تعرضت الحداثة، منذ تبلورها التدريجي في التاريخ الحي وفي الفكر الأوروبي منذ القرن الخامس عشر الميلادي، لأعمق وأقسى أنواع النقد السياق الثقافي الألماني لدرجة يمكن معها القول بأن تاريخ تطور الحداثة هو في نفس الوقت تاريخ نقدها في هذا السياق. فكرة التواشج والتوازي بين تبلور الحداثة وبين نقدها هي إحدى أعمق الأفكار الفلسفية التي يطورها هابرماس في كتابه العمدة الخطاب الفلسفي للحداثة والتي ينبش أصولها لدى هيغل ويعمق النقاش فيها من خلال مساهمة فلاسفة ألمان معاصرين هم غيلين Gehlen وبلومنبرغ Blumenberg، وهي الفكرة التي عبر عنها هذا الأخير تعبيرًا فلسفيًا عميقًا هو "مشروعية العصور الحديثة".
فكرة التلازم بين تبلور الحداثة وبين نقدها تجد تبريرها بل تستمد إلى حد ما صلاحيتها ومداها الدلالي من فكرة أسس مشروعية الحداثة. فهذه الأخيرة بعكس العصور التاريخية السابقة والبنيات الفكرية الحضارية السابقة لا تستمد مشروعيتها من الماضي ولا من أي نموذج سابق، ولا تتخذ معيارًا لها من أي تجربة تاريخية "إقليمية أو كونية" سابقة، بل تستمد مشروعيتها وحقها في الوجود من ذاتها، ومن الممكن، ومن المستقبل الذي لا يمنح أبدًا من الماضي حتى ولو لم يعلن القطيعة الصريحة معه.
ضد من؟
انطلق من هذه الفكرة لأعرض بعض الأفكار الفلسفية لهابرماس الذي اتخذ موقعًا متميزًا في السياق الثقافي الألماني من مسألة الحداثة تميز بالدفاع المستميت عن كل من عقلانية الأنوار، وبالتالي عن العقل، وكذا عن الحداثة لدرجة تسمح بتسميته ببطل الحداثة الظافر. دفاع هابرماس عن الحداثة والعقل هو ملحمة فكرية ذات بعدين: دفاعي واستشرافي، دفاع موجه ضد تشخيصات المدرسة الفكرية نفسها التي ينتمي إليها، والتي اعتبر لعدة عقود ممثلها الجديد الرئيسي: مدرسة فرانكفورت، وضد من أسماهم هابرماس بالنزعات المحافظة الجديدة (هايدغر...)، وضد النزعة الفوضوية الجديدة أو مابعد البنيوية الفرنسية في شخص ميشيل فوكو، وضد بعض الاتجاهات الأنجلوساكسونية في نظرية التحديث التي فصلت كليًا بين التحديث وأفقه المرجعي والاستشرافي العقلاني. وبعبارة موجزة فقد جعل هابرماس من نفسه الحداثي الوحيد الذي ألقيت تبعات الحداثة كلها على كتفيه!
نظرية هبرماس حول الحداثة هي تشخيص فكري لهذه الأخيرة انطلاقًا من أصولها، أي أصول الوعي بها لدى هيغل، ومن التلازم الحميم والصميمي بين الحداثة والعقل والعقلانية والعقلنة لدى ماكس فيبر، واستلهامًا واستدماجًا لعطاءات العلوم الإنسانية الحديثة وبخاصة نظريات فلسفة اللغة والتواصل (فتغنشتاين وكارل أوتو آيل).
أما المعنيون بالنقد في كتابات هابرماس حول الحداثة فهم نيتشه وهايدغر، ثم ليوتار وفوكو، ورواد سوسيولوجيا التحديث والتنمية، ورواد مابعد الحداثة... وأقطاب مدرسة فرانكفورت نفسها (هوركهايمر، أدورنو...).
