محنة الوجود .. دراسة مقارنة بين هيدجر وبدوي
د . محمد سالم سعد الله
يهدف هذا البحث إلى بيان أوجه التأثير والتأثر بين فيلسوفين ينتمي كلّ منهما إلى حضارتين متباعدتين زمناً ومكاناً ، معطىً ونتاجاً ، رواداً وفكراً ، ويتمثل مشروع هيدجر الفلسفي بتعديل مهم لمعطيات هوسرل على صعيد ( الوعي ) في علاقته بالعالم ، حيث نقل هيدجر المشروع الظاهراتي من دائرة ( المعرفة ) إلى دائرة ( الوجود ) ، بمعنى نقل مركز الثقل الظاهراتي من الوعي في علاقته بالعالم إلى الوجود الإنساني في علاقته بالعالم(1). ولم يعد الوعي والقصدية يشكلان حيوية منهجية عند هيدجر لأنّهما استبدلا بتصور فكري آخر انبثق من فلسفة تقدمية تتجاوز الموروث الميتافيزيقي الغربي ، وتتجه نحو تحليل مواطن القوة فيه مُركزا على هوية الكينونة ، ورصيد الوجود (Being ) وموقع ( الدزاين = الوجود ـ هناك : Desine = being – there ) ، هذه المفردات الثلاث تشكل مسيرة الذات العارفة حال دخولها عقلانية العالم ، وحال استدعائها لتفتيت العقلانية الغربية الموروثة وبناء عقلانية جديدة منبثقة من كينونة الحدث ، ومن ممارسات الفعل المُمركز المسيطر على كل مظاهر النشاط الإنساني . لقد حوّل هيدجر العملية الفلسفية المبهمة ـ نوعا ما ـ في الظاهراتية عند أستاذه هوسرل إلى مسلكٍ جديد في التفسير أطلق عليه ( الظاهراتية المُفسِرة ) التي ارتكزت بشكل أساس على ( تفسير الكينونة ) بدلاً من وصفها ، وعلى هذا فُسِرت اللغة عند هيدجر بوصفها الوجود المُمحوِر لذاته ، والسابقة للفرد ، والمشتملة على الحقيقة ، وقد أعطى هذا المسار دفعاً مهماً لمنهجية ما بعد البنيوية ، لأنّ التركيز كان منصباً على موقع الوجود نفسه ، وتنظيمات كينونته ، لا على موقع الفرد ومعطياته(2) . ولا شك أنّ معظم الطرح النقدي الحديث أخذ مجمل ممارساته المنهجية ـ بشكل أو بآخـر ـ من ظاهراتية هيدجر على صعيد : اللغة ، والنقد ، والأدب ، والثقافة العامة ، ومن أبرز من تأثر به بشكل مباشر : بارت ( ـ 1980 ) ، وفوكو ( ـ 1984 ) ، ودريدا (3) . لقد وضع هيدجر مسيرة التواجد الإنساني في سياق الوجود الواسع ، مستمداً الوجود الإنساني من الوجود العام للحياة ، محددة مصطلحات ثلاثة للوجود هي(4): 1 ـ الوجود المُتعين : Dasein ، يستخدم للدلالة على أنواع متعددة من الوجود . 2 ـ الوجود التقليدي : Existential ، وهو الحضور والتواجد المباشر . 3 ـ الوجود البشـري : Existent ، وهو المحدد الأساس للكينونة . وينصب تركيز هيدجر على الوجود المتعين لأنّه الأشمل ، ويتضمن الوجودين الآخرين، ومن خصائص هذا الوجود الممنوحة إلى الوجود الإنساني(5): 1 ـ الطابع المتعالي . 2 ـ التفـــــرد . 