحتكاك المباشر معها. كما يرفض هيدغر فكرة التخلص من الأحكام المسبقة عبر العودة إلى الأشياء ذاتها. فعدم إمكانية تجاوز ما يسميه هيدغر الفهم أو ما قبل الفهم، أي الدلالات الأولى التي تحملها الأشياء والكائنات، مفاده أن الذات لا يمكن تصورها في استقلال تام عن الأشياء. والمعرفة تكون –انطلاقا من هذه الفرضية-عبارة عن تركيب لفهم أصلي يتم استكشاف الأشياء بداخله. وهذا التركيب هو ما يطلق عليه التأويل. وهذا ما يؤدي إلى الحديث عن التأويل الدائري في فلسفة هيدغر، لأننا نبحث عن معنى نؤسسه بصدد موضوع معين، لكن هذا المعنى لا يمكن أن يستخلص فحسب من مجهود تقوم به الذات أو العقل اعتمادا على ذاته، وإنما يتم التأويل دوما انطلاقا من محيط دلالي أو من معاني معينة.
هكذا لقد سعى هيدغر عبر تحليل صيغ الوجود الإنساني إلى إحداث قلب في المنهج الفلسفي المعروف في بحث مشكلة الوجود. فبينما كان هذا المنهج ينطلق أولا من تحديد معنى الوجود المطلق ومعرفة خصائصه وصفاته، ثم يتدرّج إلى تحليل الموجودات الأخرى الأقل شمولا والتي لا تفهم إلا من خلاله؛ فإن هيدغر انطلق أولا من تحديد الوجود الإنساني وصيغه المختلفة بصورة لم يسبق أن عرفت في تاريخ الفلسفة. واعتبر أن تحليل وجود الإنسان هو مدخل لمعرفة حقيقة الوجود المطلق. فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي يعي وجود الكينونة ويتساءل حول معناها. وهذا ما جعل وعي الإنسان لوجوده الواقعي هو النافذة الأصلية التي يطلّ من خلالها على وجود الكينونة، وذلك من خلال معاناة واقعية. يهدف هيدغر إلى إقامة نظرية حول الكينونة عبر وصف الكائن الوحيد الذي يعي ضرورة التساؤل حول معنى وجوده الفردي، ومن ثمة حول معنى الكينونة التي هي أساس لكل موجود. لأن من خصائص الإنسان أنه الكائن المتسائل حول معنى الكينونة. وما يميز السؤال حول الكينونة هو اتصافه بعدم الفصل بين موضوع السؤال وبين الكائن المتسائل، ولهذا فالمعرفة التي تقدّم عن الكينونة ليست براهينا موضوعية، لأن شرط كل معرفة برهانية هو الفصل والتمييز بين موضوع المعرفة والذات العارفة. من هنا أهمية المنهج الفينومينولوجي للبحث في الكينونة انطلاقا من الدزاين، أي من وجود الإنسان في العالم وهو في صيغة التساؤل عن معنى الكينونة. وخاصية الوجود الإنساني هو أنه يتخطى الظواهر الجزئية ويتساءل عن مطلق الوجود. أما العلم فهو مجرد مظهر للوجود الإنساني، بل بالأحرى ليس هو بالمظهر الأساسي والجدير بالعناية، لدى فهو ليس سوى إدراك جزئي للظواهر. بينما تعد مواجهة الوجود ككل أصعب وأشد وأشمل من مواجهته مجزءا من خلال العلوم الطبيعية والإنسانية. والوجود في العالم في الصيغة الأساسية للوجود الإنساني، فهو يرتبط بالعالم الذي يوجد خارجه لأنه هو ما به تتموضع الذات، إذ يؤسس لها واقعيتها وحقيقتها المشخّصة. وهذه العلاقة بين الوجود الإنساني والعالم