د.محمد سالم سعد الله
صاغ الوعي النقدي الغربي رحلة تكوينه بتفعيل أبجديات الأسئلة الفلسفية ، واستثمار اللحظات المنيرة والفاعلة في تحويل التجربة الإقليمية إلى نظام موسوعيّ ، يمارس العقل فيه صلاحياته بمعزل عن الميتافيزيقا ، ويتجاوز مهمة كشف الحقيقة ، ليصل إلى مرحلة العقل الخارق (Super – rational) القادر على توظيف المقولات والبرهنة عليها .
إنَ لحظة المشروع النقدي الغربي المعاصر لم تُولد متسارعة ، بل كانت حصيلة لحظات مترسبة في الوعي النقدي ، وشاخصة في نتاجه ، ومن أهم تلك اللحظات وأكثرها تألقاً : (نيتشه) وهذه اللحظة لم تكن مضيئة بذاتها وإنما كانت مضيئة بغيرها ، بمعنى : أنَ الطرح النيتشوي كان عدمياً (Nihilism) ، وأهميته تمثلت بالتأثير الفاعل في الساحة المعرفية والنقدية بشكل عام ، والدخول في حيثيات ذلك الطرح أشبه بمغامرة معرفية قد تكشف عن مراحل متعاقبة لأنسنة (Humanization) فعل التغير ، والتحول الحاصلين في مجمل نشاطات الواقع ، ويمكن إجمالاً حصر معطيات اللحظة النيتشوية بما يأتي : (موت الإلــه ، والإنسان الخارق ، وإرادة القــوة ، والعَود الأبـدي).
والمعطيات السابقة مترابطة مع بعضها البعض ، وتقود إحداها إلى الأخرى ، قد نشأت تلك الفرضيات انطلاقاً من قاعدة نيتشه : " من أجل بناء معبد لابد من هدم معبد آخر "(1) ، فمن أجل التسليم بسلطة الإنسان المطلقة لابد من إزاحة الإله أو الحكم عليه بالموت ، ومن أجل بناء شخصية (السوبرمان) لابد من الاحتجاج إلى الميتافيزيقيا وتفكيك أسسها ولأجل الوصول إلى مرحلة القوة اللامتناهية لابد من ممارسة الانفتاح على جميع الخطوط الحمراء التي وضعتها الممارسات اللاهوتية والمعرفية ، ومن أجل تطبيق فرضية العَود الأبدي لابد من إزاحة كل مظاهر الضعف والنفي والقيم اللاأخلاقية ، لأن هذه (العَودة) تتصف بالأبدية المهيمنة ، التي لا تقف في وجهها العوائق.
وقد كانت معطيات اللحظة النيتشوية ـ كما يرى البحث ـ حصيلة تناص (Intertextulity) مع لحظات فلسفية أخرى ، ألقت بظلالها على اتجاه الحركة التصاعدية في تفعيل تلك الفرضيات وممارستها على الصعيد العياني في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية وحتى النفسية منها ، ويمكن تحديد حصيلة هذا التناص بالآتي : (اللحظة الديكارتية / الكوجيتــو ، لحظة سبينـوزا / فكرة الإله والإلحاد ، لحظة لايبنــز / فكرة المونـــادة ، اللحظة الكانتيـة / نقد العقل والأنا النقدية المتعالية ، اللحظة الهيجليـة / الديالكتيــك وموت الإلـــه ، لحظة شوبنهـاور / الإرادة والتدمير ، اللحظة الداروينية / الانتخاب والصراع من أجل البقاء ، اللحظة الماركسية / صراع الطبقات والمادية الجدلية) ، وقد أسهمت هذه اللحظات الفلسفية في نسج المعطى النيتشوي المتعالي وتبرير التسليم الشامل له ، بوصفه الحضور المُجسِد ، والصياغة الفلسفية للعقول التي رسمت المسيرة الفكرية لمشروع التطور الأوربي.
فمع اللحظة الديكارتية اتجه البحث الفلسفي إلى تطبيق قاعدة (الشك أساس اليقين) بوصفها البداية الإيجابية لكشف الزيف والخداع الذي يعتري العالم المادي ، ويبقى الفكر ـ وفقا لذلـك ـ هو الحقيقة الوحيدة القادرة على كشف ذلك الزيف ، ولهذا وُلِد الكوجيتـو (Cogito) الديكارتي (أنا أفكر إذن أنا موجود) ليعلن أنّ العقل المفكر هو أساس تحقيق الوجود ، وهو الركيزة التي لابد للإنسان من الاستناد عليها في (غربلة) جميع الأوهام والخرافات التي أحجمت العقل الإنساني من ممارسة دوره طيلة فترة سيادة الكنيسة في العصور الوسطى الأوربية. وقد يتفق نيتشه مع الطرح الديكارتي في هذه المسألة ، لكنه يخالفه في مسألة إعطاء الدور الفاعل في صيرورة وحركة العالم إلى (الإله) الذي قدّم له ديكارت مجموعة براهين تؤكد وجوده ودوره في عملية التغيير في العالم المادي المنظور.