نيتشه، هذا المجنون بالله، هو أصل ومنبع كل البلايا. فهو نبي مابعد الحداثة، وكتاباته هي إنجيلها المكتوب بلغة المراثي. انتقد نيتشه العقل من حيث هو جوهر الحداثة وصنمها الأب، ومن حيث أنه سلطة في خدمة سلطة المال، وانتقد العلم الحديث لأنه يدمر في الإنسان تقديره لذاته إذ ينزع عنه الشعور بالتميز وإحساسه بمركزيته في الكون وبين المخلوقات، وانتقد الدولة السياسية الحديثة باعتبارها مسخًا جليديًا، والديمقراطية الحديثة باعتبارها حكم الرعاع وسيادة الوسطية وقيم الرداءة، كم انتقد الاشتراكية الحديثة من حيث أنها ثقافة حسد وضغينة وسياسة يوتوبية صغرى توجهها إرادة الدهماء والقطيع أي إرادة العدم، وباعتبارها نمطًا جديدًا من الاستبداد الكلياتي الذي يسعى إلى سحق الفرد الحر المتميز في سبيل تحقيق الشعار الوهمي "السعادة للجميع". كما انتقد نيتشه مفهوم التقدم داعيًا إلى إحلال فكرة العود الأبدي محل أسطورة الارتقاء الزمني... وبعبارة موجزة فإن متن نيتشه هو الكتاب المقدس لما بعد الحداثة تنهل منه في نقد الحداثة الاجتماعية، والحداثة التقنية، والسياسية، والثقافية وذلك في إطار نقد راديكالي للعقل كإرادة قوة مقنَّعة.
أما هايدغر فهو النبي الثاني لما بعد الحداثة، إذ انتقد الحياة الحديثة باعتبارها حياة يستثمر فيها الإنسان مجموعة "أصنام" هي المال، والجمهور (أو المبني للمجهول)، والأنا، والأداة التقنية. وهي حياة تتسم بأفول المقدس المتعالي والحضور البديل للمقدس المتداني، وبانتهاب واستنهاك الأرض، وقطعنة (من القطيع) الإنساني، وانتشار السطحية والتفاهة والمعيار الكمي؛ كما تتسم بالتيه في صحراء العدمية التي لا تعود فقط إلى انحطاط القيم العليا كما تصور نيتشه، بل إلى نسيان الكينونة والاهتمام فقط بالكائن.
ويرى هايدغر أن كل التراث الفكري الغربي، وبخاصة الميتافيزيقي أو الفلسفي منه، هو تعبير عن محاولة الذاتية الإنسانية للسيطرة على الواقع في كليته، وذلك ابتداء من عقل الأنوار إلى قيم الديمقراطية إلى النزعة الكونية، إلى العلوم والتقنيات، إلى النزعة الإنسانية، إلى تنظيمات تشكل الدولة والحق... فهذه كلها أعراض للعدمية يتعين اتخاذ مسافة كافية منها.
يتوجه رد هابرماس الدفاعي عن الحداثة كذلك إلى ما يسميه الاتجاه الفوضوي في الفلسفة الفرنسية المعاصرة والذي يمثله كل من جورج باتاي G. Bataille الذي اعتبر أن الحياة الحديثة خاضعة لتكييف كلياني شمولي، وفوكو الذي يود أن ينزع القناع المزين للعقل، ويبرز أن وراء شعار وعملية التحرر والتحرير هناك إرادة قوة وتحكم أداتي منفلتة من عقالها توجه العقل وتتحكم فيه، ويصور التحديث كعملية عقلنة قمعية وتأديبية صارمة وقاسية كما تتجلى في السجون ومراكز المرض العقلي والمدارس وثقافة ترويض النفوس، وكذا إلى الاتجاهات ما بعد الحداثة واليسارية التي تنتقد الحداثة باعتبار أن الأفق العقلاني الذي قامت عليه هو أفق فكري قد ولى وزمن قد غبر، كما يتوجه رده أيضًا إلى نظريات التحديث والتنمية التي فصمت كل أواصر العلاقة الحميمة بين التحديث والعقلنة، وبين الحداثة والعقل.
ويبدو أن الدفاع المجيد عن الحداثة والعقل لدى هابرماس موجه أيضًا ضد صكوك الاتهام الصارمة التي دونتها عشيرته من رواد مدرسة فرانكفورت بالحديث عن "الإنسان المروَّض" حسب أدورنو، إلى "الإنسان ذي البعد الواحد" لدى ماركوز، إلى "الإنسان المستلب" لدى إيريك فروم، مثلما دونها من قبل تقليد ماركسي كامل ضمن ماركسية أوروبا الشرقية Austro marxisme والذي جسده لوكاتش وغولدمان وجوزيف غابل J. Gable، والمتمثل في نقد مظاهر تشيؤ Reification الحياة المعاصرة. يتبع ...