تتضح أكثر من خلال ما يدعوه هيدغر بصيغة الانشغال أو الاهتمام، والتي هي الصفة اليومية لكل ما يعرض للإنسان من تفكير وفعل واختيار وحوار…والوجود الإنساني لا يدرك العالم إلا باعتباره موضوعات لحاجاته المختلفة. وعليه فلكي ندرك حقيقة العالم علينا أن نقاوم هذه الحاجات، وإلا فإن الدزاين ذاته سيتحوّل إلى موضوع خارجي أو إلى شيء من الأشياء، فيفقد الإحساس بالعالم بما هو عالمه. فالعالم كما يبدو للنظرة العادية هو مجموعة من الأشياء كالبيوت والأشجار والناس والجبال والمدن…ولكن العالم ليس مجموع هذه الأشياء فحسب. فالظاهرة التي ندعوها العالم ليست كلية إذ الأشياء تفترض أولا وجود العالم بشكل سابق عليها وليس العكس. فكأن فكرة العالمية هي التي تؤسس ظواهر الكون مادية كانت أم معنوية. ولا يمكن تجاوز هذه العالمية أو تخطيها مادامت هي العمق الحقيقي لوجودنا. وتوضيحها يعني، أن اهتمام الإنسان بالعالم يجعله يحوّل ظواهره إلى أدوات ذات طابع نفعي له، مما يعني أن الاستعمالية هي الصيغة التي تؤلف طبيعة الأشياء بالنسبة للدزاين، وهي التي تعطي لتلك الأشياء ثقلها الوجودي. من هنا تكون مواجهة الإنسان الأولى للعالم غير محايدة وتفتقر إلى الطابع المعرفي الصرف؛ لأنها تقدّم له عالما عمليا قابلا للاستعمال وللاستغلال من قبله. والأشياء تحيل إلى أشياء أخرى، وهي لا تأتلف في إطار أنطولوجي إلا إذا أرجعت إلى عمقها الحقيقي الذي تتشكّل بموجبه وهو العالم أو العالمية. ولما كان الدزاين هو المركز الذي تتحلّق حوله نظم الأشياء وعلاقاتها، فإنه هو الذي يكسبها معناها لأنه لا يرجع إلى شيء غير ذاته. وبالمقابل لا ينبغي تفسير الاهتمام أو الانشغال بأنه يدل على أن وجود الإنسان تسيطر عليه اعتبارات عملية ونفعية لأن المنافع والحاجات التي تقدّمها الحياة اليومية له لا قيمة لها في حدّ ذاتها، وإنما هو مدفوع بالحاجة والاهتمام لأنه موجود في العالم ومرتبط به. وهو بهذه المواجهة البراغماتية مع العالم تكون معرفته مقصورة على الموضوعات التي تروي حاجاته. بحيث الأشياء تتموضع بالنسبة لنا، تجاورنا أو تبتعد عنا حسب مسافات لا يحددها المكان نفسه بقدر ما تحددها مدى الحاجة إليها. وهكذا فالمكانية قد تتحقق بالنسبة للأشياء في العالم عن طريق الدزاين. وهذا الأخير لا يرتبط بصيغة الاستعمالية- أي ليس هو أداة لغيره – إذ ليس له مكان بين الأشياء، فهو ليس في المكان، ولكنه موجود في العالم المحدّد حسب اتجاه الاهتمام الصادر عنه. والحضارة الصناعية تمجّد العلاقة الأداتية بين الإنسان والأشياء لكي تلهيه عن كشف معنى العالم في ذاته، وكشف معنى وجوده في العالم. فالحياة الاجتماعية تفرض على الإنسان عالما مصاغا قبله. إلا أنه يستطيع عبر اهتماماته الخاصة أن يغيّر شكل ذلك العالم. فالأنا إذن ليس شيئا قد تكثّف وجوده واكتمل، ولكنه إمكانية مستمرة على الوجود والتحقق. فهو