أما لحظة سبينوزا التي امتازت برؤية الإله في كل الموجودات ، بمعنى حلوله في كل أجزاء العالم ، وما الإنسان إلا جزء حلّ فيه الإله ليبرز صفاته وقدرته فتُمثِل فكرة خلود القدرة الإنسانية جوهر فلسفة سبينوزا ، وإنّ النسيج الأبدي لصورة الحياة وديمومتها يتكون من خيوط عدة كالصراع بين الشعوب ، وممارسة أصناف التعذيب ، والفصل والحرمان الذي تعانيه الأقليات ـ ويقصد سبينوزا اليهود ـ وسوء التفاهم والكراهية والمؤمرات والخداع وكسب المادة بأي وسيلة كانت(2) ، على الرغم من أنّ نيتشه يشترك مع سبينوزا في تهمة الالحاد ، إلاّ أنّ (الالحادين) مختلفان ، فإلحاد نيتشه انبثق من عزل الإله بل الحكم عليه بالموت ، وإعطاء سلطاته إلى الإنسان الذي سيمارس دور الإله المطلق في الحكم والتشريع ، أما إلحاد سبينوزا فقد تمثل بشكل أساس بالخروج عن التقاليد اللاهوتية للمجتمع اليهودي ، فضلاً عن إحلال (Commmutation) الصفات الإلهية في السلوك البشري ، بمعنى تضمين اللامتناهي في المتناهي انطلاقاً من الرؤية والفكر الحلولي (Thinging of pantheism) المتأتي من الطرح السبينوزي : " العالم وحدة (الجسم والنفس والله) ، في مقابل الثالوث الديكارتي : (الجسم المادي ، والنفس المفكرة ، والله) الكائن في كل شيء"(3) .
أما التناص الحاصل بين فرضيات نيتشه ومعطيات لايبنز فيتمثل في فكرة أو نظرية الوحدة (Monada) التي تصور الإنسان على أنه وحدة عاملة متعالية على مظاهر الكون ، وأنّه أساس التفرد ، وإنّ العقل الإنساني يشكل مونادة عليا تتحكم في الموندات السفلى التي تكون الجسم البشري ـ حسب دلالة المعاجم الفلسفية ـ ، وقد استثمر نيتشه هذه الفكرة في بناء إرادة الإنسان الخارق الذي تُنسب إليه مشروعية التحكم بالموجودات بوصفها مونادات جزئية تخضع كلياً للمونادة العليا .
والتأثر باللحظة الكانتية كان كبيراً ، لأن كانت عَهد إلى منح العقل منزلة التنظيم الأبدية لإدراك وتنسيق الحقائق الكونية ، وعدّ الإدراك العقلي أداة لمعرفة قائمة بذاتها ، فهو ينظم العالم ويصوغه في وحدات مفهومة ، والعقل ينقل من الفوضى إلى النظام ومن الادراكات الحسية الفورية إلى حكمة كلية ، كما يمكنه تلمس الطريق المؤدي من الحكمة البشرية إلى النور الإلهي.
وقد برهن (كانت) على قدرة الإدراك العقلي في تلمس الحقائق من خلال الفحص عن نظام الأسس القبلية العقلية التي بفضلها تتم المعرفة العلمية من خلال متوالية فلسفية رياضية أطلق عليها (نقد العقل المحض / الخالص - Pure) ، ثم مارس بعض العمليات الذهنية للوصول إلى تقديم أهمية معرفة (الله) بالنسبة للموجودات ، واتجه في المرحلة الأخيرة إلى نقد الحكم (Critique of judgment) من خلال فلسفة متعالية سابقة على التجربة ، ولكنها في إطار نطاق العقل والمعرفة المتعالية الخالية من عناصر الحواس بمعنى البحث الدائم في الأصول المعرفية لا في موضوعاتها التي تُعدّ جزءاً من الواقع الفيزيقي المنظور(4).
