الفلسفة في عصر العلم والتقنية
- نظرة فينومينولوجية(*) -
إسماعيل المصدق
I
يتميز عصرنا الحاضر بالمكانة البارزة التي أصبح يحتلها العلم، فالمعارف العلمية لم تبق سجينة المعاهد العلمية، بل أصبحت متداولة في مختلف الأوساط؛ إنها تنفذ، بشكل أو بآخر، إلى قلب حياتنا اليومية لتحدد تصورنا للعالم وتوجه تعاملنا مع الأشياء. وأكثر من ذلك، فإن المعرفة العلمية أصبحت تعتبر نموذجا للحقيقة، كما أصبح نعت "علمي" مرادفا لنعت "حقيقي". هكذا أصبحنا نتكلم عن "التحليل العلمي" و"الخطة العلمية" حتى في ميادين بعيدة عن العلم. ومع سيطرة العلم في عصرنا الحاضر ترتبط سيطرة التقنية. ولا شك أن العلاقة الوثيقة والمتعددة الأبعاد بين العلم والتقنية تسمح بالحديث عن توجه أو أسلوب علمي-تقني يسود عصرنا الحاضر ويتغلغل في كل ميادين الحياة البشرية. ويمكن القول إن سيادة هذا التوجه العلمي-التقني هو السمة الأساسية لعالم اليوم.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه سيكون على الفلسفة، لكي تساهم في فهم عالم اليوم، أن توجه نظرها نحو هذا التصور العلمي-التقني لفحص أسسه والكشف عن مسبقاته واستطلاع آفاقه. ونظرا لأن علم الطبيعة الرياضي يتخذ بالنسبة لهذا التصور دلالة حاسمة، فإن التأمل حوله سيكون ضروريا لفهم العصر الذي نعيشه. ولكن، لكي يساهم هذا التأمل في فهم عالم اليوم، يجب أن لا يكتفي بتناول هذا العلم كمجرد بناء نظري مستقل وقائم بذاته؛ بل يجب، من جهة، أن ينظر إليه في علاقته بعالم الحياة اليومية ومختلف أشكال التجربة البشرية، ومن جهة أخرى، أن يأخذ بعين الاعتبار سياقه التاريخي.
لا شك أن قيمة التحليلات التي قدمها كل من هوسرل (1859-1938) وهايدجر (1889-1976) لعلم الطبيعة الرياضي انطلاقا من منظورهما الفينومينولوجي، تعود إلى أنها تراعي، بكيفية صارمة، هذين الاعتبارين. لهذا، يبدو أنه من الممكن الاقتراب من الوضعية الراهنة المتميزة بسيطرة التوجه العلمي-التقني عن طريق المقارنة بين تحليلات هذين الممثلين المبارزين للفينومينولوجيا. إلا أن هذه المقارنة لا تهدف أساسا إلى بيان نقط الاتفاق والاختلاف بين المفكرين، أو إلى البحث عن موقف جاهز إزاء التوجه العلمي-التقني السائد؛ بل ترمي، قبل كل شيء إلى الاحتكاك بالكيفية التي تعامل بها كل منهما مع الوضعية الراهنة، والاقتراب بذلك من رؤية المشاكل التي تطرحها هذه الوضعية.
تختلف المقارنة المقترحة هنا في نقط جوهرية عن الكيفية التي تتم بها عادة المقارنة بين أفكار هوسرل وهايدجر. يتم عادة الانطلاق من افتراض أنه، بعد التحول الذي عرفه تفكير هايدجر ابتداء من الثلاثينات، لم يبق هناك أي معنى للمقارنة بينه وبين هوسرل. ويتم تبرير هذا الافتراض بأن هايدجر تخلى منذ الثلاثينات عن تقديم تفكيره كشكل جديد للفينومينولوجيا، وهو الأمر الذي كان يؤكد عليه في الفترة التي نشر فيها كتابه الأساسي "الكون والزمان" (1927). كما أن انقطاع الصلة بين هوسرل وهايدجر في الثلاثينات كان يظهر أنه يعزز هذا الافتراض. أما تأكيد هايدجر في بعض كتاباته الأخيرة بأنه ظل دائما وفيا للفينومينولوجيا فلم يكن يؤخذ مأخذ الجد(1). لهذا السبب فإنه من المعتاد إلى الآن أن تنصب المقارنة بين الفيلسوفين فقط على الموضوعات التي اتخذ بصددها هايدجر موقفا صريحا من هوسرل. وهكذا لم يتم التفكير في المقارنة بين تحليلات الفيلسوفين لعلم الطبيعة الحديث والتقنية المرتبطة به. في مقابل هذا التوجه السائد، يبدو أنه من الممكن، بل ومن الضروري، أن تمتد المقارنة بين الفيلسوفين إلى كتاباتهما المتأخرة كذلك. إن المقارنة الدقيقة بين تحليل كل منهما لعلم الطبيعة الحديث تبرز تشابهات وتناظرات عميقة في مواقفهما، وذلك على الرغم من أن تلك التحليلات تم إنجازها في الوقت الذي كانت فيه الصلة بينهما منقطعة. على أن إبراز هذه التشابهات لا يهدف إخفاء الاختلافات العميقة بين الفيلسوفين، خاصة في تصورهما للمستقبل؛ بل بالعكس من ذلك، إننا فقط عندما ندرك ما يوحدهما، نستطيع أن ننفذ إلى عمق الاختلاف بينهما.
وإذا كان من المشروع أن تمتد المقارنة بين هوسرل وهايدجر إلى أعمالهما الأخيرة، التي اتخذ فيها كل منهما بمعزل عن الآخر موقفا نقديا تجاه علم الطبيعة الحديث والعقلانية التقنية المرتبطة به، فهذا لا يعني إقصاء أعمالهما الأولى من هذه المقارنة. إن النزعة السائدة لحد الآن في البحث حول هوسرل وهايدجر تنطلق من افتراض مفاده أنهما لم يتخذا، موقفا نقديا تجاه العلم الحديث، إلا ابتداء من الثلاثينات. وعلى العكس من ذلك، يبدو، من خلال تتبع عميق لنصوصها الأولى، أن جذور نقدهما للعلم الحديث والتقنية المرتبطة به توجد في هذه النصوص ذاتها(2). بل يمكن أكثر من ذلك أن نقول بأن الأصل الحقيقي لتأملهما النقدي حول سيطرة العقلانية العلمية-التقنية في العصر الحاضر يكمن في المنظور الفينومينولوجي، الذي تبناه كل منهما في فترة مبكرة. إن التزامهما بالقاعدة الأصلية للفينومينولوجيا: "إلى الأشياء ذاتها!" هو الذي مكنهما من إنجاز تحليل للعلم يبين أن المعرفة العلمية نمط لتعامل الإنسان مع العالم يحيل إلى شكل أصلي لتجربة العالم ويخفيه في نفس الوقت. إن الأساس الملموس لنقد علم الطبيعة الحديث يكمن، عند الفيلسوفين، في تحليل فينومينولوجي يبرز كيف يتجذر هذا العلم من حيث مصدره الأصلي في تجربة العالم اليومي، وكيف يغترب تاريخيا عن الوجود اليومي. هناك إذن في منطلق المنظور الفينومينولوجي اتجاه أساسي هو الذي قاد هوسرل وهايدجر إلى مواقف نقدية متوازية، حتى في الوقت الذي لم تبق فيه هناك علاقات مباشرة بينهما.