يسعى جاهدا إلى تأصيل ذاته في العالم. ولكنه ليس موجودا بمفرده، فهنا الأشياء والأفراد الآخرين. لهذا كان وجود الإنسان هو وجود بين الآخرين بدون امتياز ولا تفاضل. لكن مع ذلك لا يمكن أن تكون المشاركة الوجدانية أو التعاطف هي أساس العلاقة مع الآخر. فهناك من الأفراد من يتمتع بوجود مشروع وهناك من يعتبر وجوده غير مشروع إن لم نقل فاسدا. وكل فرد يسعى أن يتميز عن الآخرين بشتى الطرق دون أن ينجح في الوصول إلى أي استقلال: فأنا مرتبط بشتى الأشياء الخارجية سواء مع الأفراد المشابهين لي أو مع الأشياء والأدوات. ولا أكاد أتحرر من مهمة تشغلني حتى تستقطبني مهمات أخرى مختلفة، وتربطني بقيود جديدة. وهكذا فأنا أخضع لدكتاتورية بدون دكتاتور. وهذا الدكتاتور الذي لا اسم له هو عبارة عن ذات غفل لا شخصية يطلق عليها هيدغر "الهم". وميدان سيطرة الهم هو الحياة اليومية بكل ما تفرضه علينا من التزامات، وما تلصقه بنا من هموم ومشاعر وأفكار، دون أن نتمكن من مقاومتها المقاومة الجدّية. فالهم يمنع كل فرد من أن يتخذ له قرارا يحدد به سلوكه الخاص، إذ يدفعه إلى أن يختار حسب ما يناسب الكل، وبذلك فهو يجرّده من مسؤوليته، ويحرر كل فرد من ثقل وجوده الشخصي. وبقدر ما تعظم إرادة التمرد لدى الفرد بقدر ما تشتد مقاومة الهم إلى أن يستسلم لهذا السلطان الأعمى غير المحدد، مقايضا على أصالته وحريته بنوع من الطمأنينة والراحة السلبية التي يمنحها له الهم. فكأننا إذا أردنا أن نحصل على ذلك الفهم لوجودنا وتلك المشروعية التي تحدثنا عنها فلا بد إذن من أن نقوم بعملية تحرر من سلطات الهم. والهم كما رأينا ليس له أية شخصية مباشرة، فهو إذن صفة للوجود العام. والوجود اللامشروع هو الأنا وقد فقد وجوده الشخصي وضاع في سديم الكل. فالهم هو صيغة لوجود الدزاين في ذاته ولكنه في حالة إضاعة لهذه الذات. إنها عدم نسبي وليس بمطلق. فهي الصيغة التي توجد عليها الأنا في معظم الأحيان. وأكثر الناس لا يشعرون بالحاجة إلى التحرر من الهم. ومن يتحرر منهم يصبح وجوده مشروعا. بيد أن هذا التفاضل ليس أخلاقي، حيث الوجود المشروع وغير المشروع صيغتان واقعيتان للوجود في العالم. فبينما ينزع وجود الهم إلى استغراق الدزاين فيما يقدّمه له من اهتمامات يومية ومشاغل تربطه بالعالم المحيط، وتحيله تدريجيا إلى شيء من أشيائه، فإن الدزاين يناضل لكي يقوم بحركة معاكسة محاولا فهم وضعه اللامشروع، وهذا يضعه تدريجيا على طريق أصالته وحريته الخاصة. إن أساس وجود الإنسان هو حالة وجدانية ناتجة عن وضع أوّلي أصلي حيث يشعر أنه موجود هناك، أي مقذوف به في عالم لم يختره بنفسه. وأغلب الناس يطمسونه متجاهلين حقيقة وجودهم. والحق أن أكثر ما يخيف الفرد أن يواجه حقيقة وجوده التي يعبّر عنها بالقول: إنني مقذوف إلى العالم دون أي اختيار من قبلي، بحيث أن الشعور بالترك والعزلة يلتصق بوجوده