أما التأثر باللحظة الهيجلية فقد كان دينامياً ، إذ يمثل كل من هيجل ونيتشه الوعي التاريخي الذي يعيد حسابات التركة الغربية بالعودة إلى الأصل اليوناني قبل سقراط ، وتحديداً فلسفة هرقليطس الذي قال بزوال الأشياء ، وإن كانت بمنتهى الصلابة ، لأنّها ـ أي الأشيــاء ـ تحوي في ذواتها عنصر الصراع ومفهوم الضدية ، ثم تتحدد من جديد في صور متشابهة ، وأكدّ هرقليطس على أنّ الحياة انسجام فريد تكون نغماته متضاربة ، والهدف هو إدماج النغمات المتنافرة في نغمة متآلفة واحدة .
ولا شك أنّ نظرية هرقليطس في الأضداد والتوتر القائم في الصيرورة قد مهدت الطريق أمام فكرة الديالكتيك الهيجلي الذي يُعدّ القوة الفاعلة في إنتاج الممارسة الفكرية من خلال صراع الأضداد ، إنّ الفلسفة التي جلبها الوعي التاريخي عند هيجل ونيتشه تقوم على أساس أنّ العقل يسيطر على العالم ، وأنّ المسار التاريخي للعالم يتمثل بوصفه مساراً عقلياً ، ويبقى هذا التمثل بوصفه الطاقة اللامتناهية للكون وبذلك تتحقق مقولة العقل يُوجِه العالم(5) .
وتأتي اللحظة الحرجة في تأثر نيتشه مع لحظة شوبنهاور الذي أمدّ المعطيات النيتشوية بسيل متدفق من الأفكار والمعطيات التي كانت سنداً وركناً بنى عليه نيتشه فلسفته .
وتمثل فلسفة شوبنهاور في مجموعها درجة تطور العقلانية ، وأولى خطواتها كانت مع التشاؤم الذي يعطي فكرة غياب القيمة (Value) عن التاريخ والمجتمع ، فضلاً عن اللامبالاة التي أظهرها شوبنهاور تجاه الطبيعة وحماية المُلكيات الخاصة ، بمعنى لا مبالاته بالنسبة للجانب السياسي ، وقد حمل لواء اللاتدين ، وتبنى فكرة (الدين بلا إله) ، وهو بذلك قدّم دفاعاً غير مباشر عن النظام الاجتماعي الرأسمالي الذي يتحدد هدفه الأساس بفضل المجتمع والممارسات عن الميتافيزيقيا والسعي وراء الظواهر المادية الحاضرة ، وتجنب الخوض في الظواهر الغائبة اللامرئية(6) .
وقد قدّمت التصورات الفلسفية الثورية لشوبنهاور ونيتشه عمليات واقعية لمحاكمة الحدود التي رسمها العقل ، إذ تلون الواقع العياني بألوان شتى من صنوف البغي والاعتداء والاستغلال وعدم احترام إنسانية الإنسان وقذف مجمل النشاطات الاجتماعية في مصب النوازع والأهواء والمصالح الفردية ، ولهذا أسّس الثنائي العدمي (شوبنهاور ونيتشه) عقلانية جديدة تتمثل في غزو فضاءات بالية من العقل المتعارف عليه ، وتبدأ تلك العقلانية من إرادة الحياة ، وتجاوز كل مظاهرها العرفية والتقليدية وحتى القانونية منها ، وعدّ الإنسان مشروعاً يمتلك أسباب قوته ونجاحه في السيطرة والهيمنة والقوة التي ستكفل تحرره وانعتاقه من أهوائه ورغباته وأخلاقه التي تمثل عائقاً أمام سبل التطور والارادة الحرة المتنفِذة ، إنّ العالم المعيش الذي رآه (الثنائي العدمي) هو عالم محكوم بالفوضى والاضطراب واللإانتظام واللاإنسجام ، وهو عالم محكوم بقانون الصراع والتطاحن لا التكامل والسلام(7) .
وجاءت لحظة داروين لتقدم منسوباً خصباً للحظة نيتشه من خلال فاعلية الطرح السلبي في نقطتين أساسيتين هما: (فكرة الانتخاب الطبيعـــي ، وفكرة الصراع من أجل البقاء) .
هاتان الفكرتان عززتا مخاوف نيتشه بسيطرة الميتافيزقيا والأهواء على فاعلية الإنسان وقدرته ، وبالرغم من أنّ طرح داروين لم يكن جديداً ومتفرداً ، إلاّ أنّ تصميمه على صحة طرحه وإقراره بوجود شواخص وأدلة بايولوجية وفسلجية ، أغوى الباحثين والفلاسفة بالاشتغال في تمثلات هذه الأفكار وإفرازاتها في الوجود من خلال الافتتان بدلالة تطور الإنسان التاريخي وقانون الغاب الذي يسيطر القوي فيه على الضعيف .
