قدم أرنولد توينبي { تـ 1975 م } (1) تصورا فلسفياً للدراسات الحضارية مؤسسا على نظرة تاريخية موثقة بالأسانيد والشواهد ، وتعد نظريته إحدى النظريات التي يعتد بها كثير من المفكرين وكتاب التاريخ , فإلى جانب زميليه فيكو واشبنجلر يعد من أشهر أعلام فكرة التعاقب الدوري للحضارات في فلسفة التاريخ .
تعد نظريته في حركة التاريخ {التحدي والاستجابة} من أهم النظريات في فلسفة التاريخ ، إذ عكف على دراسة حضارات العالم طوال نصف قرن تقريبا ، وقد قوّم هذه الحضارات بعد دراسة طويلة تقويما موضوعيا ، فقد ذهب لإحصائها ومقارنتها قصد الوقوف على ثوابتها ، وقد كان لنظرية ابن خلدون الأثر في نظريته الحضارية ، ولاسيما فيما يتعلق بفكرة التعاقب الدوري , ودور الأديان في نشأة الحضارات وارتقائها , ويعد كتاب توينبي هذا اهم انجازاته اذ اجرى فيه مسحاً وتحليلا للحضارات الإنسانية شتى , ووضع فيه نظريته الخاصة بنشوء الحضارات واندثارها , ويعتقد ان للتاريخ أشكالاً تتكرر إذ يقول :" وهو ما يسميه العلماء بـ {القوانين} وبعض المؤرخين ينكرون تماما مثل هذا التكرار والتوحيد في الامور الانسانية . وهم يقولون – أي العلماء - ... : ان التاريخ لا يكرر نفسه , ولكني متعصب , الى حد ما , لهذه النقطة , واعتقد ان التاريخ يكرر نفسه الى حد ما . واعتقد ان في مقدورك اكتشاف عدد معين من الاشكال الموحدة في التاريخ القديم " (2) .
تقوم نظريته على قانون التحدي والاستجابة ، وقد استبعد تماما من مجال بحثه النظرة العرقية التي تعد الجنس الآري النوردي أسمى الأجناس , لذا يقول :" انني اكتشفت منذ البداية انني لا استطيع ان اتناول الامم كوحدات في دراستي التاريخية . معظم مؤرخينا يكتبون التاريخ على انه تاريخ امم , غير انني وجدت ان الامم اصغر من ان تتناسب مع الدراسة التاريخية , واحسست بانها شذرات من شيء اضخم , شيء كان علىّ ان اسعى وراءه , وهكذا سعيت وراء المدنيات . مثال هذا انني لم انظر الى الامور على اعتبار انها مجرد تاريخ امريكي او تاريخ فرنسي او تاريخ ايطالي , وانما على انها تاريخ غربي , او تاريخ اغريقي , او تاريخ هندي , وهكذا وحدات ضخمة , حوالي عشرين منها . وشرعت ادرس تشريح هذه الوحدات .... ولقد انتهيت , في اجزائي الاخيرة – أي كتاب دراسة للتاريخ - بوجه خاص , الى ان الديانات الكبرى هي الانماط الكبرى للتاريخ " (3) .
ويقول عن نظريته في التحدي والاستجابة :" اعتقد انه في كل لحظة من حياة كل فرد فينا , وفي كل لحظة من حياة مدنية من المدنيات , يتحدانا على الدوام موقف جديد , موقف علينا ان نواجهه , فاما نجحنا او فشلنا . وقد نفشل في أي لحظة ونبدأ في الانحدار , وقد ننجح ونستمر في العيش " (4 ) . فمفهوم تحد ومفهوم استجابة ،هما مفتاح فهم وشرح تاريخ توينبي في تحديد مصير كل حضارة ، من حيث النمو والولادة ، أو من حيث الأفول والسقوط.