وإذا كان نقد هوسرل وهايدجر للعلم الحديث لم يحتل مركز الصدارة في تأملاتهما الفلسفية إلا في مرحلة متأخرة، فذلك لا يرجع لكونهما قد تخليا عن المنظور الفينومينولوجي، بل، على العكس من ذلك، إلى أنهما لم يتمكنا إلا بكيفية تدريجية من النفاذ إلى الإمكانيات الكامنة في المنطلق الفينومينولوجي. بفضل ذلك تمكنا من إدراك البعد التاريخي في عمقه، ومن صياغة الأداة التي تمكن من إبراز الأساس التاريخي لعلم الطبيعة الرياضي. لم يبق التعامل مع هذا العلم مقتصرا على اعتباره إمكانية "لا زمنية" مرتبطة بتجربة الوجود اليومي، بل أصبح هذا العلم يعتبر ظاهرة تنتمي للتاريخ الغربي. إن إدماج البعد التاريخي بكيفية جوهرية في تحليل العلم الحديث سيحول هذا التحليل إلى سؤال نقدي حول الدور الذي يلعبه هذا العلم في فقدان المعنى المميز للعصر الحاضر.
هذه المنطلقات تمكننا من فهم عمق الروابط وكذلك الاختلافات الموجودة بين تحليل هوسرل وهايدجر، وبالتالي من النفاذ إلى الإمكانيات التي تفتحها الفينومينولوجيا أمام التفكير في الوضعية الراهنة المتسمة بسيطرة التأويل العلمي-التقني للعالم. سيتأكد ذلك من خلال عرض مركز لتحليلات الفيلسوفين.
II
يقدم هوسرل في مؤلفه الأخير تشخيصا لأزمة العلوم والفلسفة(3). يقصد هوسرل بالأزمة أزمة هذه العلوم في علاقتها مع الإنسان ومع عالم حياته اليومية، وهي تتجلى في أن العلم والفلسفة أصبحا عاجزين عن معالجة الأسئلة التي تلتصق بالإنسان، أسئلة المعنى والتاريخ والحرية. هذه الوضعية التي تعرفها الفلسفة والعلوم ترجع إلى سيادة النزعة الموضوعية التي تجعل من علم الطبيعة الرياضي نموذجا للعلم وتعتبر أن كل دراسة لا يمكن أن تكون علمية إلا إذا حققت المعايير التي بلورها هذا العلم. لمواجهة هذه النزعة يقوم هوسرل بتحليل فينومينولوجي تاريخي لعلم الطبيعة الحديث يستهدف الكشف عن الافتراضات الضمنية التي استند إليها والتي ساهمت في تحديد المفهوم الحديث للعلمية.
لا يقوم هوسرل في تحليله لعلم الطبيعة الحديث بعمل مشابه لعمل مؤرخ العلوم. إن الأمر لا يتعلق بتتبع الأحداث والوقائع المتعلقة بهذا العلم، بل بتحليل يريد النفاذ إلى الإنجازات الخلاقة والحوافز الأولية والبداهات الأصلية التي سمحت بانبثاق هذا العلم. وهوسرل لم يصبح قادرا على القيام بمثل هذا التحليل التاريخي للعلم إلا بفضل تطويره المستمر للمنهج الفينومينولوجي وانتقاله مع بداية العشرينات من هذا القرن من الفينومينولجيا الستاتيكية إلى الفينومينولوجيا التكوينية. إن اعتماد المنهج الفينومينولوجي التكويني يجب أن يمكن من النفاذ إلى القصدية الحية التي انبثق عنها علم ما، أو عموما أي شكل ثقافي كيفما كان، تلك القصدية التي تكمن في أساس هذا العلم والتي كانت تحرك مؤسسيه، حتى وإن بقيت مختفية عن أنظارهم. إن التحليل الفينومينولوجي التاريخي لا يهتم بالأشخاص الذين ساهموا في نشأة العلم وتطوره ولا بالظروف الزمانية والمكانية التي تم فيها ذلك، بل يتساءل عن الشروط الكامنة في الوعي البشري من حيث هو وعي قصدي وفي عالم التجربة اليومية من حيث هو العالم المباشر بالنسبة للوعي، والتي تسمح، بغض النظر عن الأشخاص والظروف الزمانية والمكانية، بنشأة علم ما أو انبثاق فكرته المؤسسة. إن الفكرة المؤسسة لعلم الطبيعة الحديث هي فكرة الصياغة الهندسية الرياضية للطبيعة، هذه الفكرة تبدو لنا اليوم بديهية ولا تحتاج إلى سؤال. أما هوسرل فيرى أن تأسيس هذه الفكرة كان إنجازا جريئـا وأنه بفضل هذا الإنجاز فقط أصبحت هذه الفكرة بديهية ومقبولة تلقائيا. إن السؤال الذي يطرحه هوسرل بكيفية مشخصة إذن هو: ما هي الشروط الكامنة في عالم تجربتنا اليومية السابقة على كل علم التي وجهت الوعي نحو ابتكار فكرة الصياغة الهندسية الرياضية للطبيعة.
يتوقف هوسرل في جوابه عن هذا السؤال عند الهندسية الإغريقية قبل أن ينتقل ‘لى جاليلي ليبين كيف توصل هذا الأخير إلى فكرة الصياغة الهندسية الرياضية للطبيعة. ثم يتابع هوسرل تحليله مبينا كيف اتخذ علم الطبيعة الطابع الصوري الرمزي وكيف تحول بذلك إلى نوع من التفكير شبيه بالعمل التقني الحرفي(4). في هذا التحليل يبرز هوسرل حقيقتين:
1 - إن المعرفة العلمية رغم دقتها وموضوعيتها تستند إلى معطيات عالم العيش(5)، أي عالم التجربة اليومية. هذه المعطيات تتميز بأنها ذاتية ونسبية، ومع ذلك فإنها هي أساس كل معرفة موضوعية ودقيقة. إن الممارسة العلمية تتم في أفق العالم اليومي بصفته الأرضية التي تفترضها مسبقا كل ممارستنا النظرية والعملية. والموضوعات التي يهتم بها العلم يتم بناؤها اعتمادا على معطيات الحياة اليومية وبداهاتها. إن تحليل هوسرل لا يقودنا بتاتا إلى التشكيك في قيمة العارف العلمية ولا إلى وضع دقة هذه المعارف وموضوعيتها موضع سؤال. ولكن ما يرفضه هوسرل هو القيام بفصل المعرفة العلمية عن المعارف اليومية وعن التجربة السابقة على العلم. لقد تعودنا على اعتبار المعرفة العلمية نموذجا ومرجعا نحكم انطلاقا منه على كل الأشكال الأخرى للمعرفة والوعي. وهوسرل يريد أن يذكرنا بأن معارفنا الأصلية هي معارف غير علمية، غير دقيقة وغير موضوعية، وأن عالم تجربتنا اليومي الأصلي الذي نعيش فيه قبل العلم وخارجه هو أسبق من كل معرفة علمية. وعليه لا يمكن أن تنشأ المعارف العلمية إلا إذا توفرت على أساس في عالم تجربتنا اليومي. وإن البحث عن جذور المعرفة العلمية في التجربة اليومية لا يعني بتاتا التنقيص من قيمتها. ما لا يجب أن ننساه حسب هوسرل هو أن الموضوعات العلمية ليست معطاة من تلقاء ذاتها، بل إنها تتأسس، مثل موضوعات الحياة اليومية، بفضل إنجازات للوعي القصدي انطلاقا من معطيات التجربة قبل العلمية وموضوعاتها(6).
