فقهاء السلطان يستعدون للثأر من حسن حنفي
شاكر النابلسي
يستعد المتشددون من رجال الدين داخل الأزهر وخارجه، وعلى رأسهم الشيخ عبد الصبور شاهين إلى جر المفكر الإسلامي الليبرالي وصاحب ما يُعرف بتيار اليسار الإسلامي الدكتور حسن حنفي إلى المحكمة بتهمة القذف بالإسلام في محاضرته بمكتبة الإسكندرية في الشهر الماضي (سبتمبر 2006) كما بيّنا في مقالنا في الاسبوع الماضي. وفي واقع الأمر، فإن المتشددين من رجال الدين في مصر كانوا وما زالوا يتربصون بحسن حنفي منذ زمن طويل، ويحتفظون له بملف ضخم من التهم، وينتظرون القشة التي ستقصم ظهر البعير (حسن حنفي). وقد فازوا بها أخيراً، بما قاله حنفي في مكتبة الإسكندرية، وهم يستعدون الآن للمذبحة الفكرية الجديدة بعد مذبحة نصر حامد أبو زيد، التي انتهت به إلى منفاه الطوعي في هولندا، وفي جامعة ليدن.
تسامحُ السَلف وتعصبُ الخَلف
انتهى زمن الجدل الديني الإسلامي الحر الجميل. وأُغلق باب الاجتهاد في عهد الخليفة أبو أحمد عبد الله المستعصم بالله (1242-1258 م) الخليفة السابع والثلاثون، وآخر خلفاء بني العباس، والذي كان له 750 زوجة، وكان يوصف بالمقامر، على ذمة المؤرخ ابن الطقطقي. وهو الذي مات مقتولاً على يد هولاكو الذي فتح بغداد ودمرها. وتم اغلاق باب الاجتهاد بأمر سياسي لدى أهل السُنّة والسلفية ودخل المجتمع السُنّي عصور التقليد والجمود، عندما أمر المستعصم بالله علماء الفقه في المدرسة المستنصرية أن يتوقفوا عن تدريس أي فكر خلاف أقوال الأئمة الأربعة. ورغم رفض البعض لهذا القرار قائلين: "نحن رجال وشيوخنا رجال"، إلا أن تاريخ الفكر الإسلامي منذ ذلك الحين وحتى الآن، ساقط في هوة الحفظ والترديد، دون النقد أو التمحيص، وكأنما سقط عن المسلمين التكليف كما يقول عبد الهادي عبد الرحمن (سلطة النص: قراءات في توظيف النص الديني، ص 129). وانتهى زمن الحوار مع أنفسنا. فكيف ننادي بضرورة الحوار مع الآخر؟ وبأي لسان نريد من ذواتنا أن نتحاور مع الآخر؟ وحيث لم تكن هذه سُنّة القدماء من مفكري الإسلام. بل كان طريقهم هو الحوار والنقاش والرد كما فعل أئمة أهل السُنّة مثل ابن تيمية في (الرد علي المنطقيين)، (نقض المنطق)، (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، والرد علي الشيعة والقدرية. وكما فعل الغزالي في (الرد الجميل علي من بدل التوراة والانجيل)، والباقلاني في (التمهيد في الرد علي المعطلة والجهمية)، وابن الراوندي في (الرد علي ابن الراوندي الملحد) وغيرها من الردود كما يقول حسن حنفي نفسه في مقاله (الحوار والنقاش). بل امتد التقليد الي الشعراء في مناقضات الجرير والفرزدق. وأصبح الخلاف عند الأصوليين موضوع علم مستقل هو علم الخلافيات، وعلم التعارض والتراجيح. وانتهوا الى أن الحق متعدد، وكل الآراء صائبة، (للمخطئ أجر وللمصيب أجران).
غضبٌ على الفكر شرقاً وغرباً
يعترف حسن حنفي، بأن تاريخنا مملوء بالغضب: ذبْحُ الجعد بن درهم، تقطّعُ ابن المقفع، وصلبُ الحلاج، وقُتلُ السهروردي، وشُنقُ سيد قطب وغيرهم من الشهداء، الا أن الغاية كانت سياسية خالصة. فقد كان الجعد بن درهم من أوائل المعتزلة الذين عارضوا الحكم الأموي، وابن المقفع من الذين طالبوا بمساواة العجم بالعرب، والحلاج لأنه شارك في وقاد ثورة القرامطة، والسهروردي لأن صلاح الدين كان يخشى علي النضال ضد الصليبيين من محبة الصوفية التي قد تدفعهم الي موالاة الأعداء.
