بشائر
ووعود
ردًا على هذا
التيار الجارف من الانتقادات الموجهة ضد الحداثة الغربية يعلن هابرماس بأن الحداثة
مشروع لم يكتمل بعد projet inachevé، أي لم يستنفذ كل إمكاناته، ولم يف بكل وعوده، وبأن النقد الموجه
ضد الحداثة هو نقد وحيد الجانب لأنه لم ينظر إلا إلى وجه واحد منها وبالتالي فنقده
لا يمكن أن يسري على الحداثة من حيث هي كذلك بل فقط على وجه من وجوهها: الجانب
التنظيمي أو الحداثة كعقلنة صارمة، لكن هناك وجوهًا أخرى طافحة بالإمكانات والوعود
والبشائر وعلى رأسها العقل كتفاعل وتواصل وحوار وتبادل حجج. ليست الحداثة هي فقط
هذا "القفص الفولاذي" الذي شبهها به ماكس فيبر، بل هي أساسًا فضاء
التقدم، والديمقراطية الموسعة، وإمكانات التواصل المعمم، والعقلنة العملية
الأخلاقية.
لا ينكر
هابرماس السلبيات التي ضخمها حسبه نقاد الحداثة ورواد الحاثة البعدية لكنه – وهو
يستلهم التراث النقدي الذي ينتسب إليه فكريًا – لا يذهب إلى حد القول بفشل العقل
نهائيًا وبالإفلاس الكامل للحداثة، بل يفتح أمام العقل الحديث آفاقًا أخرى أوسع
تتمثل في إمكانات الحوار والتواصل الكامنة في اللغة المتداولة بين الناس، وبلورة
الحقيقة أو الحقائق عبر عمليات التواصل والتفاهم وتبادل الأدلة والحجج لإمكان
إقرار الصلاحية مبرزًا أن هناك وجهًا آخر غير ما ركزت عليه النظرة السلبية للحداثة
كالتمويه والتسخير الفردي والجماعي واستعمار النفوس الذي يدعوه بالاستعمار
الداخلي، عبر أدوات مؤسسية وتقنية وثقافية.
لقد تميز
تشخيص هابرماس للحداثة بتحرره من النغمة السلبية التشاؤمية اليائسة لرواد مدرسة
فرانكفورت بالخصوص، والتي عكست خيبة أمل الأنتلجنسيا الألمانية تجاه إخفاقات العصور
الحديثة وبخاصة في القرن العشرين والمتمثلة في إخفاق الثورة ضد الرأسمالية وظفر
البيروقراطية الاشتراكية في روسيا وحزامها الاشتراكي الأمني، وانتصار الفاشية
والنازية وفظائعها بالخصوص. فهو يعتبر نقد كل هؤلاء للعقل وللأنوار نقدًا وحيد
الجانب وغير جدلي وغير استشرافي.
فهذا العقل
الأنواري الذي يدينونه قد حقق حلم الإنسان في أن يصبح سيدًا للطبيعة، وحرره من
هيمنة الكنيسة المطلقة، ومن الميتافيزيقا، ومن الاستبداد المجتمعي والسياسي.
منطلق
هابرماس هو إعادة قراءة تحيينية لنظرية ماكس فيبر حول الحداثة كعملية عقلنة Rationalisation بمعنى التنظيم والتكييف المتبادل بين الوسائل والأهداف، مصحوبة
بعملية نزع الطابع اللغزي عن العالم Entzauberung التي
صاحبها تفكك تدريجي للعقل الجوهراني وللتصورات الدينية عن العالم، ونشوء ثقافة
دنيوية تدخل في سيرورة استقلالية تدريجية. وهذه العملية هي أساس الحداثة وجوهر
التحديث ونواة نشوء المجتمعات الحديثة والثقافة الحديثة.
دينامية
المجتمع الحديث تعود حسب ماكس فيبر إلى نشوء بنيات اجتماعية متمايزة بعضها عن بعض
ومتمحورة لا حول نواة روحية واحدة بل حول منظومتين مستقلتين ومترابطتين في نفس
الوقت هما المنشأة الرأسمالية وجهاز الدولة البيروقراطي.
