اتفق فلاسفة اليونان الكبار إذن على أن جوهر الإنسان ووظيفته وفضيلته في ذات الوقت هي التفكير والتأمل، ومن ثم فكأن الإنسان في نظرهم هو ما يعرف، وبقدر ما يحصل الإنسان من معارف بقدر ما يعلو شأنه ويحقق ماهيته وسعادته. وربما كان الاختلاف فيما بين هؤلاء الفلاسفة -سواء قبل سقراط أو بعده- يتمحور حول أي أدوات الإنسان المعرفية (الحواس أو العقل) هي الأفضل والأوثق؟!
والحقيقة أنهم انقسموا إلى فريقين؛ فريق يفضل الحواس وآخر يفضل العقل، وإن لم يغفل دور الحواس باستثناء أرسطو، الذي حاول أن يقدم نظرية يتكامل فيها دور الحواس ودور العقل.
أما الفريق الأول فقد تزعمه بروتاجوراس السوفسطائي وإن سبقه في ذلك بعض الفلاسفة الطبيعيين، فإنهم لم يبلوروا رؤية واضحة في المعرفة الإنسانية تحديداً؛ بل كان جلّ تركيزهم علي فهم الطبيعة وتفسير ظواهرها عن طريق المشاهدات الحسية. أما بروتاجوراس فقد حول الأنظار إلى الاهتمام بقضايا الإنسان عموماً، وخاصة في مجال المعرفة والأخلاق حينما أطلق عبارته المشهورة: (إن الإنسان معيار الأشياء جميعاً)، وقصد بذلك أن الإنسان بحواسه هو معيار وجود الأشياء، فإن قال عن شيء: إنه موجود فهو موجود بالنسبة له، وإن قال عن شيء: إنه غير موجود فهو غير موجود بالنسبة له. وهذا يعني أن الخبرة الحسية المباشرة هي معيار الحكم على وجود الأشياء أو عدم وجودها؛ فما يقع في خبرتي الحسية يكون هو الموجود بالنسبة لي، وما لم يقع فيها يكون غير موجود بالنسبة لي أيضاً. وهكذا أعلن بروتاجورس نظريته النسبية في المعرفة الإنسانية، تلك النظرية التي من شأنها أيضاً الإقرار بأنه لا توجد طبيعة ثابتة لأي شيء خارجي؛ لأن انطباعات الفرد الحسية الوقتية -وهى تختلف من وقت لآخر حسب حالته الحسية والمزاجية- هي معيار الحكم على هذا الشيء أو ذاك(14).
ورغم الهجوم الذي شنه سقراط وأفلاطون على هذه النظرية الحسية في المعرفة للدرجة التي سخر فيها أفلاطون من بروتاجوراس قائلاً: لِمَ لَمْ يَخْتَرْ بروتاجوراس الخنزير أو البقر الوحشي معياراً للوجود بدلاً من الإنسان باعتبار أن هذه الحيوانات تمتلك الحواس الخمس!
أقول رغم هذا الهجوم، فإن النظرية بقيت، وظل الجدل حولها دائراً، حتى جاء أبيقور في القرن الثالث قبل الميلاد ليؤكدها بمذهبه الحسي في المعرفة. ولاحظ كلمة (مذهبه)؛ حيث إن بروتاجوراس وأتباعه من السوفسطائيين لم يهتموا بالدفاع عن رأيهم بقدر ما اعتبروا أنهم أحرار فيما يرونه. أما أبيقور فقد دافع عن الحواس واعتبرها صادقة دائماً لدرجة أنه قال فيما يروى عنه شيشرون: (إنه لو خدعه حس واحد مرة واحدة في حياته فهو لن يثق بأي حس من حواسه أبداً)(15). وهذا ما أكده أيضاً لوكريتيوس تلميذ أبيقور الشهير حينما قال مؤكدا نظرية أستاذه: (أي شهادة تستحق ثقتنا أكثر من شهادة الحواس؟! إنها لو كانت خادعة فهل العقل وهو الصادر عنها هو الذي سيشهد ضدها؟)(16). إن التناقض أو الخداع فيما يأتينا عن طريق الحواس ليس مصدره الحواس في نظر الأبيقوريين؛ بل هو خطأ الحكم العقلي علي ما تنقله هذه الحواس. والطريف أن أبيقور قد عدد أربعة موازين أو درجات للمعرفة ردها جميعاً إلى الحواس، واعتبر أن الحدوس الذهنية والتوقعات العقلية وكذلك الإدراكات المباشرة للعقل إنما هي نتيجة لإحساسات سابقة، وما يؤكدها ويجعلنا نثق فيها ونتيقن منها إنما هي أيضاً الإحساسات(17).