3 ـ الارتباط الكبير بالذات . وانطلاقا من ذلك حددّ هيدجر في مقالته ( نهاية الفلسفة ) الحيوية الدلالية والمعرفية لتبني مفهوم الإنسان الخارق عند نيتشه ، هذا المفهوم الذي يؤكد ضرورة بقاء العالم والحياة من خلال نشاط هذا الإنسان الذي لا يلجأ إلى استعانة غير المنظور ( الإله ) بل يحكم على وجوده المفترض بالجزئية الغائبة ، لأنه بصفته تلك سيمنح الإنسان طاقة التحرر ، وسيتحكم في مقتضيات وجوده ، وسيمارس بالتالي عدميته التي سعى لها ، لانّ العدمية بحد ذاتها ـ حسب هيدجر ـ تمثل وجوداً لا قانون لها ، ولا ضابط يحدوها ، ولا معيار يملي عليها مسيرتها الفكرية(6). إنّ الفردية ( الكينونة ) التي دعا إليها هيدجر تندرج ضمن سياق العدمية الموروثة عند نيتشه ، وهي تماثل ـ حسب هيدجر ـ غائية التوجه المعاصر ، لأن الكينونة والعدمية يتآلفان بشكل تبادلي ـ حسب ما قرره هيدجر ـ والكينونة نفسها هي متناهية في جوهرها ولا متناهية في ماهيتها ، ولا تكشف عن ذاتها إلاّ عن طريق التعالي على الواقع الوجودي ، ولهذا حاول هيدجر عقلنة الميتافيزيقا من خلال عدّ سؤال الكينونة هو السؤال الشامل لها انطلاقاً من القول أنّ الواقع الإنساني لا يمكنه إنشاء رابط مع الموجود إلاّ إذا احتجز نفسه داخل العدم(7). وقد أسهمت التحولات العقلانية الأوربية ومعطيات اللاعقلانية النيتشوية في نضج الطرح الهيدجري في نواحٍ كثيرة انطلاقا من اللغة والثقافة والفن ، ووصولاً إلى تحديد الخطاب الفلسفي الذي اهتدى إلى علّة الوجود ومحور الكينونة ، ويرى أنّ الفكر الفلسفي الأوربي لم يكن ليُقدم فرضياته لولا رسالة تبني ( مبدأ العلة ) في كل شيء ، وتمثل سلطة ( العلة ) مُوجِهاً في عملية تفريغ القضايا وتوفير الحجج وتعدد البراهين ، وبفضلها ستستمر مسيرة العالم في العصر النووي في ظل طرح نيتشه عن موت الإله ، وبهذا يكون مبدأ العلة الهيدجري هو تصور عقلاني ، ومشروع فكري متكامل(8). وينبغي تصور خطورة الطرح الهيدجري إذا عُلِم أنَ مشروع هيدجر يطال بنية العقلانية بشكل أساس من خلال توجهه إلى توزيع المهام والمسوغات المعرفية المتبناة من مَعين المشروع النيتشوي المتمثل بـ( إرادة القوة ) التي أُريد لها أن تكون الطابع الأساس للكائن و( العود الأبدي ) الذي يُشكل التعيين الأعلى للكينونة ، والإنسان الخارق الذي يتجاوز حدود سلطة الإله ليعلن أنّه المُستولي على سلطته ، وبهذا تحددت طروحات ما بعد النيتشوية ( Post-Nietzschean ) بالمشروع الهيدجري الجديد المتمركز على أسس ثلاثة(9): 1. إرادة الاقتـــدار . 2. العود الأبدي للذات . 3. التجاوز القيمــيّ . إنّ طروحات ما بعد النيتشوية التي أطلقها البحث هنا تصدق على معطيات هيدجر الذي ارتدى مشروع نيتشه وحوّله إلى فِكرٍ متقدٍ ذي فاعلية تُوصف بـ( الصيرورة ) ، إذ حولت هذه الصيرورة التراجيديا النقدية التقليدية إلى ( ميلودراما ) يختلط فيها الرصيد الحقيقي بالرصيد الزائف ، وتشتبك فيها المفاهيم حتى تصل إلى قلبٍ للمعطيات ، وإزاحةٍ للثوابت ، وتدميرٍ للتطرف ، واستغلالٍ لمواطن الخلل في العقلانية المعاصرة ، وتأثير في معطيات (دريدا ) النقدية ، وكيف تحولت تلك المعطيات من ممارسات خطابية فلسفية إلى مؤسسات جمعية وخلايا للعمل وللإبداع على صعيدي