يركز هابرماس
في قراءته لنظرية فيبر على معنى الحداثة كعملية عقلنة شاملة وعلى العلاقة الحميمة
بين الحداثة والعقلنة. ويرى أن كل المفكرين الذين وعوا الحداثة وعلى رأسهم في نظر
هيغل قد أكدوا على هذه العلاقة الحميمة لذلك يرى أنه من الضروري العودة إلى
كلاسيكيات نظرية الحداثة في شقيها الفلسفي (هيغل) والسوسيولوجي (ماكس فيبر) للتأكد
من هذه الصلة الحميمة أولاً ولقياس مدى صحة ادعاء تيارات ما بعد الحداثة الانفصام
بين الحداثة والعقل وبأن تطور المجتمع والفكر في الغرب قد جعله ينفلت من هذا الأفق
الحداثي العقلاني المحدِّد.
الوجه الآخر
لعودة هابرماس إلى التراث الفكري الغربي حول الحداثة هو استكشاف الإمكانات المفوتة
وإبراز الوجه الآخر المضيء للقمر، فالحداثة والعقل والعقلنة ليست فقط تنظيمًا
صارمًا وتكييفًا أداتيًا للغايات مع الوسائل، وليست فقط قمعًا وترويضًا وسيطرة
وأداتية، وتشييئًا واستلابًا... إلخ. بل هي أيضًا تحرر وتحرير من هيمنة الماضي
والمقدس وانفتاح وتواصل وحوار ونقاش وفضاء ديمقراطي وعقلانية عملية، وإقامة مجتمع
غير قائم على الإكراه والقمع بل على التفاهم وتبادل الأفكار وتكافؤ الحجج والبراهين
في إطار نقاش عمومي مفتوح.
ومن أجل
التأسيس فلسفيًا لكل هذا التشخيص الاستشرافي يمارس هابرماس نقدًا فكريًا عميقًا
للتراث الفلسفي الغربي بهدف وضع اليد على البذور الجنينية لانزلاقات العقل نحو
الأداتية، مبينًا أن الجذور البعيدة لهذه "الانحرافات" وملامح العياء
والاستنهاك والتعثر التي أصابت العقلانية الحديثة لا تعود إلى العقل ذاته بل إلى
الفلسفة أو الميتافيزيقا التي نما ضمنها هذا التصور المحدود للعقل، وهي فلسفة
الوعي أو فلسفة الذات philosophie du sujet التي هيمنت على الفلسفة الحديثة منذ ديكارت إلى الفينومينولوجيا
المعاصرة مرورًا بكانط والمثالية الألمانية. لذلك يبذل هابرماس جهدًا فكريًا
متميزًا لتتبع دبيب هذه الفلسفة منذ ديكارت وإن بشكل خاطف معلنًا أنه لا يمكن
تجاوز تذبذبات واستنهاكات العقل والعقلانية الحديثين إلا بتخطي فلسفة الذاتية،
فلسفة الوعي، والانتقال من مقولتي الوعي والذات المهيمنتين على الفضاء الفلسفي
الحديث والمعاصر إلى مقولة أو فلسفة التفاهم والتواصل بين الذوات Intersubjectivité أي الانتقال من فلسفة تقابل ذات–موضوع يغلب فيها عنصر الموضعة Objectivation حيث تعود
الذات العارفة إلى ذاتها بقدر ما تعود إلى موضوعات العالم جيئة وذهابًا إلى أفق
فلسفي وتواصلي أرحب تسوده مقولة التفاهم، والحوار، والتواصل بين الذوات بشكل
أساسي، أي بين ذوات مفتوحة على بعضها في إطار التشارك في عملية تفاهم وحوار يتم
فيها التنسيق بين المبادرات والصبوات والمشاريع على كافة مستويات الكل الاجتماعي.
يقتضي إذن
الدفاع عن الحداثة وتمتين الأسس الفكرية لهذا الدفاع استيعاء التحولات الفكرية
الجارية في حقل الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية والمتمثل في الانعطاف
الفلسفي الكبير من فلسفة الوعي إلى فلسفة اللغة الذي يطلق عليه "المنعرج
اللساني" linguistic turn، والذي هو في نظره القنطرة الوحيدة نحو العبور إلى الفكر ما بعد
الميتافيزيقي.
