[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]باعتباري أصيل مدينة صفاقس جنوب تونس قد ولدت وترعرعت فى عائلة محافظة كان تكوينى الأول فى المدرسة القرآنية حيث حفظت القرآن بأكمله وتعلمت كتابة الخط العربي كما تعلمت أيضا بعض قواعد اللغة الفرنسية ولكني لم أتمكن من هذه اللغة إلا فى الثانوية حيث التهمت قصص فيكتور هيجو ثم بلزاك ولا سيما زولا .ولكننى فى الحقيقة قد تأثرت كثيرا بطه حسين وبالعقاد ثم بميخائيل نعيمة وتكونت لدى قناعة راسخة بأن الفكر التنويرى العقلانى المتجذر فى كياننا هو الوحيد الذى يفتح أمامنا باب التقدم ، لذلك كنت أوافق طه حسين فى نظرته التقدمية للوجود و أوافق فى الأن نفسه عباس محمود العقاد ى فى البحث عن منابع هذا الفكر التقدمي فى حضارتنا وثقافتنا المتجذرة ولكن الحدث فى حياتى الفكرية يتمثل فى قراءتي لبعض كتب ماركس وفرويد وسارتر مما أثر فى تكوينى الأول وأنا ما زلت تلميذا فى الثانوية بمدينة صفاقس ،وكان للأساتذة الفرنسيين فى الآداب وفى الفلسفة تلامذة ميشال فوكو تأثيرا كبيرا على تكون قناعتى الفلسفية حتى التحقت بالجامعة التونسية والتى كان يدرس فيها الفلسفة جماعة مهمة من الفلاسفة الفرنسيين المشهورين وأذكر منهم جيرار دلدال المختص فى الفلسفة الأمريكية ، وأوليفياى دوبول المختص فى الفلسفة الأخلاقية ،وفرنسوا شاتلي فى الفلسفة اليونانية وجيرار لوبران المختص فى فلسفة كانط ولا سيما ميشال فوكو الفيلسوف المعروف الذى ربطتنا به علاقة خاصة ،إذ كنا جماعة من الطلبة قد تخرجنا من معهد صفاقس وتعرفنا من قبل على فلسفته وقد انخرطنا فى الحركة الطلابية التونسية المنتمية إلى اليسار الماركسى، فكان يتصل بنا لمناقشة كتاب ماركس فى رأس المال، وتدارس الحياة الفلسفية بصفة عامة وخلافاته مع سارتر وكان يعاضدنا فى نظامنا الطلابى.(**)
تحصلت على الاجازة فكنت ضمن البعثة التى قررتها الحكومة إلى جامعة الصربون للدراسة المرحلة الثالثة وهناك حضرت دروس ميشال فوكو فى الكولج دى فرانس ودروس لوى التوسير ،ودروس جاك دريدا ودروس دى سنتى وناقشت أطروحتي فى دكتوراه مرحلة ثالثة تحت أشراف الأستاذة هيلان فيدرين ورئاسة فرنسوا شاتلى وكان موضوعها "فكرة الحرب فى الفلسفة السياسية المعاصرة " وقد صدرت فى طبعتين باللغة الفرنسية 0
وهناك تعرفت على زوجتى رشيدة بو بكر جزائرية الأصل ، وهى بصدد أعداد أطروحة فى الفلسفة موضوعها "الجماليات والسياسة فى عصر النهضة الأوربي" وتزوجنا وعدنا إلى تونس للتدريس فى الثانوية أولا ثم الجامعة ،فى قسم الفلسفة ، وتحصلت على دكتورا دولة من جامعة السربون سنة1984 حول الروح التاريخية العربية
إن ما يلفت النظر فى أواخر التسعينات فى الجامعة التونسية هو تجذر النضالات الطلابية التى أصبحت تقودها جماعات يسارية ماركسية،وكانت النقاشات فى أغلبها ذات طابع ماركسى متحجر أحيانا وطابع قومى عربى وحدوى ،وقد شملت هذه النقاشات الساحة الثقافية فكان تدخلى فى الحوار نقديا فى الأساس يحاول أن يعطى للمفاهيم معانيها الحقيقية 0
وقد نشأت فى هذه التدخلات فلسفة التنوع التى كانت تهدف إلى التصدى للفكر المنغلق الذى لا يمكن أن ينتج إلا الإرهاب من ناحية ،ومن ناحية أخرى حاولت هذه الفلسفة أن تعيد تشكل الكونية الفلسفية من جديد حتى تكون على اتصال بالثقافات المتنوعة والمجتمعات المتعددة فتنفصل الكونية بذلك عن التغرب وعن الفكر الغربى الوحدوى وفى الحقيقة كان همى الأول هو كيف نعيد إلى الفلسفة العربية مكانها الذى يليق بها فى الكونية وهى قد كانت طرفا مؤسسا لها ، السبيل إلى ذلك متعدد الأنهج . فهناك من يحاول الدفاع عنها دفاعا تمجيديا يجعلها خالدة التصورات والمناهج ،وهو نهج هام قد أعاد أليها الروح من جديد ولكنه لن يستطيع تجاوز ذلك لتأسيس فلسفة عربية متجذرة فى حاضرنا بمشاكله وأزماته وبتطوراته العلمية والتكنولوجية .هناك أيضا من يحاول التصدى إلى غزو الحضارة الغربية. معتبرا إياها مصدر الشر الذى دخل بيوتنا وتفكيرنا وبذلك حاول تقويض البناء الفلسفى الذى أعتبره بعيدا عن ثقافتنا وحضارتنا العربية الإسلامية . وأن كنت أوافق فى هذا النهج الثانى محاولة التصدى للحضارة الغربية بالنقد والتفكيك . فإنى لم أكن أوافق على أبعاد الفكر الفلسفى عن حضارتنا باعتبار أن الفلسفة هى مجهود فكرى نقدى تنظيرى لابد منه لشعب أراد التقدم باكتساب العلوم والتكنولوجيا .