التصاقا وكأنه التعبير عن طبيعته وسيصحبه إلى الأبد. ويمكن للدزاين أن ينسى وضعه الأصلي هذا عبر عملية الإدبار والإقبال، أي عبر الانغمار داخل الهم . كما يمكن له أن يكتشف وضعه الأصلي ذاك عن طريق انفعالين آخرين هامين هما: الخوف والقلق. فالخوف مرتبط دائما بعلاقة الإنسان بالأشياء والمحيط فهو علامة على أن ثمة خطر ما يتهدد أمن الدزاين، ولهذا فهو خوف من شيء ما محدد له علاقة باهتماماته اليومية، أما القلق فهو شعور أعمق يكشف للدزاين الطريقه نحو وجوده المشروع. إنه خوف من لاشيء ينتاب الفرد حينما يريد التحرر من الهم. ولهذا فهو يمثّل صيغة للوجود المشروع. ويلتجئ الفرد لعدّة وسائل للتعبير عن هذا الانفعال بما في ذلك الإشارات والرموز. فاللغة مرتبطة بنزعة الموجود الإنساني للتعبير عن انفعالاته تلقاء موضوعات حاجاته. وهو تعبير يؤدي إلى صيغة وجود جديدة هي الصيغة الخطابية. وهي تفيد الدزاين في إعطاء المعاني للأشياء بما هي أدوات له، كما تتيح له الدخول في حوار مستمر مع أغياره. وهذا الوجود مع الآخرين له عند هيدغر ثلاثة أوضاع يمكن أن يدرس من خلالها وهي: الثرثرة اليومية، والفضول أو حب الاستطلاع، والالتباس. أما الوسيلة التي بواسطتها يهتدي الدزاين إلى وجوده المشروع ويتحرر من الانغمار في عالم الهم هي القلق الوجودي. لقد قلنا أن الخوف هو من صفات الوجود في العالم في حالة ارتباط الدزاين بالهم، وإن هذا الخوف يدفع بصاحبه إلى ضلالات الثرثرة والفضول والالتباس ليخفي عن ذاته ضرورة مواجهة العدم في صميم كيانه الفردي. بينما القلق هو ما يفتح له سبيل التعرف على عدمه. فالقلق يهدّم ما يبنيه الهم من ضلالات لإغراق الفرد في طمأنينة كاذبة. وهو يهزّ وجود الأشياء من أعماقها فتتحطّم قيمها من حيث هي أدوات ومنافع.ويؤدي القلق بالإنسان إلى أن ينعزل عن العالم الخارجي، وينقطع عن صيغ وجوده المزيفة ويغرق في وحدة وعزلة مطلقة يخيّم عليها العدم الرهيب. ويحسّ الدزاين بعد أن انهارت أمامه جميع أسس الحياة اليومية بشعور ثقيل ومبهم من الغرابة، واللاطمأنينة الكلية في عالم لم يعد هو عالمه. وبقدر ما ينفصل عن أوهام الضياع في وجود الهم، بقدر ما يشعر أنه مضطر بأن يمارس فعالية خاصة به، هي حريته التي كانت أخفتها عنه مظاهر الزيف الخارجي.وعليه الآن أن يمارسها في سبيل أن يختار له ذاتا جديدة يثق بأنها من صنعه وليست من عمل الآخرين. والحق أن الدزاين لا يبلغ هذا الانفصال عن عالم الهم، والالتقاء وجها لوجه مع ضرورة ممارسة حريته لصنع ذاته بشكل جديد، إلا عندما يبدأ بالتساؤل عن معنى وجوده. في هذه اللحظة يشعر أنه مقذوف أمامه، وأن سؤاله ذاك يتضمن إمكانية إعطاء معنى جديد لوجوده، لأنه لا يعطيه إلا تحت وطأة همّ خلق الذات. وعليه فالهم الذي هو رديف لمعنى القلق، هو سبيل الدزاين لأن يكون ما يريد أن يكونه، ولن يكون إلا تلقاء أفق مستقبل أمامه.