ويعني التحدي وجود ظروف صعبة تواجه الإنسان في بناء حضارته وتكون استجابته إما ناجحة إذا تغلب الإنسان على هذه المصاعب ، أو استجابة فاشلة إذا عجز الإنسان على مواجهة هذه المصاعب, فالتغلب على هذه المصاعب هو واقعة نمو حضاري ، والرضوخ تحت وطأتها عند الانطلاق علامة على الانحلال والسقوط ، والتحدي إما يكون ناتجا عن الظروف الطبيعية الصعبة والقاسية أو يكون تحديا بشريا في شكل عدوان خارجي من طرف دولة أو جماعة بشرية أخري معادية.
وسأتناول في دراستي نشوء الحضارات وارتقاءها , وأسباب الارتقاء أولا , ثم انهيار الحضارات وأسباب الانهيار ثانياً .
نشوء الحضارات وارتقاؤها :
إن الحضارة في رأي توينبي تواجه أنماطاً مختلفة من التحديات , فاذا ما استطاعت ان تجيب على هذا التحدي , استطاعت ان تعيش وتنمو وتزدهر وإلا فإن مآلها الى الزوال والاندثار (5) , فالحضارة عند توينبي " قامت مدفوعة بقانون { التحدي والاستجابة } القائل ان الظروف الصعبة هي التي تستثير الامم على اقامة الحضارات . في سياق توافقي مادي – معنوي " (6) .
وعن نشوء الحضارات ينكر توينبي وجود حضارة واحدة قديمة , مثلا القول ان مصر هي اصل جميع الحضارات , فعند توينبي خمس عشرة حضارة تصل بصلة البنوة بحضارات سابقة , وستة مجتمعات فقط قد انبعثت من الحياة البدائية مباشرة . تلك هي : { المصرية – السومرية – الصينية – المايانية – الانديانية } والاخيرتان نشأتا بأمريكا الجنوبية . " ولا يمكن ان يُعزى قيام الحضارات الى صفات معينة في جنس من الاجناس , إذ لا يمكن ان يرتبط التفوق الروحي والذهني بلون البشرة فالواقع ان جميع الاجناس قد ساهمت في انبعاث الحضارة " (7) .
ويرى توينبي أن الصراع والصدام بين الحضارات ناتج من مخيلة الانسان على مدى تطوره الاجتماعي والحضاري , فهناك اللقاء المتناقض بين الخير المطلق وهو الله وبين الشر المطلق وهو الشيطان , هذا اللقاء التراجيدي الرهيب الذي توارثته مخيلة الانسان على مدى التاريخ نجده يتكرر في معظم الحضارات الغربية والشرقية , ونجدها في مصر وبلاد ما بين النهرين , والهند , والاغريق .... فالألم والعذاب وصور النضال ضد الطبيعة والكون هي قصة ماساة الانسان , كما انها هي نفسها قصة الانسان وقصة فدائه , وما لقاء آدم وحواء الا صورة من صور الابداع الاجتماعي الذي انتهى بمولد حضارتين متباينتين , حضارة الخصب عن طريق رعي الغنم التي يمثلها هابيل وحضارة الارض التي يمثلها قابيل . . هكذا باختصار بدات الاسطورة المعبرة عن اعمق حقائق صراع الانسان مع الطبيعة والكون من اجل ايجاد مجتمعه وحضارته (8)
والتناوب بين التحدي والاستجابة او بين الركود والاندفاع قد ادركه سابقاً حكماء الصين فأسموه {ين و يانغ} فـ ين هو الركود و يانغ هي حركة الاندفاع في طريق الابتكار والإبداع (9) .