ولم يقتصر هذا على تاريخ الفكر العربي. بل إن تاريخ الفكر الغربي مليء بمثل هؤلاء الضحايا. ويعترف حسن حنفي بأن الغرب سقط منه شهداء الفكر الكُثر. فقد أُجبر سقراط علي شرب السم لاتهامه بالسخرية من آلهة اليونان وافساد أخلاق الشباب. وحُكم على كثير من المعارضين للسيطرة الكنسية الرومانية في عصر الآباء علي حرية الاعتقاد بالهرطقة والكفر. وحُرق أموري البيني لأنه كان يقول بوحدة الوجود. واستُشهد العديد من المفكرين الأحرار في عصر النهضة، توماس مور لأنه تصوّر مدينة فاضلة خالية من الظلم والقهر، وجيوردانو برونو لأنه دافع عن مركزية الشمس ودوران الأرض حولها. وكانت المقصلة مصير كل المعارضين في الثورة الفرنسية في عصر الارهاب، مثل ميرابو، ودانتون، وغيرهم. وطُعن اسبينوزا بالسكين، لأنه أنكر العهد الخاص بين الله وبني اسرائيل، مدافعاً عن ميثاق أخلاقي عام للبشر جميعاً؛ ميثاق الطاعة والتقوى والعمل الصالح.
أسباب حقد رجال الدين على حنفي
فلماذا كل هذا الحقد الديني الأعمى من قبل بعض رجالات المؤسسة الدينية المصرية والعربية على حسن حنفي، وهو المفكر الإسلامي، الذي نشر روح الإسلام السمح والعادل والعقلاني، في مختلف المنتديات الأكاديمية وغير الأكاديمية الأوروبية والأمريكية. وما زالت آراؤه وكتبه وأبحاثه تُعتمد كأساس لفهم الإسلام الصحيح، بعيداً عن اسلام السياسة العربية المعاصرة؟
إن أفكار حسن حنفي عن الإسلام وليس عن المسلمين، لا ترضي الكثير من رجالات المؤسسات الدينية في مصر والعالم العربي. وتعتبرها هذه المؤسسات خطراً على الدين، وانتقاصاً من دوره الثقافي والاجتماعي والتربوي. بل إن رجال المؤسسات الدينية السُنيّة - على وجه الخصوص - الذين لديهم عقدة الخلافة الإسلامية والإمبراطورية الإسلامية، وما زالوا يترحّمون على الخلافة الإسلامية التي انهارت في الاندلس، وفي بغداد على يد السلطان العثماني سليم الأول في 1517، وما زالوا حتى الآن يلعنون كمال اتاتورك الذي أطاح بسيفه بالخلافة الإسلامية العثمانية في 1924، وما زالوا يأملون من بن لادن والظواهري وقبل ذلك من الزرقاوي وأبي حمزة المصري السجين في لندن، أن يقيموا لهم الخلافة الإسلامية العتيدة التي يأملون في العراق أو في أفغانستان أو حتى في لبنان وبريطانيا (نادى أبو حمزة المصري وعمر البكري برفع علم الخلافة الإسلامية فوق قصر باكنجهام) لو أمكن ذلك على طراز الأمارة الطالبانية أو الخلافة الإسلامية الإيرانية، المتمثلة بالنظام الخميني الحالي في إيران. فلا فرق بين الخليفة المطلق الصلاحيات وبين المُلا عمر، أو بين المرشد الأعلى في إيران. فهو الخليفة والخليفة هو. وحسن حنفي في يسار إسلامه، ضد هذا كله، وهو ضد أفكار كثيرة، تعتبرها معظم المؤسسات الدينية السُنيّة العربية مقدسة ومحرّمة، ولا يجوز الخوض فيها، أو الاقتراب منها، أو المساس بها.
الهجوم على فقهاء السلطان
درج حسن حنفي دائماً على مهاجمة فقهاء السلطان. ويقول عنهم، بأنهم هم الذين ينشئون خطاب التأليه الذي يُعظِّم السلطان، كامل الأوصاف. فلا فرق عندهم بين صفات الله، وصفات السلطان. وحسن حنفي يبحث عن علماء الدين الأحرار في هذا العصر، فلا يجدهم. ويتساءل في مقاله (الطريق الثالث بين الحاكم والمحكوم:(
أين هم رجال الدين الأحرار ؟
وهل يتحرك علماء الدين الأحرار، كما تحرك الأفغاني، وعبد الله النديم، ومعه رواد النهضة الأوائل، فما زالت منزلتهم في أعين الناس كبيرة، رغم انتشار فقهاء السلطان؟
وهل يعود الدين كحركة تحرر عربية ثانية، بعد أن تولدت عنه حركة التحرر العربي الأولى، وبعد أن تم إقصاء الحركات الإسلامية بين الحركتين، في النصف الثاني من القرن العشرين؟
ومما أوغر صدر رجال الدين في مصر خصوصاً على حسن حنفي وفكره، وجعلهم يتربصون به الدوائر، قوله أن رجال الدين بشر في النهاية. وهم موظفون في الدولة، ويأتمرون بأمرها. يبررون للسلطان قراراته، ويشرعون له أفعاله سلماً أو حرباً، اشتراكية أو رأسمالية. وتستعملها السلطة السياسية للسيطرة من خلالها على الرأي العام وإضفاء الشرعية عليها، إذا ما نقصتها الشرعية، وأتت بانتخابات مزيفة، واتخذت قرارات، واتبعت سياسات ضد مصالح الشعوب، وقامت ضدها الهبّات الشعبية. هنا، تتصدى السلطة الدينية لمطالب الناس بإطاعـة أولي الأمر )وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم(.