النقد والسياسة . إنّ الأسلوب الفكري لنيتشه ـ ومن بعده هيدجر ـ يريد إعادة تقويم للحياة وللوجود من خلال العمل على تفعيل العلاقة بين إرادة الاقتدار والعود الأبدي للذات أولاً ، ومن خلال قلبٍ للقيم الكلاسيكية ثانياً ، وعملية التفعيل هذه لا تفهم إلا من خلال العدمية والقبول المطلق للحياة وللذات وتأكيد النفي والهدم والمعاناة ورسم مأساة جديدة تُشعرنا بشكل دائم بتأنيس العالم أي : الشعور بسيادته(10). لقد وُصفت اللحظات النيتشوية والهيدجرية بأنّها لحظات إيجابية لإعادة بناء الفلسفة الأوربية بعدما مرت بحالة جمود فكري مع المثالية والموضات التي تبعتها ، هذه اللحظات تأرجحت بين إعلان العدمية وبيان هوية المسيرة الإنسانية ، وبين إشكالية العود الأبدي وإشكالية الميتافيزيقا ، هذا التأرجح هو الذي خلق طرح نهاية التاريخ وتحولات ما بعد الحداثة والحركة المضادة المتمثلة بطرح ما بعد الاستعمارية ، والحركة النقدية المتمثلة بما بعد البنيوية ، من هنا اكتسبت اللحظة النيتشوية والهيدجرية شرعيتها من خلال تمثيل المنعطف الاستراتيجي للعقلانية الأوربية ، الذي لخصه نيتشه في ميدان العدمية في موت الإله ، وسقوط القيم العليا ، ولخصه هيدجر باستحالة الوجود إلى قيمة خاضعة لسلطة الذات والانحلال الكلي للوجود في خطاب القيمة ، وبهذا وصلت العدمية إلى مرحلة اكتمالها ونضجها عن طريق هاتين اللحظتين(11). إنّ بداية الفلسفة ـ حسب هيدجر ـ تكمن بطرح ( السؤال ) ، وسؤال الفلسفة الذي يريده هيدجر هو الوقوف على باب الكينونة ، والفلسفة ليست إلا علماً للكينونة(12)، ولهذا اتجه البعض إلى القول : يكفي أن تكون الفلسفة المعاصرة هيدجرية(13). وبعد تحديد ( هيدجر ) للكينونة لم ينسَ إمكانية كشف المعنى التي يمكن أنّ تتأتى ـ كما يرى ـ من خلال الظاهراتية التي أسفرت ممارساتها المنهجية عن كشف الوجود في عملية الفهم الواعي ، وتفسير الوجود من خلال التأكيد على تُموضع الظاهرة في دائرة الحدث الفكري(14). وفي مرحلة أخرى من مراحل اللحظة الهيدجرية تتحول فلسفة الوجود ( Existence ) في نهاية الأمر إلى فلسفةٍ للكينونة ( Being ) ، وتتحول الظاهراتية إلى التأويلية ( Hermeneuticism )(15) ، وتبدأ مسيرة جديدة في الفكر الفلسفي الأوربي تعالج سلطة الفهم والتأليف وتراعي حقوق عملية القراءة وتُشكك في اكتمال دلالة النص بمعزل عن تلقيه . وستقود هذه النقطة ـ بالذات ـ إلى الحديث عن علاقة الظاهراتية بالتأويلية ، وبيان أوجه ( النسب ) المعرفي بين المنهجين . تعالج الظاهراتية مشكلة فهم الوجود ، والتأويلية تعالج إشكالية الفهم وجوداً ، بوصفه تصوراً ظاهراتياً يراعي خصوصية انفتاح الكائن على ذاته وعلى الوجود ، وكذلك لا تسعى الظاهراتية إلى تفسير العالم من خلال شروطه الممكنة ، وإنّما تهتم بتشكيل التجربة بوصفها لقاءً وجودياً بين الوعي والعالم ، بينما تسعى التأويلية إلى تفسير العالم من خلال الاهتمام بميكانزمات الفهم ، بوصفها لقاءً ظاهراتياً