ونشوء الحضارة يتكون عندما يتوافر لهذه الحضارة ميزات خاصة في بيئة ممكن انبعاث الحضارة فيها, فلم يكن نشوء الحضارات في رأي المؤرخ البريطاني توينبي ناتج عن تأثير العوامل البيولوجية وحدها ، أو تأثير العوامل الجغرافية الطبيعية والبيئية ، وإنما تنشأ الحضارات نتيجة التحدي الذي تفرضه الطبيعة التي تضع الإنسان دائما أمام تحديات جديدة غير متوقعة تخلقها خلقا ، مثل الهجرات التي كان سببها الجفاف ، وقد يكون التحدي في صورة غزو أو حرب أو تهديد بالاسترقاق ، وإلى هذه الأشكال من التحدي يرجع توينبي الظروف العامة التي تتشكل في ضمنها الحضارات , وهي نسبية من بيئة لأخرى ومن مجتمع لآخر , فهل تعدّ - مثلاً – البيئة الخاصة التي اتاحها النيل لمصر , ميزة ايجابية , لها وحدها , ويُعزى بدء الحضارة المصرية ؟ هنا تصمد النظرية للاختبار في منطقة مجاورة تتوافر فيها الشروط المطلوبة , تلك هي المنطقة الدّنيا من وادي الرافدين { دجلة والفرات } , اذ نجد ظروفا ًطبيعية مماثلة ومجتمعاً مماثلاً هو المجتمع السومري , لكن النظرية تنهار في وادٍ أصغر وان كان مشابهاً هو وادي الاردن الذي لم يكن يوماً مركزاً لاي حضارة . ولعلها تنهار في وادي السند .
ومن الامثلة على التحديات الطبيعية المادية , المجموعة البشرية التي استجابت لتحديات الجفاف الذي تركه ارتداد الاعصار الاطلسي والذي كان بداية الابداع في الحضارتين المصرية والسومرية , وهكذا نجد ان اصحاب البأس والإقدام هم الذين استطاعوا ان يخترقوا اعماق وادي النيل وارض شنعار في وادي الرافدين فابدعوا تلك الحضارتين المزدهرة (10) .
اما التحديات البشرية التي يتحدث عنها توينبي فهي " التي تتم عن طريق انفصام في جسد الحضارة , هذا الانفصال يتمثل في ان الحضارة التي يصيبها الاعتلال تعجز الاقلية المسيطرة بعده عن ان تمسك بمقاليد السلطة , وعندئذ يحصل الانفصام في الجسد الحضاري " (11) .
فالحضارة تتألق بازدياد التحدي , وهذا ما يريد إيضاحه لنا توينبي , ويعطي أمثلة لذلك كثيرة مثل الحضارة الهيلينية , واليابانية , والسومرية , والمصرية , والإغريقية (12) .
ومن الامثلة التي يذكرها توينبي عن التحدي ضد الطبيعة " ان النهر الأصفر قد طرح تحديات هائلة للانسان فهو لم يكن صالحاً للملاحة ولا في أي موسم من المواسم .. فيضانات هائلة مدمرة ومواسم تسودها فوضى الاجواء والاعاصير , ولكن الانسان قد واجه تحديات هذا النهر فحاول ان يغير اتجاهه طوال مالا يقل عن اربعة الاف عام , وفي عام 1852 استطاع سكان هذه المنطقة ان يغيروا اتجاه هذا النهر صوب الشمال على بعد مائة ميل تقريبا من مصبه القديم .."(13) .
ووفقاً لرأي توينبي فأن ارتقاء الحضارات يحدث حيثما تصبح الاستجابات لتحدي معين , لا ناجحة في نفسها فحسب , لكنها تستثير تحدياً اضافياً , تُقابل باستجابة ناجحة , فالارتقاء يكون وفقاً لسيطرة متزايدة :
1 – سيطرة على البيئة البشرية التي تتخذ عادة شكل غزو الشعوب المجاورة .
2- سيطرة على البيئة المادية , تتكشف عن تحسينات في الاسلوب التكنولوجي المادي (14).
ولا يعد توينبي التوسع السياسي والحربي , وتحسين الاسلوب الفني والتكنولوجي , هو الارتقاء الصحيح , فالارتقاء وقوامه الحقيقي " عملية يطلق عليها توينبي { التسامي} ويعني به التغلب على الحواجز المادية , وتعمل عملية التسامي على اطلاق طاقات المجتمع من عقالها , لتستجيب للتحديات التي تبدو بعد ذلك داخل النفس اكثر منها خارجها , أي انها روحانية الطابع "(15).
رفض توينبي ارتقاء المجتمع من خلال فرد ما , بل ان الافراد هم مصدر الفعل , ذلك لان جميع اسباب الارتقاء تنبعث عن افراد مُبدعين او اقليات صغيرة من الافراد , ويتكون عملهم من جزئين :
1 – تحقيق إلهامهم او كشفهم , مهما يكن امره .
