شرقي عبد الباسط
تم نشر المقال في مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث
يعتبر حقل الذهنيات ذا أهمية بالغة في الدراسات التاريخية المعاصرة، خاصة مع إصدار الكتاب الجماعي بإشراف جاك لوكوف، حول التاريخ الجديد، والذي أفرد فيه مقالاً حول تاريخ الذهنيات[1]، وذلك لما لهذه الأخيرة من أهمية في رصد تطور المجتمعات الإنسانية[2]؛ فمن المعروف أن الاقتصادي والسياسي يتغير في مرحلة أولى، ثم يتبعه ما هو اجتماعي، ليبقى ما هو ذهني في الأخير عصيا عن التغيير، إلا بمرور فترات طويلة؛ لذلك يعتبر "الزمن الطويل" أنسب الأزمنة لمقاربة ما هو ذهني.
من هذا المنطلق تتبين أهمية الذهنيات، من حيث كونها أنسب الوسائل لملامسة صدى حضور التاريخ في الحاضر، من خلال الأشكال الذهنية المخترقة للزمن. من هذا المنظور، يمكن القول إن تاريخ الجزائر زاخر بالمادة الخام للتغلغل في هذا النوع من التاريخ، نظراً لتقاطع ظواهر اجتماعية وإنسانية توفر لنا معطيات في هذا الصدد، إذ تعد الفترة الاستعمارية في بلاد الجزائر معطى أساسياً، يبرز لنا سيرورة عقليات الإنسان الجزائري والعربي بصفة عامة. لهذا يعتبر موضوع التدين وعلاقته بالذهنيات من المواضيع المهمة التي لم تلق مجالاً واسعاً للدراسة، وخاصة في الفترة الاستعمارية لمعرفة كيفية استقبال الجزائريين للاستعمار، وتبيان مدى مواكبة عقلياتهم لعقلية الأجانب.
وبهذا خلّف حدث استعمار الجزائر سنة 1830، من جملة ما خلّف، نشأة نواة فرنسية للدراسات الأنثروبولوجية، تدعمت بعد استعمار تونس (في 1881)، ثم المغرب الأقصى (1912). وقد ركّزت هذه النواة التي تسمى عند البعض بالمدرسة الأنثروبولوجية الاستعمارية، على المظاهر المجتمعية غير المألوفة والخارقة للعادة، من منظور المستوطنين الأوروبيين، ومن زاوية الذهنية الغربية، فكانت ظواهر الأعراف المحلية، وأنواع الجريمة والعقاب، وضروب السحر والشعوذة، مجلبة لفضول المستكشفين والدارسين. هذا ولا بد من التأكيد على أنّ المدونة الاستعمارية والجبائية، هي بطبعها قاصرة عن توفير مادّة للتبحّر في عالم التدين الشعبي والصوفي الذي انتشر ببلاد الجزائر خلال العصر الحديث؛ فكان اللجوء إلى تاريخ المناقب الذي يتطلب سلاحاً نقدياً ثاقباً، أو إلى الأدب الأنثروبولوجي الاستعماري، الذي قدّم لنا نصوصاً مسكونة، في الغالب الأعمّ، بهاجس النزعة المركزية الأوروبية. وقد انصبّ معظم المدونة الإثنوغرافية على مظاهر التدين الشعبي والصوفي[3]، وتبحّر باحثو الإناسة في دراسة عالم الصلحاء والمرابطين والإخوان، وخلّفت هذه المعاينات الأنثروبولوجية، وهذه البحوث الميدانية مجموعة من الدراسات النادرة التي أسهم في إنتاجها أكاديميو القرن التاسع عشر، وعسكريوه ومستكشفوه، والذين هيأوا المجال بدراساتهم هذه لفقهاء القضاء[4]، ورجال السياسة، وتقنيي الأمن، لمزيد فهم طرق "تسيير" تلك المجتمعات المستعمرة، وسبل إخضاعها بحنكة، وحكمها بيسر.
