تخيلوا لو أن الإنسان يولد عجوزاً هرماً, أشيب الرأس, محدودب الظهر،
ثم يتدحرج به العمر رويداً رويداً نحو الكهولة.
فالشباب والمراهقة, فالطفولة والرضاعة ثم الموت أخيراً،
وقد لاقى ربه طاهراً بريئاً ناصعاً كورقة بيضاء لم تشوّهها كتابة.
عند ولادته سيعتني به والداه –الأصغر منه سناً طبعا-, يقتنيان له عكازاً ونظارات طبية وطاقم أسنان
ولعباً لمثل من في سنه من حديثي الولادة كطاولة نرد أو مذياع مثلاً, كما يسرعان إلى إعطائه اللقاحات اللازمة التي تحميه
من الكولسترول وترقق العظام وارتفاع الضغط الشرياني, يقومان على تربيته وفق أحدث المناهج فيلاعبانه
ويلقنانه موشحات وأدواراً وأغاني طربيّة, ينصتان إلى حكمه ويحتفلان بعيد ميلاده مع أقرانه من (المسنين) ويا لها من غبطة،
وهما يرقبان فلذة الكبد يصغر أمام عيونهم, يفارق عكازه ويلتحق بالمدرسة كي يضمن عملاً لائقا في شبابه
و يؤمّن على طفولته قبل أن يسودّ شعره وتختفي صلعته ... ويمسي يافعاً يلهو مع أحفاده الكبار في الحدائق,
يلعب بدراجته ويطارد الفراشات الملونة مع المتقاعدين.
قد يبدو هذا التخيل الافتراضي مثيراً لبعض المفارقات الطريفة، إلا أن المتأمل في جوهره لا يجد فيه أي وجه للغرابة،
فكأنما أنت تعكس ساعة رملية وتستمر حبيباتها في التدفق، لأن الزمن يمضي دون توقف
وغير عابىء بدورة الفصول وتراتبيتها لدى الإنسان والطبيعة.
لن نعود إلى الوراء لمجرد تحريك عقارب الساعة من اليمين إلى اليسار، لكنه الحنين إلى ما قبل ورطة المعرفة والرغبة
في الاحتفاظ بوهم البكارة الأولى دون أن نعلم أن معرفتنا الحالية هي بكارة لمعرفة قادمة أي أننا نعيش بشكل دائم حالة حنين مؤجل.
فلو أسعفتنا الذاكرة لتذكرنا في أنفسنا حنين الطفل إلى الرضيع وحنين الرضيع إلى الجنين.
ما فائدة الطفولة وما قيمتها، إن عدت إليها بحكمة الشيخ العجوز؟ بل ما فائدة الحكمة إن ولدت معك..!؟
إنها كمن يشتهي أن يتخيل نفسه محارباً مع رجال سبارتكوس بسلاح عصري..لماذا؟
لأنه غير واثق من انتصاره في الوقت الراهن بذات السلاح.
قيل إن عجوزاً متصابية قد صادفت في طريقها مصباحاً سحرياً, ففركته طبعاً,
فطلع لها المارد وقبل أن يكمل الأخير جملته الشهيرة (شبيك لبيك) قالت له:
من آخرو بدّي أرجع عشرين سنة لورا..
في رمشة عين لبى ما طلبته، فعادت إلى سن الخمسين, لكن التجاعيد ما زالت ظاهرة وفاضحة،
فطلبت أن تعود عشرين سنة أخرى، وكان لها ما تريد:
صبية حسناء في الثلاثين، إلا أن الحنين إلى الطفولة قد استبد بها، فطلبت منه العودة إلى سن النضارة والبراءة الأولى,
لبى المارد ما تطمح إليه دون ممانعة، فعادت طفلة على أمل أن تبدأ من جديد، لكن حمى قلاعية من أمراض الطفولة أصابتها،
فتوفيت ضحية الحنين والطمع في تكرار الحياة، وأضاعت على نفسها متعة السن التي هي فيها.
سيطر هاجس الخلود على الإنسان منذ أن اكتشف رهبة الموت،
ووقف عاجزاً أمام هادم اللذات ومفرق الجماعات،
فتخيلوا لو كانت حياتنا سرمدية لا ضفاف لأعمارنا فيها...
كيف ستكون العلاقات والمواثيق والمواعيد,
كأن يقول الواحد للثاني: نلتقي بعد ألفي عام في تمام الساعة العاشرة..!
وما قيمة الأفكار والمعتقدات والحروب والأخطاروالأوبئة والأدوية والخرائط والفنون والعلوم والاكتشافات والسياسة دون موت,
كيف ستكون صورة قصص الحب والرعب, هل ستوجد ملاحم ومراثٍ وعظماء ومؤرخون؟ ولمن سيؤرخون؟!
تخيلوا حجم الاكتظاظ والانفجار السكاني ..هل تكفني قارّة بأكملها للعيش مع أحفادي وأسرتي. ماالعمل؟
بل ما قيمة العمل أصلا دون الخوف من الفناء...لا شك في أن هاجس البشرية الأوحد هو البحث عن التوازن
عبر اكتشاف عقار أو عشبة تقضي على الخلود ويطلع انكيدو وجلجامش آخران ....
إنها أقصى حالات العبث المرعبة التي يحيلنا مجرد التفكير فيها إلى الإيمان بعظمة وحكمة خالق ومهندس هذا الكون,
مهما اختلفت المذاهب والديانات.