2 – هداية المجتمع الذي ينتمون اليه , الى سبيل الحياة الجديدة , هذا وياتي من الناحية النظرية حدوث هذه الهداية بطريق او باخر , اما بتعرض الجميع للتجربة الواقعية التي حولت الأفراد الى مبدعين , واما تقليد الناس لمظاهر الهداية الخارجية , وبعبارة أخرى الهداية بفضل المحاكاة .
ويُعد طريق المحاكاة من الناحية العملية , مجال الاختيار الوحيد المفتوح امام جميع الإفراد , ماخلا أقلية بسيطة من الجنس البشري , وان المحاكاة هي {طريق مختصر} لكنه طريق في وسع عامة الناس جميعا سلوكه في اثر زعمائهم , ليصلوا الى مرتبة الارتقاء (16) , ويذكر توينبي مثلاً عن ان الناس لا الأفراد مسؤلون عن تغير التاريخ فيقول : " إنني افكر الآن في المستر تشرشل عام 1940 , عندما كتب يقول انه يشعر بأنه يسير مع القدر . وكان يقصد بذلك : انه مسؤل شخصياً عن صياغة مجرى الأمور , ولكني أومن بأن الناس جميعاً هم اللذين يصنعون التاريخ . وربما كان المستر تشرشل قد قام بدور الزعيم , ولكن لو لم يتبعه خمسون مليونا من الرجال , والنساء , والأطفال البريطانيين , لما كان لهذه الزعامة وزن يذكر " (17) .
انهيار الحضارات :
يرجع توينبي سبب انحطاط الحضارات إلى عوامل داخلية ، فهو يرفض الآراء التي ترد السقوط إلى أسباب حتمية خارجة عن قدرة الإنسان ، فالسقوط والانهيار سببه داخلي وليس ناتجاً عن غزو خارجي ، والعامل الرئيس في انهيار الحضارات يكمن في فقدان الأقلية الحاكمة للطاقة المبدعة ، إذ تفشل في الاستجابة المناسبة للتحدي القائم.
وهكذا يفسر توينبي انهيار الحضارات بتحلل المجتمعات من الداخل قبل أن يأتيه غزو من الخارج ليجهز عليه ، ذلك أن الغزو الخارجي في مثل هذه الحالة يمثل الضربة القاضية في مجتمع يلفظ أنفاسه الأخيرة ، لذا يمكن القول : إن أية حضارة لا يمكن أن تنهار من الخارج من دون أن تكون قد تآكلت من الداخل ، إذ لا يمكن بحال من الأحوال قهر أية إمبراطورية من الخارج إذا لم تكن قد انتحرت من الداخل .
تقوم نظرية توينبي في انهيار الحضارات على اساس استمرار التحدي وتكراره على حضارة من الحضارات ثم ينتهي بغزو تلك الحضارة , وهنا يقول : " اما فكرة انحلال الحضارات , فأن قوامها بالمثل , تكرار التحدي هذا او تواتره. لكن الاستجابات تفشل هنا . عكس نجاحها في حالة ارتقاء الحضارة . ويترتب على ذلك بروز التحدي المرة بعد الاخرى , عوضاً عن نشوء سلسلة من التحديات يختلف احداهما في طابعه عن سلفه , الذي سبق مجابهته بنجاح التاريخ " (18).
ولا سيما دور عنصر التكرار في انهيار الحضارة اذ" تقتضي طبيعة الموقف , وجود عنصر التكرار في نفس التحدي فان حدث ان ترتب الهزيمة عوضاً عن احراز النصر في الاصطدام تلو الاصطدام , لن يتيسر التخلص قط من التحدي .ويرتبط الموقف بمسألة عرض التحدي نفسه المرة بعد الاخرى ,الى ان يقيّض له ان يتلقى : اما نوعاً من الرد البطيء والقاصر , واما ان يقود الاصطدام الى دمار ذلك المجتمع الذي يُبدي عجزه التام عن الاستجابة له استجابة فعالة " (19).