أما اللحظة الماركسية فقد مثلت (انعطافة) فكرية غيّرت الوجهة الفلسفية ونقلتها إلى تمثل إنسانية الإنسان المفقودة مع الطرح الرأسمالي ، لكنّها ـ أي اللحظة الماركسية ـ لم تكن بعيدة عن الصيغ البيروقراطية لغرض تحديد وإشاعة فرضية اجتماعية رأس المال ، واشتراكية الإنتاج والاستهلاك والتوزيع، وقد جاءت اللحظة الماركسية بصراع البنى الاجتماعية فيما بينها : البنية الفوقية ، والبنية التحتية ، فضلاً عن صراع البنى التصنيفية للتاريخ ـ ويُقصد بها الطبقات الاجتماعية المكونة لمجمل النزاعات المنشِأة للأنظمة والحكومات حسب الرؤيا الماركسية ـ. وبهذا الطرح انتعشت اللحظة النيتشوية من خلال المعطيات الماركسية الآتية : (فكرة الصراع بشكل عــام ، فكرة التضاد والتناحر بين الطبقات ، فكرة تحقيق إنسانية الإنســـان ، فكرة إشاعة اشتراكية النتــاج).
إنّ اللحظتين ـ الماركسية والنيتشوية ـ متفقتان عملياً على تفكيك الفرضيات الموروثة ، والتقاليد الطقوسية ، وتفسير طبيعة الدلالة وتعديل تفسير الطرح المعرفي ، من خلال تحويل عملية الشك ، ونقلها من الشك في الشيء إلى الشك في الوعي ذاته وصولاً إلى العقل(8) .
ومن المهم ذكر أنّ اللحظة الماركسية قدّمت تصورات فاعلة في سبيل عقلنة الممارسة الاجتماعية وتجاوز الآثار التي أحدثتها الرأسمالية ، وتقديم آثار علاجية وبدائل للمستوى الفلسفي السائد ، وبهذا استطاعت الماركسية من تخفيض نسبة الراديكالية ، وتحويلها إلى ذاتية غير متطرِفة ذائبة في النسيج الاجتماعي ، ورسم صورة الواقع الاقتصادي الذي يقوم على فرضية الإنتاج والاستهلاك المشترك كل حسب جهوده وخدماته ، فضلاً عن تخفيض مستوى المقولات اللاهوتية ورفع معدل الإنسانية بوصفها قوة ماركسية جديدة ، أما نظرتهما للإله فقد تشابهت إلى حدّ كبير ، فماركس ونيتشه ينكران وجود الإله ويعطيان سلطته ومنزلته إلى جانبين مختلفين ، الجانب الأول يعطيه ماركس للجماعة والجانب الثاني يعطيه نيتشه للإنسان الخارق (السوبرمان) ، وبهذا يُؤله ماركس المجموع ، في حين يُؤله نيتشه الفرد . ويمكن إجمالاً القول : " إنّ مشروع نيتشه الفلسفي يقتضي إدخال مفهومي اللامعنى واللاقيمة إلى الفلسفة التي عدّها الإنجازالحقيقي للنقد(9) " ، وبذلك اشتركت لحظته الفلسفية باللحظات الفلسفية السابقة على صعيد التبني أو النقض ، وتتضح أفكار نيتشه من خلال فعل الحياة القائم على الهدم والبناء ـ بمعنى موت مجموعة أفكار وولادة أفكار أخرى ـ ثم الجنوح نحو المطلق لاستمداد القوة والتغلب على الضعف الفطري ، بمعنى خلق عناصر القوة من داخل النفس الإنسانية بمعزل عن اللجوء إلى الميتافيزيقيا، ولهذا التقى نيتشه في أسلوب البحث العلمي عن القوة والإرادة مع (زاردشت Zarathustra)، ولكن اسلوب البحث كان مختلفاً ، حيث طلب زاردشت ـ للوصول إلى منزلة الإله ـ التعاون والتقوى والتناغم والانسجام والتآلف والنظر المستمر في الطبيعة ، والاشتراك مع (الإله) في جهاد الشيطان ، أما نيتشه فقلب معادلة تلك المطالب ودخل في مؤامرة يشترك فيها الشيطان مع الإنسان ضد (الإله)، وبالرغم من ذلك فقد اتخذ نيتشه من زاردشت شخصية يعبر بلسانها عن فلسفته الجديدة القائمة على العيش في حرب دائمة ، وأنّ جميع أصناف الآلهة قد ماتت ، وحلّ محلها الإنسان الخارق المتصف بالهدم لا بالخلق ، وبحكم السادة لا بحكم العبيد ، وأنّه يجب أن يكون متفوقاً في الشر حتى يكون متفوقاً في الخير ، فضلاً عن تحطيم كل الحقائق ، فهي لا تمثل سوى نُكات يتسلى بها القطيع ـ المجموع ـ ، وأنّ القسوة هي مبدأ الحياة الأول ، وأنّ القطيع يمارسون تنازعاً أبدياً لأجل البقاء انطلاقاً من أنّ القوة هي الحق الوحيد ، والعالم كما صوره نيتشه : معمل ضخم تُباد فيه أطنان عديدة من النفايات كي تُنتج أوقية من الذهب(10).