2 - إن العلم ينشئ بفضل إنجازات خلاقة للوعي عالما من الموضوعات العلمية(7). وحيث أن الوعي يستطيع أن يعود باستمرار إلى هذه الموضوعات وأن يشتغل عليها دون حاجة إلى استحضار الفعل المؤسس لها، فإنه ينتهي عادة إلى نسيان هذا الفعل الذي تم بفضله بناء تلك الموضوعات العلمية الدقيقة اعتمادا على المعطيات النسبية والذاتية للحياة اليومية. هكذا يتم نسيان عالم الحياة اليومية بصفته أساسا للمعرفة العلمية ويحصل اغتراب العلم عن التجربة اليومية.
في نسيان عالم الحياة اليومية كأفق لكل ممارستنا تكمن، حسب هوسرل، أزمة علم الطبيعة، بل وأزمة كل العلوم الحديثة وحتى الفلسفة. هذا النسيان يزداد تعمقا مع اكتساح الصياغة الرمزية والصورية لكل حقول المعرفة العلمية. فمع طغيان الطابع الرمزي والصوري للمعرفة العلمية تختفي المعاني والدلالات الأصلية للأشياء وراء رموز فارغة يمكن أن نشتغل عليها وأن نجري عليها عمليات متعددة دون التساؤل عن مضمونها. هكذا يتحول التفكير العلمي إلى نوع من الحساب يتم إجراؤه بكيفية صورية على رموز وقضايا فارغة من أي مضمون يذكر بعلاقتها بالعالم اليومي. إن التفكير العلمي يصبح شبيها بالنشاط التقني الحرفي الذي يقوم على التمرن والعادة، لا على التأمل والابتكار. يتبين إذن، مع هوسرل، أن العلاقة بين العلم والتقنية الحديثين هي أعمق مما يعتقد عادة، فالتقنية ليست مجرد تطبيق للعلم، بل إن الروح التقنية تسود العلم ذاته كمعرفة نظرية. إن العلوم الحديثة هي في عمقها علوم تقنية.
مع طغيان الطابع التقني المنهجي في العلم الحديث يبلغ نسيان عالم التجربة اليومية حده الأقصى. وهكذا يسود الاعتقاد بأن العالم كما تتمثله القوانين والنظريات العلمية، والذي ليس في الأصل سوى نتاج لإجراءات منهجية تقنية، هو العالم الحقيقي، وبأنه موجود باستقلال عن كل وعي. أما عالم تجربتنا اليومية فينظر إليه كمجرد تعبير ذاتي تقريبي عن العالم الحقيقي، ولذلك فهو لا يستحق أن يكون موضوعا للدراسة العلمية. يرى هوسرل خطورة هذه النزعة الموضوعية التي تسود العلم الحديث في أنها تقود إلى انفصال العلم عن عالم التجربة اليومية.
إن تخلي العلم عن آفاق عالم الحياة البشرية يؤدي إلى انفلات البحث العلمي من مسؤولية الإنسان، فالبحث العلمي يتحول إلى عملية لا نهائية تتجسد في إجراءات منهجية تقنية للسيطرة على العالم الرياضي اللانهائي ومختلف قطاعاته. هكذا يصبح دور العالم مقتصرا على متابعة قطاع أو مجال من العالم، دون أن يكون مضطرا للتساؤل عن علاقة البحث الذي يمارسه بآفاق الحياة اليومية وعن غاياته. إن آفاق العلماء والباحثين تضيق شيئا فشيئا، بحيث يبدو في نهاية الأمر كما لو أنهم أصبحوا مجرد أجزاء أو قطع داخل آلة كبرى، تعطي نتائج مفيدة، ولكن دون أن يعرفوا كيف تشتغل هذه الآلة، وما هي علاقتها الأصلية بعالم الإنسان. إن البحث العلمي يتجه إلى أن يتحول إلى "شغل" مقسم بكيفية دقيقة إلى مهام جزئية يقوم كل عالم بإحداها ويكون مسؤولا عنها هي فقط. يسير هذا الشغل بكيفية أتوماتيكية مستقلة، وذلك دون أن يشعر العلماء بأية ضرورة حية للتساؤل عن سياق المعنى الشامل، أو عن الأفق الذي يندرج فيه كل مشروع بحث جزئي. معنى ذلك أن المسؤولية الشاملة عن سير البحث تخرج من يد العلماء والعلم عموما. وبالفعل، فإن العلم أصبح يبدو كما لو كان آلة رهيبة تسير حسب قانونيتها الداخلية وتحمل غائيتها الخاصة. إن عالما مصوغا على أساس تأويل علمي-تقني للأشياء ومتحررا من كل علاقة بالتجربة اليومية وبأفاق الحياة البشرية هو حقا عالم غير إنساني. وبهذا المعنى يرى هوسرل أن سيطرة العقلانية العلمية-التقنية مسئولة عن أزمة المعنى والتوجه التي تطبع العالم الحاضر.
يتساءل هايدجر هو الآخر عن الشروط التي سمحت بنشأة علم الطبيعة الحديث(8). وهو يرفض الرأي السائد الذي يرجع ظهور هذا العلم إلى اتجاه العلماء نحو ملاحظة الوقائع أو إلى المكانة التي أصبحت تحتلها التجربة في العلم أو تطبيق الرياضيات في دراسة ظواهر الطبيعة. إن هايدجر لا ينفي وجود هذه الصفات في علم الطبيعة الحديث، إلا أنه في نفس الوقت يرى أنها ليست هي العامل الحاسم في نشأة هذا العلم. فنشأة علم الطبيعة الحديث ترتبط أساسا. بما يسميه هايدجر المشروع الرياضي للطبيعة. وهو لا يقصد بذلك قرارا اتخذه العلماء من أجل استعمال الرياضيات في دراسة الطبيعة، بل بروز فهم جديد للطبيعة يختزلها إلى كتلة من الأجسام المادية تتحرك في إطار زماني ومكاني متجانس. هذا التصور للطبيعة يلغي كل الفروق الكيفية بين الأجسام والظواهر ويحولها إلى مجرد فروق كمية يمكن قياسها والتعبير عن العلاقات بينها رياضيا. ففي الطبيعة كما يتصورها العلم الحديث ليس هناك فرق جوهري بين جسم وآخر (مثلا بين الأجسام السماوية والأرضية)، بين حيز مكاني وآخر أو بين نقطة زمانية وأخرى.
إن الطبيعة كموضوع لعلم الطبيعة الرياضي ليست هي الطبيعة في كيفيات وجودها الأصلية، ليست هي الطبيعة كما تظهر في أشكال تجربتنا السابقة على العلم. إن علم الطبيعة لا يقوم إلا على أساس اختزال الطبيعة وتقنيعها. بموازاة مع ذلك ينبه هايدجر، مثل هوسرل، إلى الطابع التقني لعلم الطبيعة الحديث. وهو لا يعني بذلك فقط أن هذا العلم أصبح يرتبط أكثر فأكثر بالتطبيقات التقنية، بل إنه يرى هو الآخر أن الروح التقنية تسود العلم الحديث كنظرية، وأن هذه الروح التقنية تتجلى في طغيان الطابع المنهجي للعلم. يفهم المنهج في علم الطبيعة الحديث بصفته مجموع العمليات والتدابير والإجراءات التي يقوم بها العالم من أجل إرغام الكائن على أن يظهر ذاته. إن العلم القديم يفهم ذاته كنظرية، والنظرية هي نظر ورؤية، تأمل ومشاهدة، ومهمة النظرية هي أن تجعلنا نرى الكائن كما يظهر هو ذاته من تلقاء ذاته. وهذا معناه أن النظرية تمنع علينا كل تدخل في مجرى الكائنات والظواهر التي ندرسها. أما المعرفة النظرية في العلم الحديث فإنها لا تترك الكائن يظهر ذاته، بل إن الباحث يتدخل في مجرى الظواهر ويحدد، حسب قواعد منهجية، الشروط التي ينبغي أن تتم فيها مراقبة الطبيعة.