التحدي اذا كان ضئيلا , فانه عندئذ لا يكون حافزاً ارتقائياً , وان كان التحدي عنيفا هائلاً في وطأته فأن الحضارة عندئذ قد تعجز عن تحقيق استجابة ملائمة له فيصيبها الانحلال ثم الدثور, فتوينبي يدعو الى ما يسميه بـ { الوسط الذهبي } أي الوسط بين الطرفين , طرف الافراط وطرف التفريط , فهذا الوسط هو الذي يضمن دفع الحضارات المستجيبة في طريق الارتقاء والابداع والبقاء (20) , وانه يؤكد أن بعض المدنيات أمتد عمرها لمئات السنين وبعضها عاش الف سنة ومنها امتد خمسة عشر الف سنة (21) .
ويشير توينبي الى ما يسمى بالانشقاقات الاجتماعية في انهيار الحضارات , إذ يقول :" وتمزق الانشقاقات الاجتماعية التي يتبدى فيها هذا الخلاف , والمجتمع المنهار بصفة جزئية , في بعدين يختلف احدهما في وقت الحدوث عن الآخر .
اولا : الانشقاقات الرأسية بين الجماعات المتمازجة جغرافياً .
ثانياً : الانشقاقات الافقية بين الجماعات المتمازجة جغرافياً لكنها منعزلة اجتماعياً .
فالنوع الاول { الرأسي } او العمودي يكون في الحروب الداخلية وهذا الانشطار هو الذي يمهد الى انهيار الحضارة ويقصد به الاضطرابات الكبرى التي شهدتها الجتمعات القديمة كالحضارة الهيلينية ,إذ كانت انشطارات عمودية افرزت عوامل الانهيار والاندثار لتلك الحضارات , اما الانشطارات او الانشقاقات الافقية فمن شأنها ان تحدث تمزقاً في جسد المجتمع ينتهي بقيام دولة دنيوية ونظام ديني عنيف مع وجود افرازات بربرية من جسد المجتمع , كما حصل انهيار الحضارات القديمة " (22) .
ويقسم توينبي الانشقاقات في الكيان الاجتماعي الى ثلاثة :
1 – الاقليات المسيطرة : هي تلك الطبقة المبدعة التي كانت أغلبية المجتمع تقتدي بها وتحاكيها وتقتفي أثرها في طريق الارتقاء , لكنها تحولت الى اقلية مسيطرة بعد ان فقدت طاقاتها الإبداعية , ومثال ذلك الحضارة الهيلينية " التي اخرجت الاسكندر الاكبركمنوذج لمحارب عظيم لكنها انتجت ايضاً اولئك الذين هاجمهم شيشرون واعتبرهم انماطاً دنيا في المجتمع الروماني ... ومضي توينبي فيضع في قمة هذه الحضارات صفوة تتمثل في حلقات عالية المواهب , كما شهدنا في حلقات الفلاسفة التي بدأت بسقراط المبدع وانتهت في آخر ومضاتها الابداعية بأفلوطين . وكأن هذه الحلقات كانت طوال هذه الفترة تبحث بفلاسفتها ومفكريها عن فردوس ارضي افلاطوني " (23) .
2 – البروليتاريا الداخلية : نشأت عن طريقها الاديان السامية التي تطورت الى عقائد دينية عالمية ., وافضل امثلة البروتاريا الداخلية ما يذكره توينبي عن " الحروب الطبقية التي بدأت في العالم الهيليني وفي بقعة معينة هي بقعة كورسيرا التي انتشرت فيما بعد في جميع بقاع العالم الهيليني , ففي عصر الاسكندر الاكبر تعرض العالم الهيليني الى طوفان جائع من الهجرات الغربية التي اشاعت الفزع والذعر في جميع ارجاء العالم الهيليني آنذاك .
وقد عجز الاسكندر الاكبر عن الوقوف في وجه هذا الطوفان البشري الطاغي , وهنا تولد من خلال هذا الطوفان البشري الجائع عنصر البروليتاريا التي تؤلف كائنا في جسد المجتمع ولكنها ليست جزءاً عضوياً منه " (24) .
