"التاريخ ماهو إلا مجموعة من الأكاذيب المتفق عليها"
نابليون بونابرت
"طالما أن الأسود لا تملك مؤرخين خاصين بها ،ستظل حكايات الصيد تمجد الصيادين وحدهم "
مثل أفريقى
مقدمة
كلما نظر المرء الى عشرات الدراسات التاريخية التى تمت كتابتها على مدار القرون الماضية و المليئة بالأحكام التاريخية القاطعة (إدوارد جيبون ، كارل ماركس ،أرنولد توينبى ،ويل ديورانت ،فرانسيس فوكوياما....الخ ) ، كان لابد له من أن يتساءل :هل هذه الدراسات لها فائدة عملية حقيقية ؟ هل خرجنا من قراءتها بمعلومة هامة فعلا تستطيع أن تفسر أحوالنا الراهنة و تصلح كمرشد هادى لنا فى أحكامنا و سياساتنا المستقبلية ؟
هل يوجد انتظام فى تسلسل حوادث الماضى بما يسمح لنا بالتنبؤ بما قد يحدث فى المستقبل مثلا ؟
أم أن التاريخ فى الحقيقة بلا معنى و لايعلمنا أى شىء على الاطلاق ،فهو مجرد تسلسل عشوائى لمجموعة من الحوادث المتشابكة متعددة الألوان و التى كان يكفى تغيير ضئيل باحداها ليتغير وجه التاريخ كما نعرفه (كما فى سيناريوهات "ماذا لو "التخيلية من قبيل ماذا لو انتصر "هانيبال" على الرومان تماما و قضى على الامبراطورية الرومانية فى مهدها ؟ ، ماذا لو انتصرت قريش على "محمد" و أتباعه و تم القضاء على الدعوة الاسلامية فى مهدها ؟ ، ماذا لو انتصرت ألمانيا النازية فى الحرب العالمية الثانية ؟.....الخ )
صورة مرسلة
هل مانقرأه فى كتب التاريخ هو ماحدث بالفعل ، أم أن التاريخ ما هو الا حكايات و قصص غير متفق عليها فى أحسن الأحوال و أسطورية فى كثير من الأحيان لا تختلف عن الوجود الخرافى للهيدرا ؟
(فقد أثبتت الأدلة الأركيولوجية مثلا بأن معظم حكايات التوراة و التى تستند اليها الأديان الإبراهيمية الثلاثة أساطير لا أساس لها من الصحة ) ،و كما نعرف جميعا كل هذه الحكايات الخرافية عن آخيل و هيكتور و أوزيريس و جلجامش ...الخ كان يؤمن بها كثير من الناس فى العصور القديمة باعتبارها وقائع تاريخية حقيقية .
و حتى الآن فمازالت أساطير من قبيل قيام "يسوع المسيح" من بين الأموات بعد صلبه، أو هبوط ملاك من السماء على "محمد بن عبدالله" بوحى من عند اله الكون يتم التعامل معها بواسطة مليارات البشر باعتبارها أحداث تاريخية لا تقبل الشك .
معرفتنا بحوادث التاريخ تتسم عادة بعدم الدقة فهناك دائما مؤرخون متحيزون و تشيع وطنى و عرقى و دينى مذهبى و عقائدى ،كما أن الصورة لا تصل الينا كاملة بل معظم الوقت من طرف بعينه دون بقية الأطراف ،و فى بعض الأحيان نجد الأدلة متكافئة و يعارض بعضها بعضا .
يقول المؤرخ الشهير (ويل ديورانت ) " معظم التاريخ ظن و تخمين ،و البقية الباقية تحامل و هوى " ،و لذلك فى رأيه "كتابة التاريخ لا يمكن أن تكون علما و لايمكن الا أن تكون صنعة أو فنا أو فلسفة ،صنعة بتصيد الوقائع و فنا باقرار النظام داخل فوضى المادة و فلسفة بالسعى وراء وجهة النظر و التنوير "
هذا الرأى يطرح مشكلة خطيرة جدا تواجه كل العلوم الاجتماعية و الدراسات الإنسانية بشكل عام و هى افتقارها الى المصداقية و الحيادية التى تتمتع بها العلوم الطبيعية ( لعله من المفارقات الغريبة ألا يستطيع المرء مثلا التوصل الى حقيقة حدث تاريخى لم يمض على وقوعه أكثر من 10-20 سنة بسبب كثرة الأقاويل المتضاربة و التأويلات و التفسيرات و التنظيرات ،بينما نستطيع مثلا أن نتحدث بكل ثقة عما حدث قبل 13.7 مليار عام ،و هذا هو الفارق الشاسع بين علم الفيزياء و العلوم الاجتماعية )
و بالفعل شهد النصف الثانى من القرن العشرين محاولات عدة لطرح حلول بديلة ،و لعل أشهرها ما قام به عالم البيولوجيا ( إدوارد ويلسون )** و أحد أهم المؤسسين ل "علم الأحياء الاجتماعى Sociobiology" و فرضيته الأساسية هى أن ( العلوم الاجتماعية و الدراسات الإنسانية مجرد فروع أخرى لعلم البيولوجى ) و يقوم الباحثون فيه بدراسة الأسس البيولوجية للسلوك الاجتماعي للإنسان والحيوانات الأخرى.
و لا يجب أن ننسى هنا الاشارة الى أن فلسفة "ديورانت " التاريخية كانت تعتمد على أن التاريخ البشرى المكتوب مجرد جزء بسيط من التاريخ البيولوجى الطويل الذى يضم كل أشكال الحياة منذ نشأة الحياة على كوكب الأرض قبل 4 مليار عام ،و أن قوانين البيولوجيا هى الدروس الأساسية للتاريخ بشكل عام .
و لكن ليس من الضرورى أن تبدأ الزيارة من ذلك الزمن البعيد جدا ،بل سنبدأ من مرحلة زمنية متقدمة و تحديدا فيما قبل 5-7 مليون عام أى بعد انفصال أسلافنا عن الشمبانزى فى الشجرة التطورية التى تمتد جذورها لما يقارب الأربعة مليار عام ،و بذلك تم الانفصال بالكامل عن باقى الأقارب من القردة العليا .
* عنون الموضوع "زيارة جديدة للتاريخ" مستوحى من كتاب بنفس الاسم للكاتب الصحفى المصرى "محمد حسنين هيكل " ، و هو أحد أفضل كتبه التى يتحدث فيها عن لقاءاته الصحفية مع شخصيات بقامة "ألبرت أينشتاين " و " برنارد مونتجمرى" و شخصيات مهمة أخرى قامت بصناعة التاريخ حرفيا .
** كتب البروفيسور ( إدوارد ويلسون) : "علم الأحياء الاجتماعى" و "وحدة المعرفة " و "عن الطبيعة البشرية " تعتبر من أهم الأعمال بهذا المجال ،كما أنه فاز بجائزة بوليتزر الشهيرة مرتين ، و فاز بأعلى جائزة علمية تمنح فى مجال علم البيئة من الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم و جوائز أخرى كثيرة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]