هذا التحول في موقف العالم الحديث من الطبيعة أدركه كنط وعبر عنه بكيفية لامعة في تصدير الطبعة الثانية "لنقد العقل الخالص" حيث يقول: "يجب على العقل أن يتجه إلى الطبيعة حاملا في يد مبادئه التي يمكنها هي وحدها أن تعطي للظواهر المتطابقة طابع القوانين، وفي اليد الأخرى التجربة التي تخيلها حسب تلك المبادئ؛ صحيح أن العقل يتجه إلى الطبيعة لكي يتعلم منها، ولكن ليس كتلميذ يتقبل كل ما يقوله المدرس، بل كقاض منصب يرغم الشهود على الإجابة على الأسئلة التي يضعها أمامهم"(9). إن التدابير المنهجية التي يتخذها العالم تحدد مسبقا المجال الذي يجب أن يظهر فيه الكائن والزاوية التي يجب أن ينظر منها إليه.
بهذا المعنى يمكن الحديث عن سيطرة الطابع المنهجي على العلم أو أسبقية المنهج بالنسبة للشيء، وهو الأمر الذي سبق أن سجله نيتشه في "إرادة القوة"، الفقرة 466: "ليس انتصار العلم هو ما يميز قرننا التاسع عشر، بل انتصار المنهج العلمي على العلم"(10) بفضل المنهج يرغم الكائن على أن يظهر حسب خطاطاتنا وتصميماتنا المسبقة وشبكاتنا التأويلية. أمّا ما لا يظهر في ضوء هذه الخطاطات، فلا يعترف به كموضوع للعلم، بل ولا يعتبر كائنا. إن سيطرة هذا الطابع المنهجي التقني تعمق اختزال الكائن وتؤدي إلى إلغاء الفوارق بين الكائنات، بل وبين مجالات الكائن.
إن سيطرة الروح التقنية في عصرنا لا تطال العلم فقط، بل تخترق كل ميادين الحياة البشرية. هذه السيطرة ليست راجعة إلى إجراء اتخذه الإنسان، بل إلى التحول الذي عرفه الكون(11) في العصر الحديث. إن كل علاقة يقيمها الإنسان مع الكائن تتم على ضوء تأويل معين للكون، وهذا التأويل لا يختاره الإنسان بمحض إرادته، بل يتحدد حسب هايدجر، بتأويله الخاص للكائن. حسب هذا التأويل يظهر الكائن كمجرد موضوع، إن الكائن لا يظهر للتفكير والفعل البشريين إلا كموضوع للتمثل والسيطرة، ولا يبقى له أي كيان أو قوام خاص، بل يصبح مجرد مناسبة للسيطرة العلمية والتقنية. ويبلغ هذا التأويل حدا أقصى عندما تظهر الطبيعة كمجرد مورد للطاقة والمادة الأولية، أي كمجال لتحقيق سيطرتنا. هكذا تتحول علاقتنا بالكائن إلى مسلسل دائم لغزوه واقتحامه وإخضاعه لإرادتنا. ومما لاشك فيه أن هذه العلاقة مع الكائن بلغت في الوقت الحاضر حدا أقصى يتجاوز حتى ما كان منتظرا في بداية العصر الحديث.
صحيح أن برنامج العلم الحديث يقوم منذ بيكون وديكارت على إنشاء معرفة بالطبيعة تمكن من التحكم فيها وتوجيهها لما فيه مصلحة الإنسان. فديكارت يعبر في القسم السادس من "المقال عن المنهج" عن ضرورة التخلي عن الفلسفة التأملية السكولائية وإنشاء فلسفة عملية تمكننا من أن نعرف قوة وحركات النار والماء والهواء والنجوم والسماوات وبقية الأجسام التي تحيط بنا ومن أن نستعملها لنصبح سادة على الطبيعة ومالكين لها. إلا أننا يجب أن نلاحظ هنا بأن القوى التي يستعرضها ديكارت هي القوى التي تظهرها الطبيعة من تلقاء ذاتها، أي بدون تدخلنا. ما يمكن أن يقوم به الإنسان هو أن يسخر هذه القوى ويتحايل عليها. (لفظ mechane الذي اشتقت منه الميكانيك يعني في اللغة اليونانية استعمال الحيلة). أما علاقة الإنسان اليوم بالطبيعة فتختلف عن ذلك، فقد اصبح بإمكاننا أن نرغم الطبيعة على أن "تنتج" ما لم يكن من الممكن أن تنتجه دون تدخلنا، ومعنى ذلك أننا أثرنا قواها وحررناها باتجاه تغيير وجه الطبيعة، بحيث أصبحنا نتجه، وهنا تكمن المفارقة، إلى أن نجد أنفسنا أمام طبيعة من صنعنا، أي أمام "طبيعة مصنوعة".
إن هذه العلاقة الجديدة بالطبيعة تتأسس، حسب هايدجر، في سيادة التقنية. ففي العالم التقني لا يبدو الكائن إلا كمصدر للطاقة. وسلوك الإنسان إزاء الكائـن هو استثارته على أن يظهر لنا كطاقة وإرغامه على أن يسلم لنا رصيد الطاقة الكامن فيه؛ هذا الرصيد يجب تخزينه وتدبيره وتحويله. ونظرا لأن هذه الطاقة تنفذ بعمق إلى مجالات إقامة الإنسان، فإنه من الضروري تأمين استعمالها وإخضاعها لسلطة الإرادة وأوامرها، أي وضعها تحت الطلب في انتظار أوامر الإرادة(12). ويكفي اليوم أن أعطي للطبيعة أمرا بالضغط على زر لكي أستعمل ذلك الرصيد الجاهز وأثير مسلسلا للتأثير في قوى الطبيعة. إن الأمر الذي تصدره الإرادة ليس مستقلا عن الطبيعة، بل هو البداية الفعلية لمسلسل التأثير في الطبيعة وقواها. وبعبارة أخرى، إن إرادتنا أصبحت في العالم التقني متغلغلة في الطبيعة، إنها لا تكتفي بتسخير الطبيعة، بل أكثر من ذلك تحدد ماهيتها، أي كيفية حضورها وظهورها.
نظرا لأننا في ظل سيطرة التقنية لا نرى الكائن إلا من زاوية الطاقة الكامنة فيه، فإن علم الطبيعة الرياضي لا يرى في الطبيعة إلا قوى يجب ملاحقتها وحسابها وصياغتها في قوانين تجعل حسابها والتحكم فيها ممكنين. يتأكد إذن من جديد أننا أمام معرفة نظرية تحمل هي ذاتها طابعا تقنيا، ولهذا السبب فقط يمكن أن تنتقل مباشرة إلى التطبيق التقني.
