[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]لقطات من سيرة ذاتية / علمية
محمد مهران(*)
لا ادري كيف نشأ هذا الخاطر فى نفسى . فمنذ إدراكى لما حولى ولمن حولى أيقنت بأنى لاأصلح لمهمة الفلاحة .استغفر الله :أنا أعشق الأرض وأحترم من يعمل على زراعتها والتعامل معها ،بل إننى متيم برؤية النبات والأشجار وألحشائش ،وأحس بنفسى أتمايل مع تمايل الأغصان ،وأسمع نفسى أغنى مع حفيف أوراق الشجر ،ولعل أسعد أوقاتى تلك التى أقضيها ناظراً إلى الزروع ،أو ماشياً فيها تداعبنى وأداعبها فى موقف يتخطى الزمن ويتوقف فيه سيره ومسيره ،ومع هذا كله لاادرى لماذا ايقنت منذ لحظات التفتح للحياه اننى لأاصلح لفلاحة الأرض. وكم حاولت ايجاد مسموع عقلى لهذا الخاطر دون جدوى .
ولعل هذا ما يفسر أصرارى الغريب على ذهابى إلى كتاب القرية الذى يبعد عن منزلنا مسافة ليست بالقصيرة بحساب طفل لم يتعد الثالثة او الرابعة من عمره . وانا مازلت أكن للشيخ عبد الغفار بالفضل فى تعليمى القراءة والكتابة ، وحفظ القرأن الكريم كله وأنا دون العاشرة ، وكان نظام الكتاب كما وضعه الشيخ عبد الغفار ينطوى على ثلاث فترات للدراسة. الفترة الصباحية وتبدأ فى الصباح الباكر قبل طلوع الشمس وتستمر حوالى ساعتين وبعد تناول الإفطار نعود إلى فترة الظهيرة التى تبدأ من العاشرة صباحاً حتى أذان الظهر ، وبعد الغذاء نعود إلى الفترة الثالثة من بعد صلاة الظهر بساعة لتنتهى بعد صلاة العصر. اما عن برنامج التعليم فكان يبدأ بتعليم الحروف الأبجدية أ، ب، ت ......
وبعد أجادة هذه الحروف نطقاً وكتابة ، تبدأعملية "تشبيك " الحروف زوجيا مثل با..بى..يو..الخ وبعد اجادة ذلك يكون التشبيك : ثلاثياً مثل :بان ..بين ..،بون ....،وبعد اجادة ذلك يصل الطالب إلى فريد من تركيب الحروف وقمتها فى "ابجد "، هوز-حطى -كلمن ....وهذا البرنامج قد تستغرق اجادته عاما اواكثر. ينتقل الطالب بعد ذلك ألى حفظ القراءن الكريم وكتابته ،فيبدأ بالفاتحة ثم المعوذتين ..إلى أخر سورة فى التعليم وهى سورة البقرة .
وكانت الوسيلة فى التعليم حتى الجزء الأول من القرأن الكريم يتم عن طريق لوح من الصفيح اللامع يكتب عليه بالحبر الاسود الذى يمحى بخرقه من قماش ( كان يستعاض عن هذه الخرقة بكم الطالب اوما تصل إليه يده من ثوبه ، لذلك كان اتساخ جلباب الطالب بالحبر نوع من الشرف يستحق الفخر والتقدير ). اما فى الاجزاء الاخرى من القرأن الكريم فقد كان يستعان فيها بالمصحف ، فيتم الحفظ مباشرة من المصحف ، ولكن لابد من كتابته ولو مره واحدة على اللوح إو فى كراسات بأقلام الرصاص ، حتى يكون الطالب قد حفظ القرأن الكريم وعرف كيف يكتبه . وكانت هذه المرحلة فى الكتاب هى أخطر مرحلة وأهم مرحلة ، وذلك لانها هى المرحلة المؤهلة للذهاب الى المعهد الدينى بقرية " بلصفوره " التى تبتعد عن قريتي - الصلعا ، التابعه لمركز سوهاج - مديرية جرجا ( والتى أصبحت بعد ذلك محافظة سوهاج ) حوالى ثلاث كيلو مترات ، كما