الصيغة الجديدة التي يكتسبها الإنسان هي أنه موجود من أجل الموت. وهذه الصيغة ليست كمالا وإنما تدميرا مطلقا له. ولكن ليس لأحد تجربة بالموت حتى إن كان يستطيع مراقبة موت الآخرين. فإذا كان في الحياة اليومية يتقمص صورة وجود الآخرين، فإنه في الموت ليس إلا نفسه لأنه يموت لوحده. إن الدزاين لم يكتمل وجوده بعد، فهو مؤجل الوجود دائما، إذ أن عليه أن يوجد في المستقبل. فأعمق صورة للقلق بالنسبة للوجود في العالم هو اكتشافه لعبثية الوجود واستحالة إعطائه المعنى النهائي. فالقلق إذن هو سبيل الإنسان الوحيد لاكتشاف حقيقة وجوده بما هو وجود من أجل الموت. وليس له خارج هذا القلق سوى الضياع اللاواعي في سديم الهم. كما أن الموت يكشف عن كلّية الدزاين الذي يتصف في ذروته بأنه من أجل الموت، ولكنه لم يوجد بعد حتى وإن كان حاضرا أمام وعيه ببصيرة مسبقة. وأما الوجود اليومي فيتصف بكونه فرارا من مواجهة الموت. غير أن الوجود المشروع هو الذي يقبل أن يكون الموت أعلى إمكانية متاحة له، ويدركه في الوقت ذاته كعدم محض. وهو بذلك يجعل من ذاته سببا وحيدا لوجود إمكاناته وموته الخاص. فهو يدرك أن لا أحدا يستطيع شيئا من أجله. إذ أن كل فرد يحس بثقل موته الخاص، وأنه تلقاء موته ذاك معزول ومتوحد. فلا مهرب له من مواجهة موته بما هو إمكانيته الأخيرة في الوجود، إذ لا يملك تلقاءها إلا أحد الموقفين: القبول أو السلوان الكاذب. وحرية الإنسان الحقيقية- والتي هي في آخر المطاف حرية سلبية- هي الاختيار بينهما. إما أن يفر الإنسان من مواجهة هذه الحرية وتوكيدها باللجوء إلى الانغمار في سديم الهم، باحثا لنفسه عن سلوان كاذب عبر الانشغال بصيغ الحياة اليومية كالثرثرة والفضول والالتباس، وإما أن يختار الوجود المشروع الذي لن يكون سوى ترقّب للموت. حيث أن إدراكه لعجزه المطلق أمام الموت يولّد عنده شعورا بالقدرة الخارقة التي ليست شيئا آخر غير قوة الانفصال. تلك هي الحرية أمام الموت، وتلك هي القضية الأساسية للوجود المشروع. إذ أن عدم اكتماله هو شيء مكوّن لمعناه، ويدخل في صلب كنهه وماهيته. فهو فرار دائم نحو إمكانياته دون أن يستطيع اللحاق بذاته، وهذا هو قدره الحقيقي. إذ الإنسان ليس موجودا بعد. فالقلق الناجم عن حتمية الموت والعدم هو السبيل لجعل الدزاين يملك فرديته في أعلى درجاتها. لأنه تلقاء الموت تنكشف له حريته في أن يكون ما يريد أن يكونه. فكأن الموت لا يدفع الإنسان إلى اليأس بل إلى اكتشاف أعمق حرية لديه، والسعي لتحقيق كامل إمكاناته.
المراجع
1- E. Husserl, La crise des sciences Européennes et la phénoménologie transcendantal.
2- E. Husserl, Recherches logiques.
3- E. Husserl, Méditations Cartésiennes.
4- Idées phénoménologiques.
5- M. Heidegger, Être et temps.
6- M. Heidegger, Interprétations phénoménologiques d’Aristote.
7- M. Heidegger, De l’essence de la vérité.
8-إسماعيل المصدق:"هوسرل وأزمة الثقافة الأوروبية"،مجلة"مدارات فلسفية، العدد1998