فهذه البروليتاريا بصورة عامة {الداخلية} تتكون من حشود تأتي من سكان مهاجرين , عديمي الجنسية , إذ يقول توينبي في هذا ومثاله هو الاسكندر : " وفي مثل هذه الاوضاع تمثلت اولى النتائج الاجتماعية , في ابراز طوفان ضخم واخذ في التضخم , من السكان المهاجرين عديمي الجنسية , وهذه مشكلة لم تعرفها فترة ارتقاء التاريخ الهيليني , وكانت تعتبر شيئا شاذا مفزعا . ولم توافق جهود الاسكندر الصادقة في القضاء على هذه الآفة عن طريق اقناع الجماعة الحاكمة وقتئذ في كل دولة , بالسماح لمعارضيها المطرودين بالعودة الى ديارهم بسلام , فكان ان هيأت النار لنفسها وقودا جديدا , لان الشيء الذي وجده المنفيون متاحا لهم لعمله كان التطوع جنودا مرتزقة , وترتب على اتساع مجال الطاقة البشرية العسكرية هذا ما ولد ازدياد قوة الاندفاع في الحرب , نشأ عنها بدورها منفيون جدد , فتعاظم بالتالي تعدد الجنود المرتزقة " .
هذه الاقلية الضعيفة تتعرض دائما لانواع من الظلم والقهر ولكنها لا تستطيع ان تقاوم , فنجدها تذهب اخيراً الى الدين وهو تصرف للسيطرة كما فعله اليهود في فلسطين . فتوينبي يقول إن إسرائيل جسم غريب لا يلبث أن يزول، كذلك فإن قوانين التحولات التاريخية تقول إن الدول التي تولد من رحم الحروب ستعيش دائماً على الحروب، وإذا صمت سلاحها وتوقفت حروبها، فإن قلب هذه الدول سيتوقف وتصبح في خبر كان (25).
3 - البروليتاريا الخارجية :
هي الشعوب التي تحيط بالدولة والتي تتربص بها ,وتسعى الى الانقضاض عليها ان ألمّ بها ضعف , وتنشئ مكان المجتمع القديم مجتمعا حديثا ,وتؤلف هذه البروليتاريا الخارجية عصابات حربية بربرية تبتكر اشعار الملاحم مثل الالياذة والاوديسة لهوميروس وهذه البروليتاريا تبرز الى الوجود " بفعل انشقاق عن الأقلية المسيطرة لحضارة اصابها الانهيار , وهنا يصبح الانقسام الديني الذي نجم عن الانشقاق مما يسهل ادراكه , ذلك لانه بينما تستمر البروليتاريا الداخلية في تمازجها الجغرافي مع الاقلية المسيطرة التي يفصلها عنها هوة أدبية , لا يقتصر الحال بالنسبة للبروليتاريا الخارجية على استبعادها من الناحية الادبية عن الاقلية المسيطرة , إذ يفصلها عنها خط حدود يمكن رسمه على الخارطة " (26).
اما البروليتاريا الخارجية " التي تبرز مع بدئ انهيار الحضارات فهي تختلف جغرافيا عن جسد المجتمع الاصيل , اذ تفصل الحدود الجغرافية بين هذا الجسد وبين تلك البروليتاريا التي هي من النمط الخارجي والتي تنشأ اول الامر عن تخطي حضارة ذلك المجتمع الاصيل لجدران الحدود والفواصل نحو مجتمعات بدائية لتقيم علاقات بفعل قوة الحضارة المنطلقة وسيطرتها على تلك المجتمعات البدائية نسبياً " (27).
واضافة لذلك " تقوم التأثيرات الحضارية بامتدادات اشعاعية على ثلاث مستويات : سياسية , واقتصادية , وثقافية , فتتأثر المجتمعات البدائية بالحضارات ذات التأثير الطاغي من هذه المستويات الثلاثة بصورة متساوية من حيث الحدة تقريباً , كما ان هذه المجتمعات البدائية تعمل على اجراء بعض التحويرات في العناصر الحضارية الوافدة عليها , فتبدأ عندئذ عملية {المحاكاة} التي تقوم بها المجتمعات البدائية للمجتمعات المتحضرة " (28) .