لقد أراد نيتشه رفع القيود عن العقل والخروج من عالم المعقول إلى عالم اللامعقول ، والبحث عن الأفكار في النصوص الثورية ، فضلاً عن احتواء اندفاع الإنسان وتطلعاته وتوظيفها نحو النزعة العدمية والوصول إلى محطة اللإانتماء ، والتركيز بشكل مستمر على سلطة الإنسان الخارق وصحوة انفلاته من الإله ، والحرص على إبقاء تلك الصحوة ، وضمان عدم رجوعها إلى ملكية الإله وإلى حقل الميتافيزيقا . وقد رأى نيتشه أنّ البشرية مصابة بمرض (عجز الإرادة الحرة) وهذا العجز سببه عدم الاتصاف بصفات الإله ، والمطلوب الخروج ـ حسب نيتشه ـ من ذلك العجز بإرادة قوية وتفتيت الوهم الميتافيزيقي(11).
حاولت فلسفة نيتشه تغيير مسار العقلانية الأوربية من خلال فتح المجال أمام اقتحام (الخطوط الحمراء) في كلّ شيء ، ونبذ الميتافيزيقا ، فلم يعد هناك شيء مقدس ، ولم يصمد الفكر الموروث والكلاسيكي أمام التظاهرة الفلسفية النيتشوية ، ولهذا لم يتجاوز الفكر الغربي الحديث أفكار نيتشه بل وضعها في ميدان التطبيق ، ولاقت تلك الأفكار استحسان الأوساط السياسية والسلطات التنفيذية والتشريعية ، وبهذا تعرضت شجرة أنساب الميتافيزيقا الغربية إلى تصدع كبير ـ إن لم يكن انهياراً تدريجياً ـ وأصبحت متأرجحة بين جانب فيزيقيٍّ ملموس ، وآخر ميتافيزيقيٍّ في مثاليات الفلاسفة!.
الهوامش :
(1)أصل الأخلاق ، فريديرك نتشه ، ت : حسن قبيسي : 89 .
(2) ينظر : رسالة في اللاهوت والسياسة ، سبينوزا ، ت : حسن حنفي : 194 ـ 195 .
(3) أعلام الفلاسفة ، هنري توماس ، ت : متري أمين : 222 .
(4) Critique of judgment , kant , in : Deconstruction in context , Mark Taylor : 35 ..
(5) Phenomenology of spirit , Hegel , in : Deconstruction in context : 67 – 70 . The philosophy of Hegel , G . Mure : 112 , 157 .
(6) ينظر : تحطيم العقل ، جورج لوكاتش ، ت : إلياس مرقص : 2 / 10 ـ 14 .
(7) المصدر نفسه : 110 .
(8) نيتشه : التأويل.القراءة.الكتابة، مصطفى كاك ، مجلة الكرمل ، العدد 19ـ20 لسنة 1986 : 296.
(9) نيتشه والفلسفة ، جيل دولوز ، ت : أسامة الحاج : 5 .
(10) ينظر : أعلام الفلاسفة : 320 ـ 323 ..
(11) من المهم ذكر أنّ ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ( 1914 ) حولت هذه الفلسفة إلى واقع ، وقد تمثل نموذج السوبرمان في شخصية هتلر (- 1945 ) النازي ، ثم أصبحت هذه الفلسفة دين الدولة بعد تبني هيدجر لها ، وليس ذلك حسب بل عمد هتلر إلى أمر جنوده بوضع صورة نيتشه تحت الوسادة عند النوم ، ينظر : تحطيم العقل : 129 ، 134 .
رابطة أدباء الشام .