بين الوعي والوجود ، فضلاً عن أنّ الظاهراتية تهتم بصياغة صور الظواهر من خلال إضفاء المعاني والدلالات عليها ، وإكسابها ماهيات تعبر عن خصوصيتها ، في حين أنّ التأويلية تهتم بصياغة الفهم المنبثق من التحليل التنظيمي لصور المعنى ، ورصد إمكانيات تنوع دلالته ، وتحديد المُكون التفسيري لعملية الدلالة ، وتعمل الظاهراتية على الاشتغال على تحليل الظواهر وتفعيل حركة الوعي وقصديته في توظيف حيوية المعنى ، وفي المقابل تعمل التأويلية على الاشتغال على النصوص ببيان بنيتها الداخلية ، ووظيفتها المعرفية والبحث على حقائق مضمرة في النصوص ، وبهذا تحددت الظاهراتية بوصفها فلسفةً في المعنى ، والتأويلية بوصفها فلسفةً في الفهم(16). ويُحدد ( مركز الظاهراتية العالمي ) العلاقة الوثيقة بين فلسفة الظاهراتية ، وفلسفة التأويلية بوصفهما رافدين يسيران باتجاه واحد ، بمعنى أنّ الدعائم المنهجية والفلسفية لكليهما تكاد تكون متقاربة ، فقد انبثقا ـ في الأصل ـ لأجل تفسير النصوص اللاهوتية ، وتحديد إمكانية الخروج بقراءات معاصرة للنص المقدس ، فضلاً عن إعادة الثقة بالمخزون الدلالي للنص المقدس بعدما عمدت ( الكنيسة ) على فصل الدلالة الحيوية للقراءات الجديدة ، وإبقاء هيمنة الدلالة التقليدية لضمان بقاء سلطة البابوات ، وتفعيل دور المُمثل الدائم للسفارة الإلهية في الأرض(17)، وليس ذلك فحسب ، بل لقد عمدت الظاهراتية وحليفتها التأويلية إلى مساندة حملاتها لتفعيل قراءة النص المقدس وذلك بالالتقاء مع الوجودية والميتافيزيقية في مواطن كثيرة من أهمها(18): 1. الأصل والعودة إلى الأشيـــاء. 2. التجربة المعيشة في صلب الحاضر الحيّ . 3. فهم الذات وتجربة الآخــــر. إنّ الاتفاق على الأصل الأول هو اتفاق على فكر التأسيس والعودة إلى الشيء نفسه إلى ماهيته وجوهره والبحث عن أصله ، هو الانتقال من فهم الوجود إلى الفهم بوصفه وجوداً ، هو علاقة الجدل بين الاتصال والانفصال ، والاتفاق على الأصل الثاني هو الاتفاق على منهج الوعي اتصالاً مباشراً بموضوعه وإدراك ذاته ، والأصل الثالث يميل إلى إعلان أهمية الجسد بوصفه المساحة الوجودية والعيانية التي تتحرك من خلاله التجارب ، فضلاً عن دوره في حمل الإدراك الحسي عبر الأعضاء المتصلة اتصالاً مباشراً بالعالم الخارجي(19). أما مشروع بدوي فيتمثل بتحقق الآنية في الوجود عن طريق العدم ، العدم الذي يحقق التسليم المطلق في تفعيل المفاهيم وتكوينها ، لأن العدم هنا لا يساوي الفناء من حيث هو انتفاء الوجود إلى صيغ عبثية ، إنما هو الإنتقال من حالة الوجود المتحقق المتصف بشرعية الزمان وحركة المكان إلى حالة الوجود المطلق الذي لا يتحدد بتناهي الزمان ومحدودية المكان . إنّ الطقس الفلسفي الذي يمارسه بدوي في تحديد وجود الآنية يتمثل بسلسلة نسقية من المصطلحات المنفتحة على الفرد والمنغلقة على المجموع ، لأن العناية بالمدلول الوجودي ينبغي له الانطلاق من التعيين الممكن والوصول إلى الوجود