على كل حال فإن المذهب الحسي لأبيقور كان أبلغ دفاع شهده تاريخ الفلسفة عن الحواس كمصدر لليقين في الفكر الفلسفي حتى العصر الحديث،وكذلك كان دفاع أفلاطون عن العقل والحدس العقلي كأساس وحيد للمعرفة الإنسانية وكمصدر أساسي لليقين؛ فقد كان أفلاطون يعتقد بصراحة (أننا لا نعرف بالحواس وإنما من خلال الحواس)(18)، والذي يحكم ومن ثم يعرف هو العقل، والعقل الحدسي هو الذي يدرك الحقائق؛ أي (المثل المفارقة لهذا الوجود المحسوس). لقد بالغ أفلاطون في التمييز بين ذلك الإدراك الحدسي للحقيقة في العالم المعقول وبين العالم المحسوس موضوع الإحساس، لدرجة أنه اعتبر أن هذا العالم المحسوس إنما هو عالم من الظلال والأوهام، ومن ثم فأي معرفة تتعلق به إنما هي مجرد ظن لا يرقى أبداً إلى درجة اليقين، ولا يمكن أن يعتبر معرفة للحقيقة بأي حال.
فالحقيقة لا توجد إلا في إدراكنا للعالم المعقول. فهو عالم الوجود الحقيقي. ولنضرب مثلاً على ذلك بإدراك حقيقة الإنسان، فمعرفتنا بـ (س) أو (ص) من البشر ليست معرفة، ولا تتعلق بموجود حقيقي؛ لأن الموجود الحقيقي هو الإنسان الذي يعتبر س، صمن البشر مجرد ظلال له. وهذه الظلال هي عبارة عن موجودات فانية ومن ثم فهي غير حقيقية. فالموجود الحقيقي هو ذلك الإنسان الكلي أي الماهية المفارقة (التي لا توجد في هذا العالم المحسوس) الموجودة في ذلك العالم الفارق (عالم المعقولات – عالم المثل)، ومن ثم فهذا المثال المفارق للإنسان (أي حقيقة الوجود الإنساني ككل) لا يدرك إلا بهذا الحدس العقلي المباشر. ولكل ذلك قال أفلاطون بصراحة شديدة: إن الذي يتصور أنه سيدرك الحقيقة باستخدام الحواس وأولئك الذين يوحدون بين العلم والإحساس إنما يسيرون في طريق مسدود(19).
والحقيقة أن أرسطو التلميذ الأشهر لأفلاطون قد تحلى بشجاعة عظيمة حينما حاول أن يخفف من هذه الرؤية الأفلاطونية في تمجيد العقل وإدراكاته الحدسية، وأن يعيد للحواس دوراً أساسياً في المعرفة الإنسانية إلى جانب العقل سواء أكان العقل الاستدلالي بمعارفه البرهانية أو العقل الحدسي بإدراكاته المباشرة للحقائق؛ فمن يقرأ كتاب (النفس) لأرسطو يجد أنه قد خصص الجزء الأكبر منه للحديث عن الحواس وعن كيفية الإحساس، ثم عن كيفية الإدراكات الحسية مميزاًَ تمييزاً رائعاً بين مجرد الإحساس وبين الإدراكات الحسية عن طريق ما أسماه بـ(الحس المشترك). ثم بعد ذلك تحدث عن التذكر والتخيل كعمليتين معرفيتين هامتين أساسهما الإحساس والإدراكات الحسية. وقد انتقل بعد ذلك إلى الحديث عن العقل مميزاً بينه وبين الحس مؤكداً على أن العقل -بما هو كذلك- مفارق للجسم وأحواله. ومع ذلك فقد أوضح أن المعرفة العقلية تبدأ من هذه الإدراكات الحسية وميز بين العقل المنفعل بهذه الخبرات الحسية التي تمكنه من تدبير أمور الحياة العملية، وتشكل ما أسماه في نظريته عن المعرفة والعلم بـ(الخبرة) التي لا غنى عنها في حياتنا العملية، وبين ما أسماه بالعقل الفاعل أو العقل بالفعل، ذلك العقل القادر على التجريد وإدراك مالا يرتبط بهذه الخبرات الحسية، وهو ما أطلق عليه أيضاً العقل النظري الذي يدرك المبادئ والماهيات، وعلى رأسها مبدأ المبادئ والماهية القصوى للوجود – الإله(20).
لقد وازن أرسطو بحق بين دور الحواس في المعرفة الإنسانية، ذلك الدور الذي يتجلى في المنهج الاستقرائي لدراسة الظواهر الطبيعية، كما يتجلى في المنهج الوصفي في دراسة الكائنات الحية، كما يتجلى في كتاباته عن الحيوان. وازن بين ذلك وبين دور العقل الذي يبدأ حقيقة من تلك الإدراكات الحسية؛ ليشكل من خلالها الأفكار والتصورات العقلية (أي المقولات) التي تبدأ بها معرفتنا العقلية بالعالم الخارجي وبأشيائه، وتترتب عليها الاستدلالات العقلية بصورتيها الاستقرائية (الاستدلال الاستقرائي) والاستنباطية (القياس)، كما أن هذه الإدراكات الحسية والاستدلالات العقلية المبنية عليها، إِنَّمَا تشكل المقدمات التي لا غنى عنها لتلك الحدوس العقلية التي ندرك من خلالها ماوراء هذا العالم المحسوس. ولا يوجد فيما وراء هذا العالم المحسوس إلا موجود واحد أحد هو الإله. ولا يمكن بالطبع التعرف على حقيقة هذا الوجود الإلهي إلا لذلك العقل الحدسي القادر على مفارقة هذا الوجود الطبيعي المحسوس ليدرك ما وراءه. ولم يكن غريباً مع ذلك أن يصف أرسطو هذه القوة العقلية –العقل بالفعل– (قوة الحدس) أنها حينما تفارق (لتدرك هذا الوجود المفارق لكل ما هو طبيعي محسوس) تصبح خالدة وأزلية(21).