هذه العلاقة بين النظرية والتقنية تبدو لنا في الوقت الحاضر أمرا طبيعيا، ويصعب علينا أن نتصور بأن العلاقة بينهما يمكن أن تتخذ شكلا آخر. وعلى العكس من ذلك فإن تصور العلاقة بينهما على هذا النحو أمر جديد مرتبط بتحولات حاسمة حدثت في العصر الحديث. ولكي ندرك ذلك يكفي أن نذكر بالكيفية التي فهم بها الإغريق النظرية والتقنية. إننا نتصور عادة العلاقة بين النظرية والتقنية كعلاقة بين المعرفة والتطبيق. ولهذا فأول ما يفاجئنا في التجربة الإغريقية كما عبر عنها أرسطو هو أنها تضع النظرية theoria والتقنية techne على نفس المستوى. فالنظرية هي المعرفة التي يكتمل بها العلم ويحقق غايته. ولكن techne هي أيضا نوع من المعرفة، وهي بالضبط المعرفة التي ترافق الفعل البشري وتقوده إذا كان يتجه إلى إنتاج منتوج يستقل في نهاية الأمر عن الفعل الذي أنتجه كما تستقل الطاولة مثلا عن فعل النجار عند اكتمال هذا الفعل. هذا النوع من الفعل يسميه أرسطو poiesis (وذلك في مقابل praxis بالمعنى الضيق الذي يخصصه أرسطو للدلالة على الفعل البشري الذي لا ينتهي بإنتاج منتوج مستقل عنه مثل الفعل الأخلاقي أو السياسي). techne هي نمط المعرفة التي يتم حسبها الـ poiesis (كما أن الـ praxis له نمط خاص من المعرفة هو phronesis أي الكياسة أو اللباقة)(13)، وهذه المعرفة يمكن أن تكون ضمنية وغير معبر عنها. إذن techne هي كذلك نوع من المعرفة مثل theoria. وعلاوة على ذلك، فإن theoria حسب أرسطو هي المعرفة التي تبتغى لأجل ذاتها لا لتحقيق هدف آخر مهما كان، إن العلم النظري هو غاية ذاته وبه تتحقق أعلى درجات السعادة(14). وأكثر من ذلك فإن المعرفة النظرية هي ذاتها غير قابلة للتطبيق حسب أرسطو.
وعلى خلاف ذلك، فإن النظرية اليوم ليست سوى وسيلة للتحكم في الطبيعة، إنها لا تطلب إلا من أجل السيطرة على قوى الطبيعة. بل وأكثر من ذلك، إنها موجهة منذ المنطلق نحو هذه الغاية، وقيمتها الوحيدة تتحدد حسب الإمكانيات التي تفتحها أمامنا للسيطرة على قوى الطبيعة. وهكذا فليست التقنية، حسب هايدجر، نتيجة لتطبيق معارف علم الطبيعة على الواقع، بل إن المعرفة العلمية بالطبيعة هي ذاتها تقنية من حيث إنها تشتغل بكيفية تقنية، ومن حيث إنها ليست سوى معرفة بقوانين التأثير في الطبيعة(15). إن التطبيق التقني لهذه المعرفة ليس ممكنا إلا لأنها هي ذاتها كمعرفة تحمل طابعا تقنيا. ويتجلى هذا الطابع التقني ليس فقط في أن هذه المعرفة موجهة منذ المنطلق نحو السيطرة التقنية على قوى الطبيعة، بل في أن أسلوب عملها هو أيضا أسلوب تقني. فالفرق بين العالم والمجرب والمهندس أصبح يتضاءل باستمرار، كما أن العالم أصبح ينشئ النظرية داخل المختبر، وأصبح من الضروري أن يتوفر هو نفسه على كفاءة تقنية في استخدام الآلات المخبرية وخاصة في استخدام الحاسوب. والمعرفة العلمية يتم التعامل معها بنفس الأسلوب الذي يتم التعامل به مع الكائن عموما. فالمعارف العلمية هي أيضا طاقة، وهي أيضا تختزل إلى معلومات مصوغة حسب نفس النمط، أي إن العالم يجب أن يرغم المعارف العلمية على أن تظهر كمعلومات عليه أن يجمعها ويخزنها، أن يعالجها ويدبرها، أن يؤمنها ويضعها تحت الطلب حتى تكون رهن إشارة الإرادة وأوامرها.
إن سيطرة العقلانية العلمية-التقنية تعود حسب هايدجر إلى أن الكائن يظهر في العصر الحديث كموضوع لتمثلنا وكرصيد لأجل التحكم التقني في العالم؛ وما دام الأمر كذلك، فكل ما هو كائن يمكن إخضاعه لتمثلنا وإرادتنا، لا شيء يمكن أن ينفلت من قبضتنا. هذه الروح التي تميز الإنسان الحديث تقوم على تأويل خاص للكائن، وهذا التأويل ليس، حسب هايدجر، سوى حلقة في تاريخ نسيان الكون، هذا النسيان الذي يطبع التاريخ الغربي ويؤسسه.
مع سيادة التصور العلمي-التقني لا يظهر الكائن إلا كطاقة صالحة للسيطرة، وخطورة ذلك تكمن في انتشار الاعتقاد بأن هذه الكيفية هي الكيفية الوحيدة لظهور الكائن. هكذا يتم النظر إلى الإنسان ذاته في ضوء هذا التأويل(16)، ويبدو هو الآخر كمجرد طاقة ثمينة يجب إخضاعها إلى كل أشكال التحكم التقني التي تعرفها الحياة المعاصرة: التنظيم التقني للعمل، تدبير الموارد البشرية، التعامل مع "الكتل البشرية" كقدرة على العمل والإنتاج، التسيير البيروقراطي، صنع الرأي العام الخ. وأكثر من ذلك، فإنه في مسلسل السيطرة على الطبيعة تقع على الإنسان مهمة تأسيس إرادة السيطرة وإنشائها، توسيعها وإكمالها. وهكذا فإن الإنسان يعرف هو أيضا، في ظل سيادة ماهية التقنية، تحولا كبيرا، إذ عليه أن يكمل إرادة السيطرة أي أن يضطلع بالإرادة بصفتها السمة الأساسية لماهيته. إن الإرادة لا تطبع ماهية الطبيعة فقط، بل كذلك، وبنفس القدر، ماهية الإنسان.
ما يجب ملاحظته هو أن هذا الاتجاه المتزايد للسيطرة على الكائن لا يعرف حدودا. فكل محطة في مسلسل السيطرة تفتح إمكانيات جديدة، وهكذا دون نهاية. هذا الإحساس بلا نهائية مسلسل السيطرة ربما ليس سوى نتيجة لأن هذا التحكم التقني ليس مجرد وسيلة لتحقيق غايات معطاة سلفا، بل إنه غاية في حد ذاته. أو بعبارة أخرى، إن مسلسل غزو الكائن وإخضاعه لإرادتنا هو مسلسل ليس له غاية. وحيث أن غياب الغايات يفزعنا، فإننا نضع غايات لهذا التحكم. وما المبالغة في الحديث عن الأهداف والغايات في كل المجالات سوى تعبير عن غياب غايات حقيقية. إلا أن الغايات التي تضعها إرادة السيطرة ليس لها من قيمة إلا من حيث إنها تستنفر إمكانيات جديدة للسيطرة والتحكم، ولهذا تفقد كل قيمة بمجرد أن تفقد قدرتها على الاستنفار؛ وهذا واضح لأن إرادة السيطرة هي ذاتها التي تحدد الغايات، بينما المفروض أن تتحدد الإرادة ذاتها وفقا لغايات معطاة مسبقا. إن إرادة السيطرة ليس لها من غاية إلا السيطرة، إننا أمام إرادة لا تريد إلا ذاتها، أمام إرادة الإرادة. إن إرادة الإرادة وغياب الغايات يرتبطان ارتباطا وثيقا بفقدان المعنى المميز للعصر الحاضر(17).
