الإشكالية الرابعة : الحياة بين التنافر والتجاذب
المشكلة الأولى : الشعور بالأنا والشعور بالغير
مقدمة: طرح المشكلة
الإنسان كائن مدني بطبعه، يعيش مع غيره من الناس في تفاعل وتكامل وفي تنافر وتجاذب، ويسعى كل إنسان للتعبير عن ذاته، واثبات وجودها، وتميزها عن غيرها. كل هذا يدفعنا إلى طرح المشكلة الآتية: هل شعور الإنسان بذاته متوقف على معرفته لغيره ؟ وهل يكفي أن يكون مغايرا للآخرين حتى يكون هو؟
I. كيف نميز بين الأنا والذات والغير، للوصول إلى أن الوعي هو الذي يحدد معرفة الذات؟
أولا: التمييز بين الأنا، الذات والغير
ـ الأنا: هو في اللغة: ضمير المتكلم، ويستعمل في الاصطلاح للإشارة إلى النفس المدركة. والأنا في التحديد الفلسفي تطلق على الذات المفكرة العارفة لنفسها في مقابل الموضوعات التي تتميز عنها.
ـ الذات: هي في اللغة: ذات الشيء: هي نفسه وعينه. أما في معناها الفلسفي، فتعتبر جوهرا قائما في ذاته، وانه ثابت لا يتغير على الرغم مما يلحقه من الأعراض. بمثل الصحة والمرض، الغنى والفقر، الصبا والهرم.
ـ الغير: هو الآخر، المختلف عن الأنا والمستقل عنها. وبالتالي فهو في المجال الفلسفي خلاف الأنا، إنه اللأنا الذي يشير إلى كل ما كان موجودا خارج الذات المدركة ومغايرا لها ومستقلا عنها.
ثانيا: الوعي وتشكيل الذات
الوعي يعتبر ميزة جوهرية في الذات، وهو الأساس الذي تتوقف عليه معرفة الذات لذاتها وهو المصاحب لها طيلة وجودها وأي غياب للشعور أو الوعي يعتبر غياب للشعور أو الوعي يعتبر غياب للذات أو الأنا وانعدامها، لذلك كان كل انطفاء للوعي هو انطفاء للذات وزوال لها، مهما كانت تأثيراتها الأخرى، فالوعي هو المرجع الأساسي المحدد لحقيقة الأنا الذاتي، في إثبات وجوده، وتفاعله مع غيره. وهذه الحقيقة هي التي توصل إليها "ديكارت" وأثبتها في فكرة "الكوجيتو" الشهيرة : " أنا أفكر إذن أنا موجود "، فالنفس البشرية أو الذات لا تنقطع عن التفكير " الوعي" إلا إذا انعدم وجودها. وهذا ما تؤكده كذلك الفلسفة الوجودية مع "سارتر" التي ترى أن إدراك الوجود الحقيقي يقتضي الوعي الإنساني الكامل الذي يسعى لخلق ماهيته من خلال الاختيار الحر لأحد الممكنات الموجودة، وتحمل مسؤولية ذلك الاختيار. كما ترى الفلسفة الظواهرية مع "هوسرل" أن الشعور هو دائما شعور بشيء، وهذا يقتضي أن تكون الذات الشاعرة واعية لذاتها، حتى يمكنها أن تعي الأشياء والموضوعات.
ثالثا: اعتراضات على التفسير بالوعي
إن جعل الوعي أساس معرفة الذات وإدراك الأنا قد وجه إليه الكثير من الانتقادات منها : أن الوعي الذاتي قد يكون مجرد تأمل ميتافيزيقي، واستبطان ذاتي يعبر عن أوهام لا تعكس حقيقة الذات وجوهر تميزها ( المبالغة، التضخيم، الجهل...). وكذلك اعتراضات الفيلسوف "سبينوزا " على أولئك الناس الذين يعتقدون أنهم أحرار لعدم وعيهم بالأسباب الحقيقية المتحكمة فيهم، وجهلهم بسلطان شهواتهم ورغباتهم عليهم. كذلك فرضية " اللاشعور " في علم النفس الحديث الذي أثبت أن هناك مساحات واسعة في الذات مظلمة لا يستطيع الوعي الذاتي الوصول إليها إلا بالعلاج النفسي.
II. معرفة الذات بين المغايرة والتناقض
أولا: معرفة الذات تتوقف على التقابل والمغايرة
إن أساس التعرف على الذات والشعور بالأنا قد لا يتحدد إلا من خلال الغير أو الآخر، كأنا خارج عن الذات ومستقلا عنها، مما يقتضي أن "الغير" يعتبر أحد مكونات الوجود، و "أنا" جزء من هذا الوجود مما يعني أن الغير يشاركنا الوجود، وهو يقابلنا ويخالفنا، وهذا يؤدي إلى تنبيه الذات لتقارن ذاتها بالآخر، وتستنتج التمايز والاختلاف. وهذا ما يشير إليه "ديكارت" و "باركلي" على أن التعرف على الغير يكون عن طريق المقارنة بين أفعالنا والمعاني التي تصحبها في ذهننا، وبين أفعال الغير، فنستنتج بالتجربة التماثل في هذه الأفعال بيننا وبين الآخر والاختلاف عنه، مما يعني أن وجود الغير قد يكون دافعا أساسيا لضبط وتنمية وعي الذات لذاتها، ومعرفة مقوماتها وصفاتها.
كل هذا يؤكد أن الغير له دور في تحريك آليات وعي الذات لذاتها سواء بالتنبيه أو المشاركة أو التأثيرات العملية في إطار نظام الحياة الاجتماعية.