وقد تبنى فلاسفة الرواق إلى حد ما هذه الرؤية الأرسطية في إقامة التوازن بين دور الحواس ودور العقل مع الفارق الكبير بينهما في استخدام المصطلحات وفي الغايات التي أراد كل من أرسطو وفلاسفة الرواق تحقيقها من وراء نظريتهما في المعرفة. فقد كانت الغاية عند أرسطو هي فقط إدراك الحقيقة، بينما الغاية عند الرواقيين كانت تتعدى إدراك الحقيقة إلى غايات أخلاقية سلوكية نتعرف عليها في الفقرة التالية.
ثالثاً: الأخلاق الإنسانية
إن اهتمام فلاسفة اليونان ببحث موضوع الأخلاق الإنسانية يعود في اعتقادي إلى هيراقليطس، الذي كان أيضاً أول من حاول البحث في طبيعة النفس الإنسانية، حينما ميز بين النفس الرطبة والنفس الجافة، وقال: إنه على الرغم من أنه مما يسعد النفس أن تصبح رطبة بمائها)(22) (فإن النفس الجافة أحكم وأفضل)(23). إن هذه الإشارات منه تعني أنه يفضل النفس الزاهدة في الشراب وفي الحصول على كل رغباتها؛ (إذ ليس من الخير أن يحصل الإنسان على كل ما يرغب)(24)، فجفاف النفس وزهدها هو طريق فضيلتها.
وقد كان لفيثاغورس ومدرسته في نفس اللحظة التاريخية في القرن السادس قبل الميلاد فضل كبير في بلورة فلسفة أخلاقية مثالية ترتبط بمذهب الفيثاغوريين الديني، وقد لخصت لنا عبارة قالها فيثاغورس مبادئ هذه الفلسفة، تلك العبارة التي يقول فيها: (إن المرء يكتسب تحسناً في سلوكه من ثلاث طرق: أولها تأمل الإله؛ ليدنو من إخماد كل الشرور في نفسه، ويتبع مسلك التقليد لكل ما هو إلهي، ومن شأن هذا أن يطوع المرء نفسه لتتوافق مع الإله. وثانيها الاعتقاد في حياة الأفعال الخيرة؛ لأن الفضيلة تشعر الإنسان بالقداسة. وثالثها أن يكون قد بلغ تمام الصلاح في الموت حينما يصبح بتهذيب الجسد قادراً على أن تشتاق روحه في حياتها الدنيا إلى الإله(25). لقد آمن الفيثاغوريون - فيما قال يامبليخوس قديماً – بأن من يبحث عن مصدر آخر للخير غير الإله يكون أحمق(26).
وإذا كان الفيثاغوريون قد وجدوا السعادة في التقرب إلى الإله بسلوك طريق الخير، فإن ديمقريطس فيلسوف الذرة الشهير في القرن الخامس قبل الميلاد قد أكد أن الاختيار الصحيح للإنسان -في الحصول على البهجة والسعادة- هو الحرص على اعتدال المزاج، واعتدال المزاج لديه لا يكون إلا بأن يدرك الإنسان أنه ليس جسداً فقط؛ وإنما لديه العقل الذي ينبغي أن يحرص على تلبية مطالبه بالمزيد من الثقافة والاطلاع فضلاً عن المشاركة السياسية.. إن الإنسان العاقل هو من يتجه إلى كل ما هو مبهج وسار بشرط عدم الإفراط، إنه من يؤثر اللذة البريئة، تلك اللذة التي أسماها ديمقريطس متعة النظر إلى الأشياء الجميلة(27).
أما السوفسطائيون وعلى رأسهم بروتاجوراس فقد قدموا أخلاقاً نسبية تستند على الربط بين ما ينفع الفرد في حياته الخاصة وبين الفضيلة؛ حيث قال بروتاجوراس: إن الإنسان الفرد هو معيار الخير والشر، فإن قال عن شيء: إنه خير فهو خير بالنسبة له، وإن قال عن شيء: إنه شر فهو شر بالنسبة له. وهذه الدعوة لنسبية الفضائل بنسبية ما ينفع الفرد تعني لديهم أنه لا فرق هناك بين ما يسمى لدى الناس (فضائل) وما يسمى (رذائل)؛ لأن ما يراه البعض فضيلة قد يراه الآخرون رذيلة(28) وهكذا...