يصل هايدجر، كما نلاحظ، إلى نتائج مشابهة للنتائج التي توصل إليها هوسرل. في مقابل نسيان عالم الحياة اليومية الذي يطبع، حسب هوسرل، الوضعية الحالية، يتحدث هايدجر عن نسيان الكون. والفيلسوفان معاً يريان أن هذا النسيان ليس سوى تعميق لذلك النسيان الذي حدث مع بداية التاريخ الغربي. ومع ذلك، فإن تأويلهما للتاريخ الغربي يختلف بشكل يجعل تصوراتهما للتخلص من هذا النسيان متعارضة تماما.
يرى هوسرل أن ميلاد أوربا ككيان ثقافي تاريخي تم في اليونان القديمة مع ابتكار شكل ثقافي جديد مطلقا هو العلم أو الفلسفة(18). وهما معا لا يعنيان عند هوسرل سوى طموح الإنسان إلى أن يوجه حياته النظرية والعملية توجيها عقلانيا، وأن يؤسس معارفه وممارساته على معايير العقل. هذه هي الفكرة الأصلية للفلسفة، التي يرى هوسرل أن أفلاطون هو أول معبر عنها، وهي الفكرة التي حملتها الثقافة الأوربية دون أن تتمكن من تحقيقها، وذلك بسبب نسيان عالم الحياة اليومية الذي ألم بالعلم والفلسفة منذ بدايتهما. هذا النسيان سيتعمق جذريا مع نشأة علم الطبيعة الرياضي. وهوسرل يرى أن الخطورة لا تكمن في هذا النسيان ذاته، ذلك أن نسيان العالم اليومي أمر ضروري لكي ينشأ علم الطبيعة ويتقدم. إن الخطورة تكمن حسبه في أن العلم ينسى هذا النسيان. لا يكمن المشكل في أن ينشئ الفيزيائي طبيعة رياضية وأن يتعامل معها كبناء منهجي، ولكن في أن يعتقد أن الطبيعة هي في ذاتها رياضية قبل كل إجراء منهجي، وأن مهمته تكمن في ملاحقة هذه الطبيعة الرياضية والتعبير عنها في قوانين ونظريات. إن نتيجة هذا الفهم هو انفلات البحث العلمي من آفاق الحياة البشرية ومن مسؤولية الإنسان.
بناءا على ذلك فإن تجاوز أزمة العلوم يكمن في إعادة ربط البحث العلمي بآفاق العالم اليومي، الأمر الذي يتطلب، حسب هوسرل، إنشاء علم فلسفي بالعالم اليومي يبين كيف أن العلوم الموضوعية تتأسس على التجربة اليومية. والفينومينولوجيا عندما تنشئ علما بالعالم اليومي وتبرز كيف يتأسس هذا العالم بالنسبة للوعي، ستكون قد حققت الفكرة الأصلية للفلسفة. إن الثقافة الأوروبية ابتعدت خلال تاريخها عن فكرتها الأصلية ووقعت ضحية النزعة الموضوعية؛ وبرنامج الفينومينولوجيا يكمن في تطهير الفلسفة والعلم من هذه النزعة وتحقيق الفكرة الأصلية للفلسفة كعلم صارم.
يقف هايدجر أيضا في تأويله التاريخي عند أفلاطون. فمع أفلاطون تبتدئ الميتافيزيقا التي تشكل، حسب هايدجر، الأساس الحامل للتاريخ الغربي بأكمله. يحدد هايدجر الميتافزيقا كنسيان للكون، ويبرز هذا النسيان من خلال الوقوف عند أفلاطون(19). مع أفلاطون بدأ تأويل الكون على ضوء التفكير. فالكائن الحقيقي حسب أفلاطون هو الفكرة - بمعنى المثال الأفلاطوني-، أي، حسب تأويل هايدجر لأفلاطون، المظهر الذي تبدو به الأشياء لنظرنا العقلي. مع تأويل الكون على ضوء التفكير يبتدئ نسيان الكون، أي نسيان أن الاختفاء سمة أساسية للكون. هذا النسيان سيبلغ حده الأقصى في العصر الحديث والميتافيزيقا المؤسسة له التي تفهم الكائن كمجرد موضوع للتمثل والتحكم البشريين. كلما لاحق الإنسان الكائن وأحكم سيطرته النظرية-التقنية عليه، كلما ازداد الكون اختفاء، أي كلما استعصى على الإنسان الانتباه، إلى أن إرادة السيطرة هذه ليست نتيجة لقرار اتخذه الإنسان، بل حدثا وجد الإنسان ذاته منخرطا فيه، وكلما استغلق عليه أن يدرك بأن الكون ذاته -وليس الإنسان- هو الذي يجعل الكائن يظهر كموضوع للسيطرة.
إن التأويل العلمي-التقني للعالم والتوجه المرتبط به هو، حسب هايدجر، اكتمال للميتافيزيقا، أي للأفلاطونية، وليس انحرافا عنها كما يعتقد هوسرل. ولهذا فلا مجال، حسب هايدجر، لتصحيح مسار التاريخ الغربي أو لإحياء أصل تم تحريفه. إن الخروج من الوضعية الراهنة لا يمكن أن يتم إلا مع بدء آخر -بالمقارنة مع البدء الأول عند الإغريق-، يصبح فيه التفكير قادرا على تجربة الكون كاختفاء، وبالتالي على تهييء شكل جديد للإقامة في العالم وللتعامل مع الأشياء لا يأخذها كمجرد موضوعات للسيطرة التقنية. وهذا لا يعني أن الإنسان قادرة بإرادته وتخطيطه على مغادرة التأويل العلمي-التقني وابتكار تأويل جديد. إن الإنسان -حسب هايدجر- هو المحل الذي ينفتح فيه الكون ويحصل فيه بالتالي المعنى؛ ولكن مع ذلك فالإنسان لا يحدد الكيفية التي يؤول بها الكائن، بل يجد ذاته منخرطا في هذه الكيفية. وعليه فإننا لا نستطيع بقرار إرادي تغيير التصور العلمي-التقني السائد، بل لا يمكننا إلا أن ننتظر تحولا للكون وأن نستعد لتقبل هذا التحول والاستجابة له. ويرى هايدجر في النسيان التام للكون الذي بلغ أوجه في العصر الحاضر ما يسمح بالاعتقاد بأننا على أبواب تحول في الكون.
III
يبدو، من خلال هذا العرض، أن هوسرل وهايدجر يلتقيان إلى حد بعيد في تحليلهما للعلم الحديث والتوجه التقني المرتبط به. ومع ذلك، فإنه لا ينبغي أن نقلل من شأن الاختلافات بينهما. فهوسرل ينظر إلى نسيان عالم الحياة اليومية "كمرض" طارئ يمكن علاجه عن طريق إنشاء علم فلسفي بهذا العالم. أما هايدجر فيرى أن نسيان الكون ليس وليدا لإهمال بشري أو لخطأ طارئ ألم بالتاريخ الغربي، بل إنه أساس هذا التاريخ. إن الإرادة المتنامية للسيطرة العلمية-التقنية على الكائن ليست ممكنة، إلا على أساس نسيان أن الاختفاء هو سمة أساسية للكون. هذا النسيان ليس حدثا بشريا، بل إنه حدث ينتمي إلى الكون ذاته، ولذلك لا يمكن علاجه أو تداركه بقرار من الإنسان.