ومن الامثلة على هذا النوع من البروليتاريا, " تأثيرات الحضارة الهيلينية في الامتدادات الجغرافية التي احاطت بجوهر حضارة هيلاس , فان الحضارة الهيلينية قد ضعف اشعاعها باتجاه اوربا كما ضعف هذا الاشعاع باتجاه غرب دلفي . واما المناطق الواقعة فيما وراء المدن اليونانية على الشاطي الاسيوي لاسيما الصغرى فان التاثيرات الهيلينية قد تقلصت كثيرا . وهنا برز صراع حاد بين انصار الهيلينية واعدائها , في اوائل القرن السادس {ق . م } انتهى باذعان العناصر المادية للاتجاه الهيليني والمناهضة لإشعاع حضارة هيلاس . فامتد الاشعاع الهيليني بعد ذلك بشكل خاطف في جنوب شبه جزيرة ايطاليا التي كتب عنها هيراقليدس بوتيكوس وهو احد تلاميذ افلاطون بان هذه المنطقة اللاتينية هي جزء من هيلاس , وهكذا افتتنت القبائل والأقوام المحيطة بهيلاس بالقارة الهيلينية , فبقيت شبه الجزيرة الايطالية باسرها تقريبا تحت تاثير سحر الحضارة الهيلينية " (29).
ان الكلام السالف الذكر عن الأقلية المبدعة والبروليتاريا الداخلية والخارجية هو تحلل الحضارات من منظور فلسفة توينبي , أما أسباب انهيار الحضارات فيوجزها في ثلاث نقاط هي :
1 – إخفاق الطاقة الإبداعية في الأقلية المبدعة , وعندئذ تحول تلك الأقلية التي كانت تفتن بها الاغلبية فتحاكيها , فتسير في طريق الارتقاء بفضل هذه المحاكاة , ثم تتحول الى أقلية مسيطرة .
2 – تردّ اغلبية المجتمع على طغيان اقلية , بسحبها ولائها , والعدول عن محاكاتها .
3 – يستتبع فقدان الثقة بين أقلية المجتمع الحاكمة والأغلبية المحكومة , ضياع وحدة المجتمع الاجتماعية , فانهياره .
فهذه هي أسباب انهيار الإحدى والعشرين حضارة التي لم يبق منها إلا خمس حضارات (30).
الخاتمة :
وضع توينبي دراسة للتاريخ، وهي وصف للتاريخ البشري كله ومناقشة نقدية للعديد من فلاسفة التاريخ وعظمائه ، و حركة الحضارات عند توينبي بين الازدهار والذبول تخضع لنظرية التحدي والاستجابة , وقد استبعد المنهج القديم في دراسته، ولجأ إلى معرفة التاريخ من خلال الحضارات، وأعتمد الطريقة المقارنة في البحث التاريخي ولا شك في أنّ هذه الطريقة قد اتبعها إشبنجلر من قبل ، وأفضل من أخذ بهذا الاعتقاد من بعده هو توينبي , و قد لجأ إلى طريقة المقارنة بين الحضارات ، إذ لاحظ أن الحضارات الإنسانية تجمعها أطوار حضارية متشابهة تجعلها صالحة للدراسة المقارنة، على افتراض أنها معاصرة ومتعادلة في القيمة، وقد أنكر توينبي البعد الحيوي للحضارات , فضلاً عن أنّ توينبي قد فضّل {الحضارة} او المدنيات كما يسميها بوصفها وحدة لدراسة التاريخ لأنّ الدولة لا تصلح في نظره أساساً للدراسة التاريخية.
وقد كشف أن النظرية القائلة بوحدة الحضارة الإنسانية ، هي نظرية خاطئة، ، وهي إحدى نتائج الفكر الغربي الذي ينكر على المجتمعات الأخرى، قدرتها على العطاء الحضاري.