جرة عادة أهل قريتنا . ولكن يبدو أن ثمه تطوراً فى الفكر التعليمى بدأ ينتشر فى تلك الفترة . ففى يوم ، بعد صلا' العشاء أصطحبت والدتى عبر طرقات القريه المظلمة إلى بيت عمتي وسط القرية ، وهناك قابل زوج عمتى - الشيخ تمام والذى فهمت منه أن سنى عشر سنوات وعدة شهور ، وهو سن صغير على قبولي بالمعهد الدينى ، وهو يفضل إن يقدم أوراقى إلى مدرسة ابتدائية فى مدينة سوهاج ( تبعد عن قريتى حوالى خمسة كيلو مترات ) وهذا بناء على رغبة والدتى التى أصرت على مواصلة تعليمى بشكل منظم فى سوهاج
وقد احضرت له بالفعل شهادة الميلاد على أن يستمر فى إجراءات إلحاقى بمدرسة ابتدائية ( حسب النظام القديم ) وقد أقنعت الحاج رشوان أحمد رشوان الذى لعب الدور الرئيسى بعد ذلك فى حياتى بوصفه ولى أمرى وصاحب الفضل الأكبر على ، وكنا نعيش معا فى بيت وأحد مع شقيقى الأكبر ومعنا والدتى ووالدته . وكان يكبرنى بعشر سنوات تقريباً ، فكانت أسرتى مكونه من: ثلاثة أطفال أكبرهم رشوان ( ابن العم ) حوالى عشرين عاماً وشقيقي مصطفى الشهير بمحمود حوالى 14سنة وأنا حوالى عشر سنوات وأرملتين "
وكانت بدايه للأنتظام فى التعليم والأنتقال بين مراحله المختلفة . والواقع انه لم يكن يتصور أحد أن هذا الطفل اليتيم ، الاسمر النحيف ، الذى يعلق لوحا من الصفيح فى رقبته يصل إلى أسفل ركبتة ، وفى يده " دواية " حبر مربوط بها قلم من البوص الغاب والذى يسعى فى أول شعاع من الضوء إلى الكتاب ، ان يصبح يوماً من الأيام أستاذا فى أكبر جامعة عصرية فى مصر - جامعة القاهرة.
كما لم يكن يتصور أحد أن تقود هذه الأم الشابة الجميله ، والتى شاءت الأقدار أن تصبح أرمله فى سن لم يتجاوز الرابعة والعشرين بعد زواج لم يدم أكثر من خمس سنوات ، قضتها زوجة لابن عمها الذى كان يكبرها بأكثر من خمسين سنة وترك لها طفلين صغيرين مع قليل من الافدنة ، رافضه كل عروض الزواج الثانى من شباب هم أفضل شباب قريتنا جاهاً ومالا ، وتحملت بشجاعة قسوة الحياة وتبعات تربية يتمين صغرين . أقول لم يكن أحد يتصور أن تقود هذه الأم التى لم تنل اى حظ من التعليم مسيرة هذا اليتيم التعليمية ، وتصر على أن يتعلم ولو باعت جميع ما ورثناه عن ابينا ، وقد شاءت الاقدار ايضاً ان تعيش هذه الام العظيمة عمراً مديداً لترى نبتها التى زرعته وهو يتحدث فى الراديو ويظهر على شاشات التليفزيون كم كانت فرحتها - أمر لا يمكن تقديره .
قرأت فى إحدى الصحف ذات يوم وأنا فى السنه الأولى الثانوية أن هناك قسماً فى كلية الأدب بالقاهرة يسمى قسم "الصحافة" وكنا نقرأ فى ذلك لكثير من كتابنا المشهورين : العقاد - طه حسين ، نجيب محفوظ ، وانيس منصور ، وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم وغيرهم كذلك كنا نقرأ كتاب الصحافة المرفوقين من امثال: على أمين ومصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل – وغيرهم . كم كنت اتمنى أن أكون يوما ما مثل هؤلاء .. من بدرى ؟ هكذا كنت أقول فى نفسى.