اللامتعين والغرض تقديم التجربة المعيشة التي يحقق الفرد وجوده من خلالها ، وإذا كان هيدجر قد استطاع التحول من فلسفة الوجود إلى فلسفة الكينونة ، فإن بدوي استطاع التنقل بين فلسفة الأنا ( متحققة الوجود ) ، وبين فلسفة الأنا ( ممكنة الوجود ) ، بمعنى التنقل بصفة الزمن المتوتر بين الوجود والعدم ، بين ما هو كائن وبين ما سيكون . وقد جعل بدوي شرط الإنتقال إلى الآنية متمثلا بالخروج من الإمكان إلى التحقق وهذا الأخير لا يتم إلاّ بالعدم ، لأنّ العدم داخلٌ في تكوين الوجود ما دام شرطاً في تحققه ، ولهذا يقرر بدوي أنّ الآنية لا تستطيع أن تكون على صلة بالموجود إلاّ إذا استبقت نفسها داخل العدم . وإذا كان الوجود الإنساني عند هيدجر يتسم بالطابع المتعالي والتفرد والارتباط الكبير بالذات ، فإنّه يتسم عند بدوي بالتعالي والخروج من الإمكان إلى التحقق والفردية التي يُعد العدمُ الأصلَ فيها ـ كما قرّر بدوي(20) ـ الذي أعطى للعدم أهمية كبيرة بصفته الممثل الأكثر أهمية للميتافيزيقا ، فالتناهي مصدره العدم ، والوجود الحقيقي إثبات عيني للعدم ، والعدم هو الأصل في الفردية ، وهذه الأخيرة تقتضي الحرية لأن الحرية معناها استقلال الذات بنفسها وهذا هو الفردية ـ حسب بدوي ـ فالعدم إذن اصل للحرية . والنقطة المهمة التي يمكن الإشارة إليها هي أن هيدجر جعل من الوجود نتيجة يمكن الوصول إليها عن طريق الوعي الظاهراتي ، أما بدوي فقد جعل من الوجود نقصاً لا يمكن إتمامه إلا من خلال العدم ، فالطريقان إذن متباينان : طريق يسعى إلى الوجود من خلال دلالة متعالية تصور العالم على أنه حركة تصاعدية تمثل حركة الوعي تجاه الأشياء ، وطريق يمارس روحية الفعل الفلسفي للوصول إلى تسليم واعٍ بضرورة العدم بوصفه شرطاً للوجود المحقق للفردية والحرية وهي قيم وجودية يتغنى بها التكوين التنظيري للفلسفة الوجودية . وثمة تحديد آخر ينطلق من التنوعات الفلسفية لكل من هيدجر وبدوي يتجلى في منهجية استيعاب كل منهما للحقيقة النسبية التي تشغل واقع الوجود وصفته بين التمام والنقص ، فضلا عن النسق الفلسفي المتبع لديهما ، فهيدجر ينطلق من قصدية واعية تتسم بطابع متعالٍ ، تعمل على تملك الخطاب المحيط بالكينونة لتقدمه للآخر بصفته التمثيل الشرعي للواقع المعيش ، أما بدوي فيتسم بتحديد أقل تعرية لمسار الوجود المطلق يتمثل بتناغم الخطاب وديمومته وفاعليته من خلال الطرح المرن لتحقيق الفردية واثبات الذات ونقلها من التهميش مع علاقتها بالآخر إلى التمركز مع علاقتها بالذات ، وهذا ما قصـده بودي في الدعـوة إلى العـدم حيث قال : " ألغي العدم الموجود بين ذاتي والذوات الأخرى وبإلغاء العدم تنتفي الفردية ، وبإنتفاء الفردية تزول الحرية ، والذات الحقة إذن هي التي تحافظ على هذا العدم "(21). ومن المهم ذكره أن العدم المقصود في هذا الميدان لا يعني مطلقا انتفاء البناء التراتبي الذي يقوم عليه الوجود ، إنما يمثل مقصداً تتجه إليه الذات لتحقيق