ولا شكَّ أن هذه الدعوة السوفسطائية لنسبية الفضيلة واختلافها من فرد لآخر وحسب الأهواء والمنافع قد أقلقت سقراط، وجعلته يوقف حياته على توعية الناس بخطورة هذه الرؤية السوفسطائية، التي لو سادت لانعدم وجود الفضائل أصلاً. لقد نبه سقراط كل معاصريه إلى أن العقل هو ما يؤسس المعرفة الصحيحة لدى الإنسان، وأن أي معرفة لحقيقة (الخير) و(الشر) تقوم على استطاعته التمييز بين (الحق) و(الباطل)، فالأمران مترابطان، حيث ينبغي للعقل في الحالتين أن يضع المفاهيم والتعريفات الكلية الثابتة لكل شيء، ومع ذلك فالشخص لا يمكن أن يكون فاضلا حقاً إلا إذا عرف أولاً المعنى الكلي للفضيلة، ذلك المعنى (المعياري) الذي يمكنه دائماً من أن يسلك طريق هذه الفضيلة في أمثلتها السلوكية المختلفة(28).
والطريف أن سقراط قد اعتبر أن بإمكان المرء -ودون حاجة للمعلم- أن يدرك هذا المعنى الكلي للفضيلة؛ لأنه كان يعتقد (أن الفضيلة علم لا يعلم)، إنها علم من نوع خاص يرتبط بأن يسأل المرء عقله الواعي قبل أن يتجه إلى أي سلوك. فإن اهتم وسأل ضميره وعقله أفتاه ضميره العاقل بالطريق القويم للفضيلة أياً كان مسماها. لقد كان سقراط يعتقد (أن الفضيلة واحدة)، وهى تكمن في هذا (الإدراك الواعي للخير)، فمن أدرك الخير على هذا النحو السابق سيسلك طريق الفضيلة أياً كان اسمها؛ فما نتصوره من فضائل كالصدق والأمانة والشجاعة...إلخ إنما هي في الحقيقة أسماء متعددة لمسمى واحد هو الفضيلة؛ فمن أدرك الخير -تبعاً للموقف- صار صادقاً أميناً،شجاعاً، تقياً، كريماً...إلخ. ومن ثم صار فاضلاً على الدوام. والفضيلة لا تتجزأ ولا ينفصل فيها القول عن الفعل، أو المعرفة عن السلوك(30). وقد برهن سقراط في كل مواقف حياته وحتى في مماته على كل ذلك. فكانت أحداث حياته مرآه فضيلته، وهى في ذات الوقت فلسفته الأخلاقية التي أثرت أبلغ تأثير في كل تاريخ الفلسفة الأخلاقية اللاحقة.
ولا شكَّ أن دعوة تلميذه أفلاطون إلى إدراك (المثال) الأخلاقي فيما عرف لديه بمثال (الخير) كانت امتثالاً لمقولة سقراط: (إن الفضيلة معرفة)؛ فالخير الحقيقي واحد وإن تعددت صوره في حياتنا الأخلاقية. لقد تحدث أفلاطون كثيراً في محاوراته المختلفة عن الفضائل التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان في حياته الفردية حتى تتحقق العدالة داخل نفسه بأن تقوم بكل وظائفها: (الشهوة، الغضب، التفكير) متحلية بفضائلها: (العفة، الشجاعة، الحكمة)، أو في حياته الاجتماعية والسياسية؛ لأنه إذا ما تحققت العدالة داخل النفس، نفس كل فرد في الدولة، فهي حتما ستتحقق داخل الدولة بأن يقوم الفرد بما عليه متحلياً بالفضيلة التي تتناسب مع وظيفة الطبقة التي ينتمي إليها. فإن كان من طبقة المنتجتين تحلى بفضيلة العفة، وإن كان من طبقة الجند تحلى بفضيلة الشجاعة، وإن كان من الحكام تحلى بفضيلة الحكمة(31).
أقول: رغم أن أفلاطون أكثر الحديث حول هذه الفضائل في محاوراته المختلفة -وخاصة محاورة (الجمهورية)- فإنه قد اختتم فلسفته الأخلاقية في محاورة (فيليبوس) بالحديث عن (الخير الأقصى) للإنسان، معتبراً أن الحياه الأصلح والأمثل للإنسان لابد أن تكون مزيجاً من حياة الحكمة واللذة بشرط أن يسود العقل الحياتين معاً؛ لأنه هو مبدأ التقييم والإدراك كما أنه مبدأ الاختيار والصلاح32. إن الخير الأقصى للإنسان عند أفلاطون ليس في العلو المطلق عن كل ما هو محسوس مثير للذة؛ بل يبدأ من البُعد عن الانخراط في هذه اللذات، ثم التطهر عن طريق محبة العلوم والفنون الراقية التي تثير في النفس نشوة الانسجام والتطلع إلى السماء، ثم الانتقال بعد ذلك إلى إدراك المثل، ومن ثم معرفة حقائق الموجودات.