لماذا
يهمنا هابرماس؟
افترض أن
لفكر هابرماس، ولتحليلاته حول الحداثة وأسسها الفلسفية، أهمية كبيرة وفائدة جلية
للفكر العربي والمعاصر.
أولها أنه
يقدم للفكر العربي مادة فكرية ثرية حول الأسس الفلسفية للحداثة، حول مشروعيتها
وعلاقتها بالتراث والتقليد، وتصورها للعقل والعقلانية أي بسياقات فكرية لم تتعرف
عليها الثقافة العربية المتلكئة بين التقليد والتحديث، بين القدامة والحداثة. خاصة
وأن الوجه الذي عرفت به الحداثة في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة هو الوجه
السياسي المتمثل في مكونات ومظاهر الحداثة السياسية وفي الحداثة التقنية
والتنظيمية عامة، أما الأبعاد الفكرية والفلسفية للحداثة فهي ماتزال غائبة أو
مغيَّبة عن أفقنا الفكري وهو ما يجعل أفكار هابرماس ذات ضرورة قصوى.
ثانيها أن
هناك ميلاً في الثقافة العربية المعاصرة وبخاصة في مجالات الأدب والفن إلى تبني
أفكار ما يسمى تجاوزًا "ما بعد الحداثة" وذلك إما تحت تأثير موجات
الموضة والاتباع أو تحت تأثير دفع لا واعي نحو تخطي أو حرق المراحل في عملية شبه
سحرية. لكن هناك دافعًا آخر قويًا هو أن طغيان مشاعر الهوية الدفاعية وما تولده من
نرجسية ثقافية ونزعة أصولية يدفع في اتجاه القول بأن الحداثة (التي تتعلقون بها
وتتبجحون بها) قد مجها أصحابها أنفسهم وانتقدوها وهم في طور تجاوزها نحو "ما
بعد الحداثة".
أهمية فكر
هابرماس تعود إلى جرأته في الدفاع عن الحداثة والعقل والقول بأن الحداثة مشروع
واعد وطافح بالآمال، وأن نقد الحداثة ليس إلا نقدًا وحيد الجانب وجانبي الرؤية،
هذا إضافة إلى فكرة لم يولها هابرماس ما يكفي من التحليل وهي أن ما يسمى ما بعد
الحداثة ليس قطيعة من الحداثة أو تجاوزًا لها وأن هناك شططًا في التسمية (العربية
خاصة) والمتمثل في الإيحاء الذي توحي به كلمتا "ما بعد" من تحاقب
وتعاقب.
ثالثًا
يستفيض هابرماس في تتبع وتطوير فكرة هيغل حول الحاجة إلى الفلسفة، والتطابق الحاصل
بينهما من حيث أن الفلسفة تفكير في عصرها أو تحويل الواقع إلى فكر، وكذا دورها في
المصالحة بين الفكر والواقع التاريخي وفي ترميم الكلية الاجتماعية بعد الشروخ
والتمزقات الأفقية والعمودية التي تصيب البناء الاجتماعي نتيجة تفكك الوحدة
الروحية التقليدية والتشكل شبه المستقل للبنيات الاجتماعية الحديثة.
أمام
التحولات الجارية في الواقع العربي الإسلامي نتيجة الانتشار الموضوعي العنيف الذي
تمارسه الحداثة التي غدت بمثابة مصير وصيرورة شبه حتمية Destin لكل مجتمعات العالم، تتولد الحاجة، أمام هذه
التفتتات في الموضوع والرؤية، وأمام ما يصيب الكثير من المعاني من أفول، تظهر
الحاجة إلى بلورة رؤية شمولية تاريخيًا وبنيويًا لهذه التحولات، خاصة أمام تفتت
وتجزؤ وتخصص المعارف في مجال العلوم الإنسانية مع ما بصاحبها من نظرة جزئية وغير
نقدية، إذ تظل للتناول الفلسفي (الغائب عن معظم الجامعات العربية)، ببعديه الشمولي
والنقدي، قيمة إبستمولوجية وفكرية استثنائية، وهو ما يجعلها في تعارض كامل مع
مختلف الولائم العربية.
مجلة فكر وفن، عدد 92، السنة
التاسعة والأربعون 2010