من هنا، نفهم غنى هذا المجال الذي زخر بدراسات تساير تلك الذهنية، انطلاقاً من استكشاف تاريخ الجزائر، وعادات أهلها، وطرائق تفكيرهم وعلاجهم، وغيرها من الموضوعات التي تنصب في مجال هذه الدراسة. وبالتالي، يمكن القول إن الموروث الثقافي والديني الجزائري هو بمثابة شاهد على ذهنية المجتمع الجزائري، وأن الفترة ما قبل الاستعمارية تعد مجالاً مهما لدراسة هذه الذهنية، انطلاقاً من انتشار الزوايا والمتصوفة التي كانت لها سلطة القرار داخل منظومة الحكم في الجزائر؛ فالمعتقدات التي كانت سائدة داخل هذه المنظومة، توضح لنا مدى تخبط المجتمع الجزائري في المسلمات والغيبيات، وحذره من كل ما هو أجنبي.[5] وكنتيجة لهذه الأمور، نتجت عنها طقوس وتقاليد متقوقعة على ذاتها. ويتبين من هذا الأمر، مدى تشبث الجزائريين بالأولياء والصلحاء والسحر والشعوذة في معالجتهم للأمراض. والسبب في كل هذا، هو عجز المجتمع عن مواكبة تقنيات التطبيب الحديثة.[6] والواقع، أن المشكلة أكبر من ذلك بكثير، لأنها تمس جميع مظاهر الحياة الاجتماعية التي غلب عليها التقليد.
الذهنية الجزائرية إبان الفترة الاستعمارية (إشكالية الاستمرارية):
ظلت هذه الممارسات سائدة في المجتمع الجزائري، إذ ازدادت انتشاراً بازدياد الأضرحة والأولياء والزوايا التي أُثرت في المجتمع وعقليته، وعند مجيء المستعمر أحدث صدمة في صفوف المجتمع[7]، وأبانت عن مظاهر الخلل في تلك المنظومة، وعن تجذر العقلية القديمة في المشهد المجتمعي الجزائري، انطلاقاً من مسألة[8] "دار الكفر ودار الإسلام"، حيث استغلت الزوايا هذا المعطى، واستثمرته لصالحها من أجل طرد الاحتلال، باعتباره فيروساً يهدد الإسلام، حسب تصوراتهم. ورغم مجيء المستعمر بتقنيات حديثة، ظلت بنيات المجتمع كما هي، وهذا ما يشير إلى التناقض بين نظام محلي عتيق، ونظام فرنسي حديث، من خلال عدة أمثلة (تناقض الطب التقليدي والطب العصري)، (تناقض في التقنيات الحديثة والعصرية، وبين ما هو تقليدي ويدوي).كل هذه الأمور، انعكست على البنيات المجتمعية والعقلية للمجتمع الجزائري، إذ حرم الفقهاء التعامل مع الأجنبي باعتباره كافراً. ولهذا، لم تستوعب العقلية الفقهية الجزائرية التقنيات الحديثة الفرنسية، وظلت حبيسة نفسها، ولم تواكب التقدم والتطور.
ومن هنا، انبثق صراع الوصايا الفقهية والوصايا الدنيوية، في مجالات عديدة؛ فعلى سبيل المثال، كان المجتمع الجزائري لا يلتجئ إلى الطب العصري في العلاج، ويكتفي بالطب التقليدي، أو ما يدخل في مجال الشعوذة والسحر؛ لقد مارس الفقهاء وصايتهم على المجتمع، بعدم التعامل مع الاحتلال ومنظوماته المتعددة، رغم بروز تيارات إصلاحية واندماجية تدعو للتعامل مع المستعمر[9]. هذا ما يوضح انقسام البنيات المجتمعية في الجزائر، في الفترة الاستعمارية بين الداعي للاندماج مع فرنسا ومواكبة ما هو عصري، وبين الداعي للإصلاح انطلاقا من الرجوع إلى السلف الصالح، والإبقاء على كل ما هو تقليدي، وعدم التعامل مع "العدو".
وتجلت تمثلات المجتمع الجزائري في مجموعة من الظواهر، يمكن اختزالها في الطقوس السحرية والعادات والتقاليد، التي تدخل في بوابة الإيمان بالمسلمات والغبيات؛ منها على سبيل المثال، ثقافة المرض عند الجزائريين، باعتبار العين والآخر مصدرًا للداء؛ فالعين كانت تعتبر أداة شريرة، تصيب الآخر بأذى في حالة الإعجاب بشيء ما. ويُوصَف صاحب هذه العين "بالمعيان"[10]، لأنه خطير (ذو العينين الغائرتين مع التقاء الحاجبين عند جذر الأنف).