وبالطبع فقد واصل أرسطو طريق كل من سقراط وأفلاطون في البحث عن الخير الأقصى للإنسان. لكن بحثه عن ذلك الخير الأمثل تميز بمنحى واقعي واضح، عبر عنه محاولته البدء بمنهج استقرائي يبدأ من رصد تصورات الناس العاديين عن الفضيلة والسعادة واختلافهم حولها، فهناك من يرى الفضيلة والسعادة في اللذة الحسية، وهناك من يرى أنهما في الجاه والثروة، وهناك من يرى أنهما في السلطة وتقلد المناصب العليا..إلخ.
لكن أرسطو سرعان ما عاد إلى اتباع منهج سقراط وأفلاطون في التأكيد على أن الفضيلة معرفة، وأن هذه المعرفة تبدأ بمعرفة أن جوهر النفس الإنسانية هو العقل، ومن ثم فإن فضيلة الإنسان تبدأ من تحكم الجزء العاقل من النفس في الجزء غير العاقل. وعلى ذلك عرف أرسطو الفضيلة الأخلاقية بأنها تكمن في (إدراك الوسط بين طرفين كلاهما رذيلة)(33)، ومن ثم فالفضيلة غالباً ما تكون وسطاً بين طرفين مرذولين؛ فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والكرم وسط بين البخل والإسراف. وسلوك طريق الفضيلة بهذا المعنى يقتضي -إلى جانب المعرفة بحقيقة الفضيلة- الإصرار على دوام واستمرار السلوك الفاضل عن إرادة واختيار(34).
وقد نبه أرسطو إلى أن ثمة فضائل لا تقبل أن تكون أوساطاً لرذائل؛ حيث إن الصدق على سبيل المثال هو ضد الكذب. وليس وسطاً بينه وبين رذيلة أخرى. كما أنه ثمة رذائل لا يصح أن تكون أطرافاً لفضائل كرذيلتي القتل والزنى، وكلاهما رذيلة لا يصلح أن نتوقع أن تكون طرفاً لفضيلة ما(35).
وإلى جانب تلك الفضائل الأخلاقية سواء أكانت وسطاً بين رذيلتين أولا تقبل ذلك، فإن أرسطو قد اكتشف أن ثمة فضيلة للعقل بما هو كذلك، تلك هي ما أسماه (الفضيلة النظرية) أي فضيلة التأمل؛ فوظيفة العقل المُثلى ليست هي فقط التحكم وتوجيه الجزء غير العاقل من النفس؛ بل وظيفته الأسمى والأفضل والأرقى هي تأمل حقيقة هذا الوجود واكتشاف علله الأولى والتوصل إلى ماهيته. لقد قال أرسطو -متجاوزاً بذلك أستاذه أفلاطون في مثاليته الأخلاقية-: إن الخير الأقصى للإنسان أن يعيش وفقاً لفضيلة عقله النظري، أي يعيش حياه التأمل؛ فبالتأمل تكتمل فضيلة الإنسان بما هو كذلك، وبه يتشبه الإنسان بالإله، وبه يتحقق استقلاله وحريته عن العالم الخارجي وعن الآخرين(36).
أما فلسفات عصر ما بعد أرسطو، فقد تركزت بالفعل حول الأخلاق الإنسانية، وركزت أبحاثها حول الطريقة المثلى لتحقيق السعادة في عصر الإمبراطوريات الضخمة، وهو عصر تميز بالاضطرابات السياسية والصراعات العسكرية فيما بعد الإسكندر الأكبر، عصر انهارت فيه النظم السياسية المرتبطة بما كان يعرف بنظام (دولة المدينة)، وضاعت فيه إمكانية المشاركة السياسية التي كانت تمثل الفضيلة الحقة للمواطن اليوناني.
ولذلك فقد اختلفت الفلسفات الأخلاقية في هذا العصر، حيث دارت فلسفات الأبيقوريين والرواقيين حول التماس أسباب السعادة من داخل النفس ذاتها، وليس من ارتباط الإنسان بمجتمعه والمشاركة في سياسته.
أما طريق السعادة الذي دعت إليه الأبيقورية فهو يبدأ من التسليم بأن من الطبيعي للإنسان أن يتجه في سلوكه إلى كل ما هو لذيذ، وأن يبتعد عن كل ما هو مؤلم. ومن ثم فقد وحد الأبيقوريون بين السعادة واللذة؛ ولكن للذات عند أبيقور تصنيف ينبغي فهمه؛ فهناك لذّات طبيعية وضرورية كالأكل والشرب والنوم، وهناك لذات طبيعية وليست ضرورية كاللذة الجنسية، وهناك لذات لاهي طبيعية ولا ضرورية مثل الرغبة في أكلة معينة أو في وظيفة عليا معينة. إن اللذة المقصودة لدى أبيقور هي اللذات الطبيعية الضرورية؛ أي على الإنسان أن يكتفي بما هو ضروري من اللذة، والاكتفاء بما هو ضروري يعني ما يغيب معه الألم الجسماني الناتج عن الجوع أو العطش مثلاً، فكأن اللذة التي يدعو إليها أبيقور هي بمعنى تغييب الآلام الجسمانية، وعلى الإنسان أن يزهد فيما يزيد على ذلك.