الشرعية الدينية والشرعية السياسية
منذ زمن بعيد، والشرعية السياسية العربية – الإسلامية، تستمد شرعيتها من الشرعية الدينية. ولم تتخلَّ الشرعية الدينية عن الشرعية السياسية، منذ عهد معاوية بن أبي سفيان حتى الآن. وكأن الشرعية الدينية كانت بمثابة عامود وسط في الخيمة السياسية العربية، إذا ما نُزع، سقطت الخيمة السياسية على رؤوس أصحابها. وفي هذا يقول حسن حنفي في مقاله (الأواصر الأزلية بين الماضي والحاضر والمستقبل) أن الشرعية الدينية في الغالب هي أساس الشرعية السياسية كما كان الحال في العصر الوسيط في الغرب، الإمبراطور البابا، والبابا الامبراطور، الكنيسة والدولة سلطة واحدة، وملكوت السماوات وملكوت الارض في يد ممثل السماء على الارض. وهكذا يحكم الاموات الاحياء. يحكمنا الموتى من القبور أو المبعوثون من القبور. ويستمد الاحياء سلطانهم من الاموات. وقد كانت عبادة الاسلاف من مظاهر التدين عند بعض الشعوب.
الرجال هم الذين ينطقون وليس النص
ومما زاد في غضب رجال المؤسسة الدينية العربية، حديث حسن حنفي عن الحضارة العربية – الإسلامية، وتعريفه لها بأنها حضارة نص، وليست حضارة عقل. ففي مقاله (ما الذي يمنع من حرية التفكير؟) يقول حسن حنفي، بأننا حضارة كتاب، ولسنا حضارة طبيعة. فمصدرنا الأول في المعرفة هو القرآن، أو الكتاب أو المصحف، تتلوه السنة المدونة، بعد روايتها شفاهياً. تتلوها نصوص المذاهب العقائدية والفقهية، وكتابات الأولين في الطبقات والحوليات. وهي ليست خاصة بالقرآن وحده، بل هي أيضاً صحف إبراهيم وموسى، ومزامير داود وحكمة سليمان والتوراة والإنجيل، والألواح والأسفار. وتقوم كلها بدور السلطة، سلطة النص الذي يُطاع. فهو الذي يحدد تصورات العالم. وهو الذي يضع معايير السلوك. ويضم إليه الأمثال العامية. فهي نصوص شفاهية تقوم بنفس الدور علي نحو بُعدي، من أجل فهم الوقائع وتبريرها، وإيجاد قوانين لحدوثها. وتقوم مقام النص في الفهم، وإن لم تقم مقامه في التشريع.
وحسن حنفي، لا يضع اللوم في قصور حضارتنا على النص، أياً كان هذا النص. ولكنه يضع اللوم .. كل اللوم على رجال الدين الذين يُنطِقون النص ويفسرونه ويأوّلونه بما يتفق واهوائهم ومصالحهم السياسية والمالية. فالنص كما يقول حسن حنفي، يقوم فقط بدور الافتراض الذي يمكن التحقق من صدقه في التجارب الإنسانية الفردية والجماعية. النص يُقيّد (فلا اجتهاد مع النص). والتأويل يُحرر، فهناك اجتهاد في فهم النص. وسارت بيننا بعض الشائعات، أن السلف لم يتركوا للخلف شيئاً. بل إن الخلف أضاعوا الصلوات، واتبعوا الشهوات. وهناك الفرقة الناجية الواحدة، هي فرقة الدولة الأموية، فرقة السلطان في مقابل الفرق الهالكة وهي فرق المعارضة. الأولي في الجنة والثانية في النار. ومن عصي الأمر وفارق الجماعـة فهو كافـر مرتد يجب قتلـه.
ويؤكد حسن حنفي، أن كل هذه الأدبيات التي استقرت في التاريخ، لها ما يعارضها في القرآن، والحديث، وأصول الفقه. فاختلاف الأئمة رحمة. والصواب متعدد. والكل راد، والكل مردود عليه. وقد خُلق البشر متعددي المشارب، والمناهج، والمآرب، والألسنة، للتعارف، وللإثراء المتبادل. ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، ولكنه جعلهم مختلفين.
فالاختلاف غاية الخلق.
وما زال في جعبة حسن حنفي الكثير من الأفكار، التي وضعته في يسار الإسلام، ضد معظم رجال الدين الذين هم في يمين الإسلام.
وما زال الوقت مبكراً جداً، لكي يكون لليسار الإسلامي بقيادة المفكر حسن حنفي مكان مرموق في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، وتأثير فعال في الشارع العربي، الذي اختطفه اليمين الإسلامي، ومن هم دون حسن حنفي علماً وفكراً وفلسفة ومعرفة بالإسلام من أمثال بن لادن وأيمن الظواهري وعمر البكري، وقائمة طويلة من مئات الأسماء التي سطت على الإسلام، سطوة السارقين على أموال الآخرين.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]