مفهوم العلم
وحرية البحث العلمي في الإسلام
الدكتور عمار الطالبي
ـ تعريف العلم
ليس المقصود بكلمة العلم هاهنا معناه المعاصر في العلوم الدقيقة فحسب, وإنما الغرض مفهومه العام الذي يشمل كل معرفة منظمة, عقلية منطقية كانت أو حسية تجريبية.
فالعلم في معناه اللغوي إنما سمي علما لأنه علامة يهتدي بها العالم إلى ما قد جهله الناس, وهو كالعلم المنصوب في الطريق .
أما تحديد العلم في صناعة الاصطلاح فمن العسير تحقيقه تحقيقا يتفق عليه الباحثون في القديم, وفي عصرنا هذا أيضا, وإن ذهب أبو الحسن اللبان إلى عدم الجدوى من تعريفه: لأنه أظهر الأشياء, فلا معنى لحده بما هو أخفى منه .
وأنت إذا تصفحت اليوم مؤلفات الابستيمولوجيا, وقرأت مصنفات المناهج, واطلعت على المعجمات, فإنك بلا ريب تلقى صعوبة في الوصول إلى تعريف دقيق واضح للعلم, لأسباب منها أن الظواهر التي هي موضوع للعلم مثابتها مثابة المرض والموسيقى مثلا, فأنت تعرف مثل هذه الظواهر بيسر, ولكن يصعب عليك تحديدها بدقة كافية, لأنه كي يتحدد العلم فإنه يتطلب وضع معايير, وهذه المعايير تقتضي اقتراح نموذج تحدد فيه الفروق بين ما هو علمي وما ليس بعلمي, فهل اللسانيات, وهل التحليل النفسي اليوم من العلوم? إنه من العسير وضع الحدود بين العلم في هذا المجال والمناشط الثقافية الأخرى?
وليس من المؤكد وجود سمات مشتركة بين معارف مختلفة في موضوعاتها ومناهجها, مثل الفيزياء النظرية, والتاريخ, والأنتروبولوجيا (علم الأجناس), والبيولوجيا, وعلم النفس, فهل نحن أمام علم واحد أو علوم?
عني علماء الإسلام بتحديد العلم وصياغة مفهومه صياغة صناعية, كما عنوا بتعريف النظر والمعرفة والعقل والفكر وما إلى ذلك عناية فائقة في القرنين الرابع والخامس الهجريين خاصة, وذهبوا في ذلك مذاهب متباينة تباين اتجاهاتهم الفكرية ومذاهبهم العقدية والفقهية من اعتزالية وأشعرية.
وأقتصر هاهنا على تعريف أورده الإمام المازري (ت536هـ ) وهو:اعتقاد الشيء على ما هو به, مع سكون النفس إليه, إذا وقع عن ضرورة أو دليل , وهذا التعريف متقدم جدا ومعاصر, إذ أن بعض المعاصرين يعر فه بما لا يختلف عنه, فهو قد جمع فيه بين أربعة عناصر واضحة: اعتقاد+مطابق+سكون النفس+دليل ضروري أو نظري.
ونرى في زماننا أن الابستيمولوجيا الغربية تعالج النشاط العلمي الذي هو أرقى ما وصل إليه الإنسان من معارف, من زاويتين مختلفتين, أو إن شئت في اتجاهين متباينين:
اتجاه سمي بالاتجاه العقلي النقدي الذي يمثله تمثيلا قويا كارل بوبر(1902ـ
1994م) الذي يتمسك بالنواة الصلبة للنشاط العلمي بعيدا عن أنواع الخطاب المجاور, مثل الأيديولوجيا, والفلسفة, أو شبه العلم.
أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه سوسيولوجي وتاريخ للعلوم, يقوم على قراءة مختلفة تماما لقراءة الاتجاه الأول, لأنه يسمح بالأيديولوجيا والمسلمات التي لا برهان عليها بأن تدخل في النظام المعرفي أو الجهاز العلمي.