لقد كنا فى هذا المرحلة العمرية مولعين بالقراءة ، وقد كنا مجموعة ن أبناء القرية خمسة أو سته من الشباب الصغار نتعاون ماديا لشراء أحدى الجرائد اليومية ، ونسخة من كل المجلات التى كانت تصدر فى ذلك الوقت وخاصة روز اليوسف وصباح الخير والمصور وآخر ساعة وما يصدر من كتب مثل روايات الجيب وغيرها ، وكانت هذه الاشياء تدور بيننا فى نظام دقيق بالتبادل المنتظم دون قبول اى عذر او استثناء . وقد قرأت قبل الثانوية العامة ( 1957 ) كل ما وقع تحت يدى من كتب العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم واحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله وغيرهم . كما كانت لى محاولات سادجة فى كتابة القصص القصيره والطويلة وكتابة الشعر العمودى . ومازلت اتذكر عنوان قصة طويلة كتبتها متأثرا بأيام طه حسين ولكن بالطريقة التحليلية لمحمد عبد الحليم عبد الله ، وكانت بعنوان "عم الشيخ على" (120 صفحة) ومازلت أذكر بيتين من قصيدة وضعت لها عنوان "لمن لا يعرفنى" قلت فيهما بالحرف الواحد :
متفائل متشائم أبد قوى
ضعيف ، عنيد فى الحياة مطاوع
صاح لا تعجب فتلك فلسفة
فقد يكون الضد فى الضد أروع
وكانت قراءة الشعر إحدى هواياتي المفضلة ، وكنت أتحدى نفسى فى حفظ بعض القصائد من مجرد قراءتها مرتين او ثلاثة على الأكثر ، فكنت احفظ الكثير من القصائد الطوال لأمرىء القيس وعنتره وحسان بن ثابت وابى تمام والبحترى وابى نواس . اما المتبنى فقد كانت له فى نفسى مكانة خاصة فحفظت له أكثر من اى شاعر آخر ومازلت ذاكرتى تحفظ بعض قصائده واجزاء من قصائد غيره ، وبعض قصائد الشعر الحديث : شوقى وحافظ وعبد المطلب وغيرهم ، لكنى فشلت فى حفظ شئ من شعر العقاد .
وجاءت مرحلة التعليم الجامعى لتحقق لى أملا راودنى منذ عرفت ان هناك تعليم الكتاب وبعد الابتدائية والثانوية ، وكان هذا الأمل يقوى ويضعف بتداعيات الأحداث ، فالجامعة وقسم الصحافة – هدفى وطرق نجاة حياتى – مكانها القاهرة ، فاين انا من القاهرة ؟! ولكن فى كل مرة أشعر منها ببعض اليأس ، أجد العزاء لنفسى فى القول : "أصبر .. من يدرى ؟ العبد فى التفكير والرب فى التدبير " .. وقد كان ذلك حقا . فها أنا ذا راكب القطار فى طريقى إلى القاهرة لتقديم أوراقى إلى مكتب التنسيق وقد تم ذلك بالفعل فى يسر بمساعدة أحد أقربائى من الذين نزحوا إلى القاهرة لتصبح مقرهم الدائم مثل كثير من أهل الصعيد بوجه عام .
ووقعت الواقعة حين وصلنى خطاب الترشيح إلى كلية دار العلوم وليس الآداب ، نعم كانت كلية دار العلوم رغبتي الثانية ، وكنت احب اللغة العربية ودراستها ، وكانت المادة التخصصية الإضافية التى درستها فى الثانوية العامة هى اللغة العربية . ولا ادرى حتى هذه اللحظة لماذا لم أقبل فى كلية الآداب . الا أن قريبى سأل عن ذلك فقيل له : السبب هو ضعف درجة اللغة الانجليزية . فضاقت أمامى عين الدنيا بما رحبت واسود نهارها أكثر من ليلها . وصممت بينى وبين نفسى الأ ادخل الا كلية الآداب ، وقسم صحافة ، والا فلا تعليم ولا استكمال تعليم ، وقد اقنعت أخى رشوان بهذا الأمر ، فما كان مني الا ان سحب اوراقى من كلية دار العلوم، وقررت اعادة الثانوية العامة .. ولكن فى القاهرة ، وليس فى سوهاج حتى لا ابتعد مرة أخرى عن كليتى وقسمى المحبب .
وقضيت هذه السنة مع قريبى عبد الله عطية وكان يسكن معه فرغل محمد فرغل ابن عمه وكان يقيمان فى الجيزة ، فالتحقت بمدرسة الاسماعيلية الثانوية الخاصة بالسيدة زينب وحصلت على الثانوية العامة 1958 ودخلت الجامعة ، والتحقت بقسم الصحافة .