لا ينبغي أن يثير هذا التعارض بين الفيلسوفين خيبة أملنا. فالمقارنة بينهما لم تكن تهدف إلى البحث عن تصور جاهز لمشاكل العالم الحاضر أو عن طريق معبد لتجاوزها، بل إلى تمثل الكيفية التي تعامل بها الفيلسوفان مع الوضعية الحالية، واستكشاف الإمكانيات التي يفتحها هذان الممثلان البارزان للفينومينولوجيا أمام الفلسفة في زمن سيادة العلم والتقنية .
تكمن الأهمية الأساسية لتحليلات هوسرل وهايدجر في إبراز الطابع التقني للعلوم الحديثة. هذه العلوم هي في عمقها علوم تقنية لأنها مسكونة بهم السيطرة على العالم من جهة، ولأنها تفكر بكيفية تقنية من جهة أخرى. وهذا لا ينطبق على علوم الطبيعة فقط، بل حتى على علوم الإنسان. وأكثر من ذلك، فإن التصور العلمي-التقني يتجه إلى أن يفرض ذاته في كل المجالات بوصفه الأسلوب الوحيد الممكن للتفكير والحياة. إن تحول العلم التقني إلى أسلوب ثابت في التفكير يجعل كل مشاكلنا تبدو وكما لو كانت مشاكل تقنية يمكن حلها باستعمال ممارسات تقنية. وحتى التعليم والتكوين يختزل دورهما في نقل مهارات جاهزة قابلة للتطبيق في كل آن. لا شك أن إنسانا متشبعا بالأسلوب التقني يمكن أن يكون ماهرا في استعمال آليات التفكير العلمي-التقني، ولكنه سيكون حتما عاجزا عن تخطي الحدود التي ترسمها هذه الآليات، أي سيكون عاجزا عن إبداع آفاق جديدة للمعرفة والفعل، وعن ابتكار إمكانيات جديدة لوجودنا وحريتنا.
بناءا على ذلك، فإنه سيكون على الفلسفة أن تخضع العلوم التقنية السائدة لتحليل نقدي؛ هذا التحليل يجب أن يتناول العلم كقوة توجه حياة الإنسان اليومية في مختلف الميادين. يجب ملاحقة هذه العلوم التقنية في كل أشكال حضورها الظاهرة والخفية في عالمنا الراهن. ولا يعني ذلك التشكيك في حقيقة النظريات العلمية، بل بيان أن الحقيقة العلمية ليست هي الحقيقة الأخيرة، وأن العلم ليس هو الكلمة الأخيرة في حياة الإنسان. كما أن هذه المتابعة النقدية لن تهدف إلى البحث عن حقيقة أصلية للأشياء، أو عن فردوس مفقود يجب استعادته، بل فقط إلى إدراك العلوم التقنية في حدودها، والتنبيه إلى المخاطر التي تنجم عن تحول هذه العلوم إلى غاية في ذاتها، بدل أن تكون مجرد وسيلة.
والفلسفة عندما تتخذ إزاء العلم موقفا نقديا، فإنها لا تقوم إلا بممارسة مهمتها الأصلية. فالفلسفة لا تقبل أية افتراضات أو مسبقات، بل تخضع كل شيء للنقد والتساؤل. عندما يتخذ الإنسان الموقف الفلسفي ينكشف العالم في ضوء جديد، حيث تفقد البديهيات بداهتها، وتصبح القناعات الراسخة في حاجة إلى تأسيس، وتبدو الأشياء المألوفة في غرابتها. ولكي تكون الفلسفة وفية لمعناها الأصلي، يجب أن تتخذ هذا الموقف إزاء التوجه العلمي-التقني السائد في عالم اليوم، أي يجب عليها أن تحطم هذه الألفة التي أصبحت تربطنا به وتجعله يبدو وكما لو كان أمرا بديهيا، يجب عليها أن تجعله يبدو في غرابته.
إلا أن الفلسفة، لكي تكون قادرة على القيام بهذه المهمة، يجب عليها، هي ذاتها، أن تتحور من هذا التوجه العلمي-التقني الذي بدأ تأثيره يمتد إليها هي كذلك. وهكذا لم يعد غريبا أن نسمع داخل الفلسفة أصواتا تعبر، بكيفية أو بأخرى، عن هذا التوجه. فهناك من يدعو مثلا إلى أن الفلسفة يجب أن تقتصر على تتبع مختلف مجالات المعرفة العلمية وأن تتوزع هي ذاتها مثل العلوم إلى تخصصات جزئية ودقيقة. بل وأكثر من هذا، هناك من يرى أن الفلسفة يجب أن تتخلى عن مهمتها التقليدية في توجيه الحياة العملية الأخلاقية، بحجة أن الفلسفة، لكي تحافظ على "علميتها"، يجب أن تترك هذه المهمة للإيديولوجيات ورؤى العالم. ومما يثير الاستغراب أن ينتشر هذا التصور في هذا الوقت بالذات، حيث تتخذ سيطرة الإنسان على الطبيعة وعلى الإنسان أبعادا مخيفة تطرح بكل إلحاح مهمة التفكير في قضايا التوجه الأخلاقي الفردي والجماعي.
إن الفلسفة لا يمكن أن تتعامل تعاملا نقديا مع التوجه العلمي-التقني إذا لم تتحرر منه. والفينومينولوجيا، بدعوتها للرجوع "إلى الأشياء ذاتها"، وبإحالتها إلى أشكال لتجربة العالم والأشياء سابقة على المعرفة العلمية ومختلفة عنها، تقدم مساهمة أساسية على هذا الطريق. هذا هو الدرس الأساسي الذي نستخلصه من المقارنة بين هوسرل وهايدجر ·
الهوامش
(*) يعتمد هذا المقال بشكل أساسي على الأطروحة التي ناقشناها بجامعة فوبر طال بألمانيا في شهر يوليوز 1993 تحت عنوان "نقد علم الطبيعة الحديث. الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدجر" والتي نشرت سنة 1995 في إطار السلسلة الفلسفية Elementa التي تصدرها دار النشر Rodopi. هذا المقال سبق نشره في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي تحت عنوان "نقد علم الطبيعة الحديث بين هوسرل وهايدجر" بتاريخ 31 مايو 1996 ويسرنا أن نعيد نشره على صفحات هذه المجلة تلبية لرغبة هيئة تحريرها، وذلك بعد أن قمنا بتنقيته وإغناء القسم الثاني منه.
1 - من المعروف أن هايدجر عرف خلال الثلاثينات فترة تأمل عمل خلالها على تعميق تفكيره في المشروع الذي بلوره في كتابه الأساسي "الكون والزمان". وترتبط هذه الفترة بتحول هايدجر نحو ما أصبح يسميه بتفكير تاريخ الكون. يربط بعض دارسي هايدجر هذا التحول بتخليه عن المنهج الفينومينولوجي. إلا أن هايدجر أكد في بعض كتاباته الأخيرة أنه ظل وفيا للفينومينولوجيا، وذلك بشرط أن تفهم لا كاتجاه فلسفي، بل كإمكانية للتفيكر، أو بالضبط كإمكانية للاستجابة لما هو جدير بالتفكير، أي للكون. انظر بهذا الصدد:
Zur Sache des Denkens, Tübingen 1969, S. 48, 121.