منذ كانط ومنذ هيجل وفى الأيديولوجيا الألمانية أساسا ، ظهرت فكرة الغرب الضامن للكونية .فكأنما الفلسفة التى ولدت فى اليونان قد أصبحت كونية عندما التحقت بالغرب الذى قد كان مهد العلوم والتكنولوجيا فكان روح التقدم والتحضر .لا أشك فى صحة هذا الفكرة ولكن بقدر ما . إذ أن كونية الفلسفة والتقدم العلمى والتطور التكنولوجى قد تكونت كلها من خلال روافد عديدة ومن بينها رافد الفلسفة الإسلامية والعلوم العربية .لذلك كونت فى أوائل الثمانينات فريق بحث فى أكاديمية بيت الحكمة بتونس حول تاريخ العلوم والفلسفة العربية وأصدرنا كتبا حول هذا الموضوع حاولنا فيه الدفاع علميا وأكاديميا عن مكانة الفلسفة العربية فى الكونية الفلسفية الحالية ، هذا من ناحية .ومن ناحية أخرى ظهر لى أن فكرة الكونية الغربية فى الفلسفة قد كانت نتيجة توحيد موضوعها ومناهجها وأهدافها .فكان لابد من القيام بعملية تفكيكية لهذه الكونية على منوال جاك دريدا فتبين أن فكرة التنوع وهى أصيلة فى نشأة الفكر الفلسفى هى الوحيدة التى يمكنها أن تقضى على هذه المزاعم .
على هذا الأساس انتقدت فلسفة الاختلاف المنتمية لفلسفة الوحدة كانتماء الوجه والقفا لنفس القطعة . وربطت التنوع بالتشرد وبرفض النسق وجعلت من الفلسفة فكر مترحلا على الدوام يتغذى بلقائه مع مشاكل المجتمعات والأفراد فى كل المستويات وفى جعبته حلول وأفكار ومطارحات ونقاشات يقترحها لتفعل فعلها وتحدث الرجة التى تصورها الفيلسوف الفرنسى جيل دولوز متحدثا عن ميشال فوكو.
وانتقدني البعض مبينين أن فلسفة التنوع لا تقل خطورة عن فلسفة الوحدة . فإذا كانت هذه الأخيرة تصب فى الكلانية والوحدوية الضيقة وفى الدكتاتورية السياسية ، فإن الاولى قد تسمح للبعض باسمها بالقيام بأعمال تنفيها أخلاقيات حقوق الإنسان التى من خلال كونيتها تضمن للإنسان الكرامة أينما كان . هذا النقد قد وجه أبحاثي نحو إعادة صياغة الكونية من وجهة نظر فلسفة التنوع . فكانت عودتى من جديد إلى الفلسفة العربية وقرأت الفارابي مجددا بواسطة هذه الشبكة واستخرجت فكرة التعقلية التى اعتبرتها ركيزة جديدة لإمكانية تجديد الكونية الفلسفية وتغذيتها بفكر غير أوربي ، ودافعت عن هذه الفلسفة الجديدة على منابر الجامعات الأوربية والأمريكية ولا سيما فى منظمة اليونسكو ولاقت استحسانا كبيرا فعينت رئيسا لكرسى اليونسكو للفلسفة فى العالم العربى (لا سيما المغاربى) لاطور هذه الفلسفة واربطها بالغيرية وبالعلاقة مع الثقافات المتعددة ،وفى الحقيقة فقد ربطت هذه الفلسفة بالاهتمامات الحالية على الصعيد الفكرى في العالم فى مقال صدر بتونس عن الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية . كما ربطتها بفكرة الهوية فى كتاب صدر لى بباريس باللغة الفرنسية (استراتيجية الهوية) ووجد رواجا عالميا. كذلك كان لابد من ربطها مع كونية حقوق الإنسان فكان ذلك في كتاب جماعي أصدرته اليونسكو(1) وشارك فيه مفكرون قد تحصلوا على جائزة نوبل وزعماء من جميع أنحاء العالم ، وكان موضوعه كيفية تجديد أفكار حقوق الإنسان وتفعيل نجاعتها . وربطتها أخيرا مع فكرة التآنس في كتاب صدر لي عن كرسي اليونسكو حول فلسفة العيش سويا وفي مقال سيصدر في كتاب جماعي عن العنف تشرف عليه منظمة اليونسكو ، وفي واقع الأمر أنا الأن بصدد ربط فلسفة التعقلية بفلسفة التآنس وقناعتي أن الكونية الفلسفية الجديدة التي تقوم على التثاقف ولا على الغربية المحضة ، ستكون هي فلسفة التآنس ، فلسفة العيش سويا بمنطلقات أخلاقية لا محالة ولكنها ستجد أرضية فكرية أعم وستكون – أن وجدت من يدافع عنها – ردة فعل ذكية ضد بعض مزالق العولمة . وسأتمكن في الصيف المقبل من الدفاع عن هذه الفلسفة في الجامعة الصيفية حول العولمات في مدينة العلوم بباريس ، سيحاضر فيها الفيلسوف الألماني هابر ماس والفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا والفيلسوف الأمريكي رورتي وآخرون .