وبعد انتظامى ثلاثة اسابيع فى الدراسة قررت ترك قسم الصحافة إلى اى قسم آخر ، ولتلك قصة آخرى . فحولونى إلى قسم اللغة العربية الذى لم احضر فيه سوى محاضرة وحيده فى النحو ، بعدها حولونى بتزمر واضح إلى قسم الفلسفة . وكنت فى الثانوية العامة مولع بالفلسفة والمنطق وحصلت منها على 19.5 من 20 .. ورضيت بالفلسفة قسما وتخصصاً بعد أن أصبح من المحرج ان أطلب تحويلى إلى قسم آخر .
كانت أول محاضرة لى فى قسم الفلسفة عن الفلسفة اليونانية مع استاذنا المرحوم الدكتور أحمد فؤاد الأهوانى ، وكان قصير القامة نسبيا ، يميل الى السمنه ، يتقدمه " كرش " يعطيه مزيدا من الوقار ويميزه فى شكل متفرد ، وكان خفيف الظل ، متميز الالقاء ، واضح العبارة ، وكان موضوع إعجاب من الكثيرين .
وقد تعرفت بعد انتهاء هذه المحاضرة إلى صديقى وزميلى حسن عبد الحميد ( الذى اصبح فيما بعد رئيس قسم الفلسفة بآداب عين شمس ) وكنت اعرفه لما كان وانا فى مدرسة سوهاج الثانوية ، ورغم أنه كان يصغرنى بعام الا اننا تعارفنا فى وقت واحد، ربما لانه كان فى الثانوية فى فريق المصارعة وكنت أنا فى فريق الكرة الطائرة . ولم تمضى أيام حتى رحنا معاً بحث عن سكن مشترك مع بعض الاصدقاء، وقد ظللنا شركاء حجرة واحدة لمدة ست سنوات.
وفى الاسبوع الأول بدأنا نتعرف على اساتذتنا ، وكانت شخصية الدكتور توفيق الطويل قد استحوزت علينا كل مشاعرنا اعجابا به وبطريقته فى القاء المحاضرات ومظهره الشخصى الانيق إلى أبعد حد واسلوبه فى التعامل معنا . فكان استاذا و أبا ومربيا وقدوة لنا جميعا .
وكان الاستاذ الدكتور يوسف مراد من أحب الشخصيات الينا ، وكنا معجبين بصراحته وجرأته فى شرح نظريات علم النفس ، كان استاذا جدير بالاحترام وفى الفصول الدراسية اللاحقة والسنوات التالية تعرفنا على جميع اساتذتنا بالقسم – ا.د. مصطفى سويف بعلمه الدقيق وطريقته الصارمه فى التعامل مع تلاميذه ، كنا نحترمه ولكننا كنا نخافه جداً . والدكتور محمد مصطفى حلمى استاذ الفلسفة والتصوف شخصية فذة من كل النواحى ، حاضر الذهن ، سريع البديهة متميز الالتقاء الذى يذكرك صوته بصوت طه حسين ( الذى اسعدنى الحظ وحضرت له محاضرة فى قسم اللغة العربية ) واذا كان القدر قد سلبه نعمه الابصار ، فقد عوضه بنور البصيرة فكان يتعامل معنا وكأنه يرانا .. كان استاذا وصديقا لكل من يخلص فى صداقته . وقد عرفته اكثر من اى استاذ آخر وذلك بعد تعينى معيدا . وكان الدكتور زكريا إبراهيم من الأساتذة الذين تركوا أثرهم الواضح على عقلى واسلوبى وطريقتى فى الكتابة ، وكان قريبا جداً من قلوب الطلاب وعقولهم سواء فى اتجاهه الفكرى الوجودى أو اسلوبه المتميز فى الكتابة .
اما استاذى زكى نجيب محمود قد دخل علينا ليبهرنا بفكره وطريقته ومذهبه الذى يناصره ، حتى كدنا نتحول جميعا الى ان نكون من الوضعيين المناطقة : فمنطقه واضح ، وادلته التى لا تقبل الرد ، واسلوبه الهادى حينا ، والعنيف احيانا جعلت من استاذنا استاذا بكل المقاييس حتى الذين اختلفوا معه من الطلاب لم ينكروا احترامهم لفكره ومنطقه واسلوبه .