وجودها عن طريق إلغاء الصلة المُهمشة مع الآخر لتبدلها بعلاقة أخرى أكثر تماسكاً هي مع الذات ، إذن هذا العدم هو رياضة وجودية ـ إن صح التعبير ـ تكمل مركب النقص في علاقة الذات مع نفسها ، لكنها لن تكمل علاقة الوجود الناقص الذي تتسم به هذه الذات ، وذلك لأن ثقافة الظل التي ستحيا بها هذه الذات لن تتمتع برسم مطلق للوجود ، إنما ستبقى أسيرة الانقطاع مع الآخر والتواصل مع الأنا . لقد ركز هيدجر على مسيرة الذات العارفة حال دخولها عقلانية العالم ، وحال استدعائها لتفتيت العقلانية الغربية الموروثة وبناء عقلانية جديدة منبثقة من كينونة الحدث ، ومن ممارسات الفعل المُمركز المسيطر على كلّ مظاهر النشاط الإنساني ، في مقابل ذلك ركز بدوي على مسيرة الذات العارفة حال دخولها حصن الفردية لتنطلق من ثمَّ إلى عنصر العدم الذي عدّه عنصراً جوهرياً مكوناً للوجود ، ومن الجدير بالذكر أنّ هيدجر وهو يتحدث عن مسيرة الذات العارفة يربطها بشكل مباشر بالدزاين أو الكينونة ، في حين يربط بدوي مسيرة الذات العارفة بالزمان بوصفه العلة الفاعلية للإتحاد بين الوجود والعدم لتكوين الآنية ، وهنا يتضح للمتأمل الفرق الجوهري بين الفيلسوفين : فالأول يتجه نحو الكينونة ، والآخر يتجه نحو الآنية المتحدة بالزمان ، الكينونة هي لتحقيق النزعة الفردية بصيغتها التشخيصية المعروفة لدى الآخر ، في حين تعني الآنية تعالي الأنا في إطار مشروعها في تحقيق العدم مع غيرها ، وتحقيق التواصل مع شخصها في الوقت نفسه ، والغاية من ربط الزمان بالآنية هي أن " دخول الزمان في الوجود الماهوي يؤدي إلى اتحاد العدم بالوجود ، العدم الذي يمثله الزمان بوصفه مصدر التناهي ، والوجود الذي يمثله الوجود الماهوي بوصفه الإمكان المطلق فتكون عنهما الوجود على هيئة الآنية "(22). إن قراءة كتاب الزمان الوجودي هو من الصعوبة بمكان ، لأن هذا الكتاب يشكل لوحة فلسفية ، وحقلاً خصباً لحشد من الأفكار والمعطيات التي تحتاج من القارئ التأمل والتدبر والوقوف أمام كل فكرة واردة في هذا الكتاب ، وقد يكون هذا سبباً في وصف بعض المفكرين العرب هذا الكتاب على أنه كتاب غير مفهوم ، أو أنه كتاب مستغلق على الفهم . يثير الكتاب بقسميه : ( الوجود بالزمان ، والوجود الناقص ) جملة من التساؤلات الفلسفية المعقدة ، التي تشكلت درامياً لتقدم أطر نظرية ( بدوية ) عن الزمان ، فما الحديث عن الوجود والروح والإمكان بالنسبة للفردية ، والتناهي والإرادة والتاريخية الكيفية والذاكرة والعدم ، … إلا حديث عن الزمان من حيث ماهيته وجوهره ودوره في صياغة وجود الذات . الهوامش : (1) الخبرة الجمالية : دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية : هيدجر . سارتر . ميرلو بونتي . دوفرين . انكاردن ، سعيد توفيق ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ، ط1 ، بيروت ، 1992 : 79 . (2) see : Literary Theoy: An Introduction , Terry Eagleton , Basil Blackwell Oxford , U.K , 1983 : 60 – 62 . (3) Directions for Criticism : structuralism and its Alternatives , Murray Krieger & L. Dembo , the University of Wisconsin press , U.S.A , 1977: 94 . (4) الوجودية ، جون ماكوري ، ت : امام عبد الفتاح ، مراجعة : فؤاد زكريـا ، سلسـلة عالم المعرفة (58) ، الكويت ، 1982 : 91 . (5) المصدر تفسه : 91 . (6) The end of the philosophy and the task of thinking , in : Deconstruction in context, Literature and philosophy , Edited by : Mark C. Taylor , University of Chicago , Chicago . London , 1986: 220 . (7) ينظر : الميتافيزيقيا ، ت : آمال أبو سليمان ، مجلة العرب والفكر العالمي ، العدد 4 لسنــة 1988 : 53 ـ 54 . وينظر : ما الفلسفة ؟ ما الميتافيزيقيا ؟ ، ت:فؤاد كامـل ومحمود رجـب :113ـ114 . (8) ينظر : مبدأ العلة ، هيدجر ، ت : نظير جاهل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشـر ، ط1 ، بيروت ، 1991 : 51 ، 111 . الإبداع بين نيتشه وهيدجر ، هيدجر ، ت : جورج كتورة ، مجلة العرب والفكر العالمي ، العدد 7 لسنة 1989 : 44 ـ 45 . (9) هيدجر قارئاً نيتشه ، سعاد حرب ، مجلة العرب والفكر العالمي ، العدد 4 لسنة 1988 : 3 . (10) ينظر : المصدر نفسه : 10 ـ 12 . نداء الحقيقة ، هيدجر ، ت : عبد الغفار مكاوي ، سلسلة النصوص الفلسفيـــة (6) ، دار الثقافة ، القاهرة ، 1977: 350 ـ 352 . (11) ينظر : نهاية الحداثة . الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة ، جياني فانتيمو، ت : فاطمة الجيوشي ، سلسلة دراسات فكرية (37) ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق ، 1998 : 3 ، 24 . (12) هيدجر والسؤال عن الزمان ، فرانسواز داستور ، ت : سامي أدهم ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ،ط1 ، بيروت ، 1993 : 35 . (13) ينظر : نقد العقل الغربي . الحداثة وما بعد الحداثة ، مطاع صفدي ، مركز الإنماء القومي ، بيروت ، 1990 : 17 ـ 20 . (14) The phenomenology and general Antology , in : The Hermeneutics Reader : Texts of the German tradition from the Enlightenment , to the present , Edited by : Kurt Mueller Vollmer , Basil Blackwell , London , U.K , 1985: 215. (15) ينظر : الفلسفة الألمانية الحديثة ، روديجر بوبنر ، ت : فؤاد كامل ، مراجعة : عبد الأمير الأعسم ، سلسلة المائة كتاب ، دار الشؤون الثقافية العامة ، ط1 ، بغداد ، 1986 : 40 ، 70 . (16)الفينومينولوجيا وفن التأويل،محمد شوقي الزين، مجلة فكر ونقد ، العدد 16 لسنة 1999 : 71 ـ 75. (18) ينظر : الفينومينولوجيا وفن التأويل : 82 ـ 83 . (19) ينظر : المصدر نفسه : 82 ـ 83 . (20) الزمان الوجودي ، عبد الرحمن بدوي ، مكتبة النهضة المصرية ، ط 2 ، القاهرة ، 1955 : 234 . (21) المصدر نفسه : 236 . (22) المصدر نفسه : 239 . اذالم تفتح لك التجربة أذنيك فلن تفقه شيئا |