ثانيا: معرفة الذات تتأسس على التناقض
إن معرفة الأنا وإدراك حقيقة الذات من هذه الوجهة التي يمثلها "هيغل" ، تقوم على العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر، لان كل موضوع عنده يعتمد على نقيضه، فالشعور بالأنا يقوم على مقابلته بشعور الغير ـ كنقيض ـ وعندئذ يتعين على كل من الشعورين أن يتغلب أحدهما على الآخر، والدخول في صراع عنيف، يحاول فيه كل منهما أن يفرض نفسه على الآخر كموضوع رغبة وانتصار أحدهما هو زوال للآخر. ويمكن توضيح هذا المعنى أكثر من خلال جدلية "هيغل" الشهيرة المعبرة عن علاقة التناقض التي تجمع "السيد" بـ "العبد". فالسيد يرتفع عن الأشياء المادية وعن العمل، ويسخر العبد كبيان لسيادته لخدمته وتحقيق أغراضه، أما العبد فينخرط في العمل ويسخر قدراته للتأثير في الأشياء وتشكيلها وفق إرادته، وبمرور الوقت ينسى السيد طريقة التأثير في الأشياء ويصير تابعا لعبده، ومن هنا يصير كل واحد منهما يدرك حقيقة نفسه وقيمة ذاته وإرادته. ومن هذه الجدلية يظهر كل "أنا" مستقل عن الآخر ومقابل له وجها لوجه، كلا يسعى لإثبات ذاته أمام الآخر، باعتماد الصراع بكل أنواعه.
ثالثا: اعتراضات على التفسير بالمغايرة والتناقض
إن التفسير لـ " الأنا " بـ " الغير " برغم ما له من أثر على الذات ومعرفة حقيقة وجودها من خلال فعل التواصل، إلا أنه لا ينبغي أن يتحول إلى هيمنة على الذات، وتذويبها وسلب معناها، لأنها كيان مستقل، وهوية فردية متميزة. كما أن ربط التواصل مع الغير في إطار علاقة التناقض والصراع والسعي للانتصار وإخضاعه، لا يؤدي إلى الاعتراف بالآخر، كما انه منطق يمكن للهيمنة والتناحر، والتنافر والتصارع، والإفناء ( شيوع منطق الغاب ) وهو منطق لا يتناسب مع كرامة الإنسان ورقي عقله.
III. التواصل مع الغير يؤسس المعرفة بالذات
الاعتراف أن " الأنا " و " الغير " لكل عالمه الخاص والمتميز، والمستقل عن الآخر، لا يعني هذا عدم إمكانية تحقيق التواصل بين " الأنا " و " الغير "، بل قد يكون التواصل هو الأنسب لمعرفة الذات، لكن هذا التواصل لا يتم بشكل سوي إلا عن طريق الوعي بالمماثلة والتشابه بيننا وبين الآخر، وكذلك الإحساس المشترك في الوجود والنزوع إلى المستقبل الأفضل، وكذلك اعتماد اللغة كطريق للتواصل بالغير والتوافق والحوار معه. حيث يرى " ماكس شيلر " أن التعاطف والحب هما الطريق المعبر عن التواصل الحقيقي بالغير، لان التعاطف أو المشاركة العاطفية ، عمل قصدي يتجه نحو الغير، مثل: الألم الذي يشترك فيه الأب والأم عند وفاة ابنهما، ومثل مشاركة الغير أفراحه وأتراحه، ففي هذه المشاركة قصد إلى الشعور بمشاعر الغير، وفوق هذا التعاطف هناك الحب في مختلف مظاهره. وعليه يمكن القول أن التواصل بين " الأنا " و " الغير "، يمكن لمبدأ التعادل بين الذات والغير، واعتراف كلاهما بالآخر دون إلغاء.
IV. الشعور بالأنا والشعور بالغير وتجاوز الطرح المجرد والانخراط في الممارسة العملية
إن الاشتغال بطرح العلاقات المجردة بين " الأنا " و " الغير " طرحا فلسفيا خالصا، برغم قيمتها الفكرية، قد تكون من الناحية الواقعية والعملية في أكثر الأحيان غير مجدية، لذلك ينبغي تجاوز الطرح المجرد لمشكلة " الأنا " و " الغير "، والشروع في إيجاد وتوضيح القواعد والأطر العملية للتواصل الحقيقي بين " الأنا " و " الغير ". وبداية ذلك الانطلاق من قاعدة كلية موحدة مفادها ( الإقرار أن الغير هو شبيهنا ). ومن ثمة تأكيد مبدأ التعادل والتساوي في الاعتبار بين الأنا والغير. ويمكن تفعيل ذلك من خلال جملة من القيم الأخلاقية والإنسانية مثل: الحب والصداقة والإحسان والتسامح والتواصل والحوار ونشر ثقافة التعايش مع الغير، وخلق أسباب التنافس النزيه وترقية الإنسانية والوقوف بالمقابل ضد كل أوجه التنافر والصراع والعنف والتناحر والتدمير والإفناء والإلغاء والتذويب... وغيرها وهي كلها وجه سلبي مقيت لا يجب أن تتصف به الأنا الإنساني، بل عليها أن تعمل على نبذه في كل موقع وعل كل صعيد.
خاتمة : حل المشكلة
إن شعور الإنسان بذاته متوقف على معرفة الآخرين باعتبارهم كائنات تستحق المعاشرة والاحترام، ومغايرته لهم إن كانت ضرورية لتثبيت الذات وتأكيد خصوصياتها، وهي لا تكتمل ولا تزدهر إلا بوجود الآخرين والعمل معهم في ظل التعاضد والمحبة.