ومن الأمور الأخرى، التبرك بالأولياء والصلحاء، وما يرافقه من طقوس عديدة. ولذلك، يمكن القول إن هنالك تعدداً في هذه التمثلات التي توضح لنا ذهنية المجتمع الجزائري بكل بنياته الأساسية.
لقد استمرت هذه الذهنيات حتى بعد فترة الاستقلال[11]. وبناءً على ذلك، يمكن التطرق لإشكالية (الذهنية الجزائرية وسؤال الاستمرارية)، إذ رغم مجيء المستعمر ظلت كما هي؛ وهذا ما يبين أن الوصايا الفقهية كانت ذات تأثير قوي في عقلية الإنسان الجزائري، شحنته بالمسلمات، ومنعته من الانفتاح على التقنيات والثقافات الأخرى.
وخلاصة القول، إن تاريخ الذهنيات يعد من الحقول المعرفية المهمة التي تمكن من فهم المجتمع وعاداته وتقاليده وسلوكياته في الزمن الطويل. وهذا الفهم لا يتأتى إلا بالانفتاح على العلوم الإنسانية الأخرى، كالأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، والاحتكاك بنتائج أبحاثها.[12]
المصادر والمراجع المعتمدة:
-أبو القاسم سعد الله، آراء وأبحاث في تاريخ الجزائر، منشورات دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى،1996، بيروت، الجزء3
-ابن عثمان حمدان خوجة، المرأة، تقديم وتعريب وتعليق محمد الزبيري، منشوراتANEP، الجزائر،2005
-حبيدة محمد من أجل تاريخ إشكالي، منشورات جامعة ابن طفيل- كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2004
-راجعي مصطفى، التدين وجودة الحكامة في الجزائر دراسة مسحية- اجتماعية، منشورات دار حامد، الطبعة الأولى، الجزائر، 2014
-الطيبي محمد، الجزائر عشية الغزو الاحتلالي دراسة في الذهنيات والبنيات والمآلات، منشورات دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، الجزائر، 2010
-لوكوف جاك، التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، منشورات المنظمة العربية للنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2007
المراجع الأجنبية:
-Basset Ren, Recherches sur la religion des Berbères, Paris, Leroux, 1910
-Doutte Edmond, Magie et Religion en Afrique du Nord,Alger, 1909
-Rinn Louis, Étude sur l’islam en Algérie, Alger ,1884
[1] جاك لوكوف، التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، منشورات المنظمة العربية للنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2007، ص 279
[2] نفسه، ص 306
[3] Louis Rinn, Étude sur l’islam en Algérie, Alger, 1884, p 90
[4] Ren Basset, Recherches sur la Religion des Berbères, Paris, Leroux, 1910, p 66
[5] محمد الطيبي، الجزائر عشية الغزو الاحتلالي دراسة في الذهنيات والبنيات والمآلات، منشورات دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، الجزائر، 2010، ص 45
[6] Edmond Doutté, Magie et Religion en Afrique du Nord, Alger, 1909, p 90
[7] محمد الطيبي، ن م، ص 145
[8] مصطفى راجعي، التدين وجودة الحكامة في الجزائر دراسة مسحية-اجتماعية، منشورات دار حامد، الطبعة الأولى، الجزائر، 2014، ص 85
[9] سعد الله أبو القاسم، أراء وأبحاث في تاريخ الجزائر، منشورات دار الغرب الإسلامي،بيروت، الطبعة الأولى، 1996، الجزء 3، ص 78
[10] E. Doutté, op. cit., p 320
[11] حمدان بن عثمان خوجة، المرأة، تقديم وتعريب وتعليق محمد الزبيري، منشورات ANEP، الجزائر، 2005، ص 65
[12] محمد حبيدة، من أجل تاريخ إشكالي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة، الطبعة الأولى، 2004، ص 13