2 - واضح أن نقد كل من هوسرل وهايدجر للعلم الحديث لم يتخذ شكلا ناضجا إلا في مؤلفاتهما المتأخرة. لكن نعتقد، مع ذلك، أن جذور هذا النقد توجد في مؤلفاتهما الأولى. فمن المعروف أن برنامج الفينومينولوجيا لدى هوسرل ينطلق من نقد للعلوم الوضعية يركز خاصة على غموض مفاهيمها ومبادئها ويبرز ضرورة التفكير في إعادة تأسيسها. يمكن الرجوع مثلا إلى: أفكار من أجل فينومينولوجيا خالصة وفلسفة فينومينولوجية. الكتاب الثالث: الفينومينولوجيا وأسس العلوم، الفقرة 18. هذا الكتاب ألفه هوسرل سنة 1913، إلا أنه لم ينشر إلا سنة 1952 في إطار المؤلفات الكاملة لهوسرل "هوسرليانا" المجلد الخامس.
Ideen zu einer reinen phänomenologie und Phänomenologischen Philosophie. Drittes Buch: Die Phänomeund die Fundamente der Wissenschaften, Husserliana Bd. V, D en Haag 1952.
كما أن هايدجر أكد هو الآخر قبل الثلاثينات أن علم الطبيعة الحديث يقوم على اختزال الطبيعة وتقنيع تجربتنا اليومية للعالم والأشياء والزمان والمكان. يمكن الرجوع مثلا إلى: مقدمات لتاريخ مفهوم الزمان، الأعمال الكاملة، المجلد 20، ويضم محاضراته الجامعية خلال دورة الصيف 1915، الفقرة 24 ب؛ وكذلك إلى :المنطق. السؤال عن الحقيقة، الأعمال الكاملة، المجلد 21، ويضم محاضراته الجامعية لدورة الشتاء 1925-1926، الفقرة 19.
Prolegomena zur Geschichte des Zeitbeyriffs, Gesamtansgabe Bd. 20, 2. Auflage, Frankfurt a.M. 1988.
Logik. Die frage nach der Wahrheit, gesamtansgabe Bd. 21, Frankfurt a.M. 1976.
3 - انظر: أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية:
Die Krisis der europäischen Wissenschaften und die transzendentale Phänomenologie, Husserliana Bd. 6, 2. Auflage, Den Haag 1976.
صدر قسم من هذا الكتاب سنة 1936 ببلغراد (فقد كان محظورا على دور النشر الألمانية في عهد النازية أن تصدر مؤلفات هوسرل بسبب أصله اليهودي)، ولم يصدر بكامله إلا سنة 1954 في إطار المؤلفات الكاملة لهوسرل، المجلد السادس.
4 - لمزيد من التفاصيل راجع الفقرة 9 من أزمة العلوم الأوروبية.
5 - يسمي هوسرل في مؤلفاته الأخيرة وخاصة في كتاب "الأزمة" عالم الحياة اليومية أو عالم التجربة المباشرة "عالم العيش" :le monde de la vie : Lebenswelt ، وذلك تمييزا له عن العالم كما تتمثله وتقدمه القوانين والنظريات العلمية. يبين هوسرل في البداية التعارض بين عالم العيش الذي يتميز بذاتيته ونسبيته وبين العلم الذي يتميز بدقته وموضوعيته. إلا أنه مع تقدم تحليلاته يتجه نحو إبراز العلاقة المشخصة بينهما. فالعلم رغم دقته وموضوعيته يتأسس على التجارب اليومية لعالم العيش، والنظريات العلمية مهما كانت متينة من حيث بناؤها المنطقي-الرياضي لا بد أن تتضمن بداهات حسية قادمة من عالم العيش. وعلاوة على ذلك، فإن العلم ذاته ينتمي إلى عالم العيش بصفته الأفق الذي يحدد كل ممارساتنا العملية والنظرية. للاقتراب أكثر من مشكل العلاقة بين العلم وعالم العيش عند هوسرل راجع "الأزمة"، الفقرة 34 و الملحق 17.
6 - يرفض التحليل الفينومينولوجي النظر إلى العلم كمجال معزول عن باقي مجالات التجربة البشرية، ولهذا كان هوسرل يؤكد منذ دراساته الأولى أنه لا يمكن توضيح المنطق وتأسيس العلم إلا في إطار فينومينولوجيا تهتم بمعيشات التفكير والمعرفة عموما. راجع مثلا: أبحاث منطقية، المجلد الثاني، المقدمة، الفقرة 1.
Logische Untersuchungen 2. Bd., 1. Teil: Untersuchungen zur Phänomenologie und Theorie der Erkenntnis, 6. Auflage, Tübingen 1980.
7 - يسمي هوسرل الفعل الذي يتم بفضله إنتاج هذه الموضوعات الأمثلة: Idealisation : Idealisierung. راجع الملحق 3، 4 من كتاب "الأزمة".
8 - للاطلاع عل تحليل هايدجر للعلم الحديث يمكن الرجوع خاصة إلى: الكون والزمان، الفقرة 69 ب؛ تأويل فينومينولوجي "لنقد العقل الخالص" لكنط، الفقرة 2؛ السؤال عن الشيء، القسم ب، الفصل 1؛ زمن صورة العالم، في: طرق غابوية؛ مساهمات في الفلسفة، الفقرات 75-84. ينتمي هذا الكتاب الأخير إلى سلسلة من الكتب ألفها هايدجر وامتنع عن نشرها، ولكنه قبل في الأخير أن تنشر في إطار مؤلفاته الكاملة بعد أن تكون قد نشرت أهم محاضراته الجامعية. "مساهمات في الفلسفة" الذي ألفه هايدجر بين 1936 و1938 هو أول كتاب صدر من هذه السلسلة سنة 1989 بمناسبة مرور مائة سنة على ميلاد هايدجر، وهو يمثل المجلد 65 من المؤلفات الكاملة. يعتبر هذا الكتاب من طرف كثير من دارسي هايدجر كتابه الأساسي الثاني بعد "الكون والزمان".
Sein und Zcit, 16. Auflage, Tübingen 1986.
Phünomenologische Interpretation von kants "Kritik der reinen Vernunft”, Gesamtansgabe Bd. 25, Frankfurt a.M. 1977.
Die Frage nach dem Ding, 2. Auflage, Tübingen 1975.
Die Zcit des Weltbildes, in Holzwege, 6. Auflage, Frankfurt A.M. 1980.
Beiträge zur philosophie, Gesamtansgabe Bd. 65, Frankfurt. A.M. 1989.
I. Kant, Kritik der reinen vernunft, B. XIII 9-
هذا التحول في موقف العالم الحديث من الطبيعة يعطيه كنط اسما هو الثورة الكوبرنيكية. ويمكن بهذا الصدد استحضار تحليلات حنه آرنت التي أبرزت في الفقرة 41 من كتابها عن وضعية الإنسان الحديث أن ما يؤسس العلم الحديث هو بالضبط هذا التحول في موقف العالم من الطبيعة، حيث ساد الاقتناع بأنه لا يمكن أن يعرف العالم الطبيعة إلا إذا تخلى عن المشاهدة وابتدأ في التدخل في مجرى الظواهر. وتذهب حنه آرنت في دراستها عن م