وقد برع أبيقور حينما أكد على أن آلام النفس أشنع من آلام الجسد، ومن ثم أولى أهمية للتخلص منها أيضاً، واستخدم في ذلك فلسفته المادية داعياً إلى ما أسماه الأتراكسيا (أي الخلو من الهموم والآلام)، فلا داعي للخوف من الموت؛ لأنه انعدام الإحساس، ومن ثم فلن نحس معه لا بألم ولا بلذة، ولا داعي لأن نخشى المصير وعذاب الآلهة؛ لأنه مما سيسعد الآلهة أن ترى الإنسان سعيداً، ولن يزيد من سعادتها أن تعذبه أو تراه متألماً في حياته الدنيا. وهكذا حاول أبيقور تخليص الإنسان من كل أمراضه الجسمانية والنفسية معاً داعياً إياه أن يعيش حالة من الطمأنينة الداخلية.
وهكذا حاول أبيقور تخليص الإنسان من كل آلامه الجسمانية والنفسية معاً داعياً إياه أن يعيش حالة من الطمأنينة الداخلية والسعادة الصافية(37).
أما فلاسفة الرواق فقد قدموا طريقاً آخر للسعادة يستند على مبدأ العيش وفقاً للطبيعة الخارجية والطبيعة الإنسانية؛ أما الطبيعة الإنسانية فتعني العيش وفقاً للعقل الذي تميز به الإنسان عن الموجودات الطبيعية الأخرى. ومن واجب الإنسان أن يفهم الطبيعة ويفسر ظواهرها لا ليقهرها ويعتدي عليها بل ليتوافق معها. لقد دعا الرواقيون إلى احترام الطبيعة والتعاطف معها كما تتعاطف هي مع الإنسان. لقد قال أحدهم: (إن أعين السماء تتلألأ بالدموع لمصائب الإنسان).
ومن قلْب هذه الدعوة -للتعاطف بين البشر والطبيعة- دعا الرواقيون إلى التعاطف بين البشر وإلى الأخوة العالمية؛ فالبشر عندهم متساوون بالطبيعة، ومن ثم فالجميع إخوة أياً كان موقعهم الجغرافي، وأياً كانت أجناسهم وألوانهم ومكانتهم الاجتماعية، فالكل إخوة متساوون، ومن ثم ينبغي أن يتعاطف الجميع مع الجميع(39).
وهذه الدعوة إلى التعاطف بين البشر لم تتعارض لديهم مع إيمانهم بضرورة أن يحيا الإنسان حياة الأباثيا (أي الخلو من الهموم والانفعالات). فالإنسان الحكيم -وإن شارك الناس أحزانهم وآلامهم- يستطيع أن يحافظ في قرارة نفسه على اتزانه وسكينته الداخلية؛ وذلك لأن الحكيم هو من يدرك أن هذه المصائب التي تمر بنا ليست شراً في ذاتها، وإنما الشر هو في حكمنا عليها بأنها شر. فكل ما يحدث إنما هو قدر إلهي مكتوب، وكل ما يأتينا من الآلهة خير وليس شراً في ذاته. فموت الصديق ليس إذن شراً في ذاته لأنه قد أدى دوره في هذه الحياة، وكما أننا لم يكن لنا يد في وجوده فلا يصح أن نتألم أو أن نضيق برحيله(40).
إن الرواقيين يؤمنون كذلك بأن لكل منا دوراً ينبغي أن يؤديه طبقاً لمبدأ الواجب؛ فكل منا قد وجد في هذا العالم ليؤدي دوراً مرسوماً بعناية سواءً أكان عبداً أو وزيراً أو ملكاً، وعليه أن يؤديه بإيجابية؛ فمع إيمانهم بالقدر خيره وشره وبضرورة الاستسلام للقدر فإنهم يؤمنون في ذات الوقت بضرورة أداء الدور كما ينبغي أن يؤدي من إنسان يعرف واجبه جيداً؛ فهذا أحدهم الذي كان عضواً بمجلس الشيوخ وطلب منه الإمبراطور ألا يحضر إحدى الجلسات، فقال له الرواقي: كان بإمكانك أيها الإمبراطور ألا تجعلني عضواً بالمجلس، ولكن مادمت عضواً به فمن واجبي أن أحضر. ولما أرسل له الإمبراطور رسالة أخرى قال فيها: فلتحضر لكن لا تتحدث، رد عليه قائلاً: لا تسألوني رأيي وأنا أصمت. ولما ضاق به الإمبراطور أرسل إليه رسالة أخيرة تهديدية جاء فيها: إن قلته سأقتلك، إذا بهذا الرواقي الذي لا يثنيه أي شيء حتى الموت عن أداء واجبه، إذا به يرد قائلاً: ومتى قلتُ: إني خالد، أنت تؤدي دورك وأنا أؤدي واجبي(41)!