إن الاتجاه الفلسفي أو العقلي في تعريف العلم أو تفسيره يعتمد أساسا على مبادئ أربعة :
1ـ الصرامة في المنهج, بحيث يجب على كل أنواع البحث أن تحترم المعايير العلمية, ولو في حدودها الدنيا من الصرامة, مثل التماسك المنطقي الداخلي بين الأفكار, والتطابق بين النظرية والظواهر التي تحكمها, باستثناء بول فرايند الذي يرى أن كل شيء مسموح به, فيما يتعلق بالمنهج.
2ـ الموضوعية والتعميم, فالخطاب تفترض فيه الموضوعية, فالمعادلة: E = MC2 مثلا صحيحة في مكة وطوكيو وواشنطن, عند المسلم والنصراني والبوذي.
3ـ تراكم المعرفة وتقدمها, بحيث تضاف معرفة جديدة إلى معارف قبلها باستمرار, فيكون تاريخ العلوم في تطور مستمر.
4ـ التحقق والدحض, فكل علم جدير به أن يراقب خطابه بنقده ومناقشته ومواجهته بالوقائع بالبرهنة على نتائجه, ووضع قاعدة لها موثوق بها مؤقتا على الأقل, وإن كانت هذه النتائج ذات صبغة احتمالية, ومع ذلك فالخطأ يكمن في قلب المنهج العلمي, وفي لب الروح العلمية من الصعب تفاديه دائما, ولهذا فإن وظيفة المنهج العلمي هي الكشف عن الأخطاء التي تعاني منها الحقائق العلمية, فالروح العلمية إن هي إلا مقاومة متواصلة للضلال, ولا يتقدم العلم إلا بالنقد والمعارضة, إذ إنه لا يقوم على أرض مضمونة دائما.
أما الاتجاه التاريخي الاجتماعي في تفسير العلم, فيعتمد على التحليل التاريخي للعلم, تحليلا قائما على علم الاجتماع أو علم النفس, ويرى أصحابه أنه إن كان العلم ثقافة مثل سائر الثقافات, وإذا كانت إرادة الصرامة في العلم والاهتمام بالموضوعية الذي يبديه العلماء أمرا مسل ما به, فإنه مع ذلك تختفي وراءه بشعور أو بدونه مسلمات
لا برهان عليها, وأيديولوجيات, وأهواء مضمرة, وممنوعات أيضا.
وإذا كانت جماعة العلماء جماعة إنسانية مثل غيرها من الجماعات بما لها من أهواء, واعتقادات, وسلطة, فإن تاريخ الوقائع العلمية, وما يكتنفها من عوامل سوسيولوجية إنما تصف لنا عملا إنسانيا ذا صلة بتاريخه وضغوطه الاجتماعية, ومرتبطا بالعقليات السائدة في المجتمع أو النخبة.
ونحسب أن تطور المفاهيم العلمية حقل خصب في تاريخ العلوم, لذا نجد في عصرنا هذا عدة علماء وفلاسفة يعنون بهذا المجال, أمثال: توماس كون, وإيمر ليكاتوس, وجرار هولتن, واسكندر كوريه, وجاستن باشلار, وتلاميذهم.
يرى توماس كون أنه يسود في كل عصر نموذج علمي نظري, يتخذه العلماء مرجعا لهم وسندا, وهو الذي يكو ن بناء العلم, ويقود البحوث, يسم يه توماس Paradigme, وفوكو Epistim, ولوكاتوس برنامج البحث, ويسميه هولتن Themata.
وقد يستعمل مفهوم في علم م ا, ثم يهاجر إلى علم آخر أو علوم, مثل مفهوم الانتخاب والمنافسة اللذين انتقلا من البيولوجيا إلى الاقتصاد, وهكذا يتم التقدم العلمي بطريق آخر غير التراكم المعرفي المتصل, وإنما يتقدم بقطيعة وثورة يظهر إثرها نموذج جديد للعلم مباين لما قبله, فالعلم بهذا المنظار يصبح ذا صلة وثيقة بمنطق التاريخ, وبصيرورة الاجتماع البشري, وهذا لا يحط من قيمة العلم, بل يتيح له ذلك أن يتجاوز نفسه باستمرار, وهو سر ديناميكية العلم وحيويته, فالعلم بهذا يكمن تقدمه في مناقشة أخطائه وتفاديها دون توقف, وفي عدم الرضا الكلي عما نزعم أنه علمي يقيني قطعي, فالمناقشة الحرة والنظر النقدي من الوسائل الفعالة في تقدمه, وفي القرب من الحقيقة, فأخطاؤنا هي التي تعلمنا.