هكذا كانت صلابة الرواقي في أداء واجبه مهما كانت النتائج. لقد عاش الرواقيون فلسفتهم والتمسوا سعادتهم من داخل أنفسهم، وليس من الظروف الخارجية أياً كانت مقلقة أو مؤلمة.
رابعاً: الإنسان والمجتمع المدني:
اتسمت الحضارة اليونانية بسمات جعلتها تتفرد عن حضارات الشرق القديم بالاهتمام بالفكر السياسي وتطويره بسرعة، تحول معها النظام السياسي اليوناني في كل دول المدن اليونانية من نظام الحكم الأرستقراطي التقليدي إلى النظام الديمقراطي؛ فلقد ابتدع اليونانيون النظام الديمقراطي في الحكم. وقد ولد هذا النظام من رحم اختلاف أهل أثينا حول تشريعات زعيمهم صولون؛ حيث انقسموا إزاءها إلى ثلاث أحزاب لم يوافق منهم عليها إلا حزب واحد. ولما انتصر حزب الأغلبية بقيادة بيزستراتوس بدأت تتوالى الحكومات وتتجدد التشريعات حتى تبلورت الصورة المثلى للديمقراطية، من مجلس يضم كل المواطنين الأحرار هو الجمعية الشعبية، إلى حاكم يختار من بين أفراد الشعب بصورة مباشرة، إلى نظام قضائي للفصل في المنازعات(42). وقد تدعمت الديمقراطية أكثر وأكثر عبر فلسفة السوفسطائيين الذين اعتبروا أن الفرد وحدة سياسية مستقلة، ومجدوا حريته ومشاركته السياسية، بل نادوا بالمساواة بين البشر فالبشر بالطبيعة متساوون، والعبد ليس إلا عبداً بالاسم(43).
ورغم أن فلسفات كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو قد جاءت مناوئة للديمقراطية بوجه عام، فإنهم قدروا فيها الحرية التي يتمتع بها المواطنون في ظلها؛ فعلى الرغم من أن فلسفة أفلاطون السياسية المثالية نادت بالحاكم الفيلسوف في (الجمهورية) وبحكم القانون في (القوانين) فإن أفلاطون حرص في مدينتيه المثاليتين على أن يقوم كل فرد بوظيفته حسب مؤهلاته وحسب تدرجه في النظام التعليمي، وأن تحافظ له الدولة على هذه الوظيفة حسب هذه المؤهلات والقدرات. فالحرية الفردية هنا عند أفلاطون ارتبطت بأداء مهام الوظيفة على الوجه الأمثل، أي أنها ارتبطت بمسئولية الفرد الاجتماعية والسياسية. فليس حراً من يعمل خارج النظام، وليس مواطناً من لا يراعي حقوق الآخرين، ومن لا يتقن أداء وظيفته، سواءً كان من طبقة المنتجين أو من طبقة الجند أو من طبقة الحكام. فالكل يؤدي دوره في خدمة المجتمع المدني ولصالح الجميع. وهذا هو المجتمع السياسي الأمثل عند أفلاطون، سواء في مجتمع (الجمهورية) الذي يحكمه حكومة الفلاسفة، أو الحاكم الفيلسوف، أو في مجتمع (القوانين) الذي يحكمه الدستور ومجلس حراس الدستور رغم الاختلاف في التفاصيل والأسس التي يقوم عليها المجتمع الأمثل في كليهما(44).
والحقيقة أنه رغم أن أرسطو قد شارك أستاذه أفلاطون اهتمامه ببناء مجتمع سياسي أمثل في الكتابين الرابع والخامس من كتاب (السياسة)، فإن مسحة واقعية قد ميزت فلسفته السياسة عبر الفصول الأخرى من هذا الكتاب؛ حيث قدم لنا أرسطو تحليلاً رائعاً للفرق بين الدولة والحكومة، وكشف لأول مرة في تاريخ الفكر السياسي عن أن الدولة هي (مجموع المواطنين)، وأن الحكومة (مجرد هيئة من هيئات الدولة)(45)، ثم بحث في أنواع الحكومات مميزاً بين أنواعها على أساس مدى حرصها على خدمة مواطنيها، فإن كانت غايتها كذلك صارت حكومة صالحة، وإن خالفت ذلك واتجهت إلى تحقيق مصالح أفرادها كانت حكومة فاسدة؛ فالملكية تصير طغياناً، والأرستقراطية تصير أوليجاركة (أي حكومة للأغنياء الطماعين)، والديمقراطية تصير ديماجوجية (أي حكومة فوضى)(46).
وقد نادى أرسطو بنظام جديد للحكم سماه البوليتيا (أي الحكومة الدستورية) التي تحكم أفرادها بموجب القانون على أن يكون أفرادها من الطبقة الوسطى التي لا مطمع لأفرادها في كنز الثروات، كما أنهم ليسوا محرومين منها وهم عادة ما تكون غايتهم المعرفة والعلم والعمل لصالح الآخرين في المجتمع السياسي(47).