ونحن رأينا في التاريخ كيف أن الحروب الدينية في أوروبا ساعدتهم على المرانة على هذا النموذج من التفكير النقدي المنافي للتسلط, فذلك الذي جعلهم يتعلمون التسامح مع المعتقدات الأخرى المخالفة لمعتقداتهم, بل عل متهم احترامها, واحترام من آمن بها عن إخلاص كما يقولون هم أنفسهم.
فالمناقشة الحرة تبين أنه عندما يستمع بعض العلماء إلى بعض, وينتقد يعضهم بعضا آخر, فإن الحظ يسعدهم أن يقتربوا من الحقيقة أكثر, ذلك أن العلم ينبت في أرض ثقافية, والمعارف مرتبط بعضها ببعض, كما يرى أبو حامد الغزالي, والأفكار ترحل وتسير, والعقول تتلاقح, والنظم النظرية مفتوحة, وهذا ما يكفل لها هذا اللون من الغنى الذي ينشأ عن لقائها وتفاعلها وتقاطعها, وعن انتقالها من حدودها إلى حدود معارف أخرى من علوم الطبيعة إلى علوم الإنسان في نسيج الثقافة العلمية الإنسانية.
فالعلم البشري ليس علما مطلقا, إن الذي يشتغل بالعلم ـ كما أشار بعض العلماء إلى ذلك ـ لا يشعر بوجود عالم من النظريات المؤكدات تمام التأكيد, ولا بحقائق مؤسسة تأسيسا نهائيا, ولا يرى العلماء أنها تتمتع ببراهين قاطعة مطلقة حتى تبلغ بذلك مبلغ اليقين, فهم يتصورون العلم باعتباره مجموعة من افتراضات لها شيء من الدعائم,
قلت أو كثرت في شكل نظريات موضعية لا تتخذ صيغة وحدة كاملة.
لهذا نرى رشارد فريدمن الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1966 يقف موقفا صريحا من غموض مفهوم العلم ومعناه فيقول: اشتغلت بالعلم طوال حياتي عارفا تماما ما هو, ولكن الإجابة عن السؤال: ما هو العلم? هو الأمر الذي أشعر أني عاجز عنه! .
وهذا ما جعل المفهوم النسبي للعلم يسود اليوم لدى فلاسفة العلم, وعند العلماء أنفسهم إلى حد أن ادعى أحدهم, وهو بول فرايرابند أن كل شيء في العلم جائز, وصنع لنفسه نظرية الفوضى في نظرية المعرفة , وأعلن إنكاره لما يسمى بالمنهج في العلم, وكتب كتابا عنوانه "ضد المنهج", واعتقد بأنه لا يمكن القول بأن العقل يصل في العلم إلى ما هو كلي, كما لا يمكن أن يستبعد اللامعقول من العلم, وهذا ما جعله معجبا بالصين عندما رفضت جماعة ماوتسي تونغ العلم الغربي المهيمن في ثورته الثقافية.
وأغرب من ذلك فإن بول فرايراب ند دعا إلى إعادة الاعتبار للسحر والتنجيم والكهانة والأساطير التي عزم العقليون على محوها من الأرض, وربما كان هذا إشارة إلى عرض من أعراض أزمة العقل الغربي, وما عزمت عليه جماعة ما بعد الحداثة من فك الثوابت, وهدم ما تعارف عليه أهل الغرب من العقلانية وصرامة المنهج والثقنية.
ولا ينفي هذا أن للعلم عموما وللمعرفة منطقا تنظيميا فيما يذهب إليه فيلسوف العلوم ومؤرخ اللسانيات سلفان أورو, فالعلم يملك نظاما ما يتكون من ثلاثة عناصر على الأقل ضرورية:
1ـ عناصر نظرية (مفاهيم...).
2ـ عناصر اجتماعية (مؤسسات سياسية, علمية,...).
3ـ عناصر نفعية عملية (تقدم اقتصادي وتقني...).