وقد برع أرسطو حينما كشف لأول مرة عن ضرورة الفصل بين هيئات الدولة الثلاث: الهيئة التشريعية التي اعتبرها (السيد الحق للدولة)، والهيئة التنفيذية التي قصر وظيفتها على الالتزام بتنفيذ ما تمليه عليها الهيئة التشريعية التي أوكل إليها مراقبة أداء السلطة التنفيذية ومحاسبتها،والهيئة القضائية التي تحدث فيها عن محاكم نوعية لكل نوع من المنازعات التي تنشب بين الأفراد في المجتمع السياسي(48).
كما برع كذلك في الكشف لأول مرة أيضاً عن الارتباط بين الاقتصاد والسياسة، وميّز بدقة بين الاقتصاد الحقيقي -الذي يقوم على وسائل الكسب الطبيعية كالزراعة والرعي والصيد- والاقتصاد المزيف (الكريماتيكا) الذي يقوم على التعامل بالنقود والتجارة المؤدية إلى الاحتكار(49).
ومع ذلك فلا تخلو فلسفة أرسطو من آراء تستحق وقفة نقدية؛ حيث إن بها ما يتعارض حتى مع رؤيته الفلسفية العامة، مثل نظريته في الرق، تلك النظرية التي أباح فيها الحرب (لاصطياد الأرقاء) بحجة أن الرقيق يعد في رأيه عنصراً أساسياً من عناصر تكوين الأسرة إلى جانب الرجل والمرأة، فهو يمثل الآلة الحية التي تستخدمها ربة المنزل في تحصيل الأقوات الضرورية لقوام الأسرة والقيام بالصعب من الأعمال. إن هذه النظرية في تبرير الرق تتناقض مع رؤيته لماهية الإنسان بأنه الكائن العاقل!! وكذلك يستحق النقد تلك الإجراءات التعسفية التي طالب بها في حال زيادة عدد سكان المدينة المثالية عن العدد المطلوب؛ حيث نادى بإجهاض الحوامل وإعدام المشوهين؛ إذ لا شكَّ أن هذه الإجراءات تمثل وصمة عار في جبين أرسطو! لقد تناسى أرسطو أن قتل الجنين يعني قتل إنسان لا ذنب له، وأن الإنسان المشوه هو إنسان له كل الحقوق ويملك نفساً جديرة بالاحترام(50)!
وقد جاءت فلسفات العصر الهللينستي السياسية وخاصة فلسفة الرواقيين على عكس فلسفة كل من أفلاطون وأرسطو، تنادي بالأخوة العالمية، ومن ثم بالدولة العالمية؛ إذ أكد زينون -مؤسس الرواقية- أن الدولة المثالية هي الدولة العالمية، وأن الرعوية للناس جميعاً؛ إذ ينبغي أن يخضع البشر جميعاً لنظام تشريعي واحد يقره المنطق والعقل، ويلغى فيه نظام الرق ويتساوى في ظله المرأة والرجل في الحقوق والواجبات، ولا يتمايز في ظله عنصر على آخر، ولا فرد على آخر إلا بالعمل الصالح الذي هو حصيلة العقل الذي يتوافق فيه ما هو إنساني مع ما هو إلهي(51). وقد عبر آخر الرواقيين الكبار ماركوس أوريليوس -الذي رأس الأمبراطورية الرومانية في القرن الثاني الميلادي- عن كل ذلك حينما نجح في صياغة فكرة وحدة الكون السياسية والتشريعية، على أساس أنه من الطبيعي أن يؤمن جميع البشر، أو على الأقل يمكنهم الاتفاق على قانون عام مشترك بين الجميع يجعل منهم إخوة مواطنين، وأعضاء في جماعة سياسية واحدة هي العالم بأسره(52).
وقد بلور شيشرون المفكر الروماني العظيم هذه الرؤية الرواقية حول الدولة بقوله: إن الدولة هي (مصلحة الناس المشتركة)؛ فالدولة لديه كانت أشبه بمؤسسة مساهمة، مواطنوها أعضاء في هذه المؤسسة. وهذه الدولة المؤسسة تقوم بتزويد أعضائها بثمرات المساعدة المتبادلة والحكم العادل. فالدولة وقانونها هي ملك لجميع الناس، وسلطتها تنبثق من قوة الأفراد مجتمعين. وقد اعتبر شيشرون أن الدولة نفسها -بما في ذلك قانونها- تخضع دائماً لقانون الإله، أو القانون الأخلاقي، أو القانون الطبيعي الذي يعلو بالحق على التصرفات البشرية والمنظمات الدنيوية(53).
لقد نادى الرواقيون إذن بدولة عالمية واحدة تخضع لقانون واحد، هو في الأساس ذلك القانون الإلهي الذي يرعى فيه الإله البشر، ويتساوى في ظله الجميع وتتحقق بموجبه العدالة بينهم ويضمن السعادة للجميع.