وعرفنا الاستاذ الدكتور محمد عثمان نجاتى استاذ علم النفس الذى كنا نهابه جداً ، ولكن فى النهاية تجد نفسك امام شخصية طيبة إلى اقصى حد ، عملية الى حد كبير ، محترمة إلى حد بعيد . اما عن استاذنا الكبير الدكتور عثمان أمين ، فقد كان محط حبنا وتقدرنا وشوقنا الدائم لسماعة والحديث معه ، لم يكن يلقى محاضرات بالمعنى التقليدى ولكن كنا نخرج ونحن سعداء بما سمعنا ، عرفنا الكثير عن الفلسفة فى لقطات سريعة بين سطور كلماته . ياله من استاذ و إنسان . ولم يسعدنى الحظ ان احضر محاضرات للدكتورة اميرة مطر او الدكتور ابو الوفا التفتازانى . وقد اصبحا بعد ذلك من اقرب الناس إلى قلبى ومن احبهم إلى نفسى .
كما سعدت فى حضور محاضرات لاساتذه من خارج القسم مثل أ.د. نازلى اسماعيل ، و أ.د. فوقية حسين ، و أ.د. اللبان ، والاستاذ محمود الحضيرى ، وكان لكل منهم أثره فى نفسى .
السنا محظوظين فى ان نتتلمذ على يد هؤلاء الاساتذه العظام رواد الفلسفة فى مصر ، وجيل العمالقة فى ميدان الفلسفة ؟!
انتهت مرحلة التعليم الجامعى الأول ، وتم تعيينى معيداً للمنطق بقسم الفلسفة ( ولهذا التعيين قصة أخرى ليس هنا مجالها ) وبدأت صلتى باستاذى زكى نجيب محمود تتوطد وتزداد عمقا ، وبدأ أثره الواضح فى عقلى ونمط تفكيرى دون ان أفقد الشعور بالاستقلال وربما مبدأ الاختلاف .
كان استاذا ومربيا ومرشداً ، ومازل اذكر واقعة حدثت بينى وبين استاذى زكى نجيب محمود ، ومؤداها ان سألنى استاذى ذات يوم عما افعله ولم يمضى على تعيينى سوى شهرين ، فقلت له اننى فى السنة التمهيدية للماجستير واننى اقرأ هذه الايام كتاب (...) ومطلوب منى عرضه فى المحاضرة القادمة ، فشجعنى على أن اقرأ بعمق ولا اتعجل فى الأحكام ، ثم لا بد أن يكون لى موقف مما أقرأ وبعد اسبوع قابلنى فى نفس الموعد وسألنى ما اذا كنت قد انتهيت من قراءة الكتاب ، فلما عرف اننى بالفعل انتهيت من قراءته ، سألنى عن رأيى فى الكتاب ، فشعرت بشئ من الثقة والنشوة ، ورحت أتخذ موقف الناقد والعالم وقلت بلهجة لا ينقصها الصلف : اننى لا حظت بعض السطحية فى بعض اجزاء الكتاب ، وبدت بعض الفصول تافهة و.. وهنا وجدت هذا الرجل الوقور ينتفض ويقف قاذفا نضارته بشئ من العصبية على المنضدة الصغيرة التى كانت امامه صائحا : كفى ... اسكت .. قلت لك اسكت . وسكت وتمنيت لو سكت إلى الأبد ، وتمنيت لو انشقت الأرض وابتلعتني ، واعتدلت فى جلستي وغصت داخل نفسى منكسا رأسى ، والعرق يتصبب من وجهى رغم برودة الجو . وسادت فترة من الصمت كانها الدهر بطوله ، وشعرت بانها النهاية . والتقط أستاذي نظارته وجلس بجانبى ، وقد لاحظ ما أنا عليه من حال لا يحتمل . فوضع يده على كتفى قائلا : ما هكذا ياولدى يكون النقد ، النقد له أصوله وقواعده وأخلاقياته ، ثم راح يشرح لى هذه الاصول والقواعد ويحدد لى أخلاقياته .. وانتهى كلامه بقوله: قل خيرا والا فاسكت . وكان درساً .. لا أنساه .. ولن أنساه .
بدأت التسجيل لدرجة الماجستير ، وكانت فكرة الضرورة المنطقية هو الموضوع الذى اتفقنا عليه مع استاذى . و لا أنكر ان تأثير استاذى على كبير كبير ، فبدأنا نناقش موضوعات البحث من حيث أنواع الضرورة التى سأعالجها فى البحث . ولما كنت اعتقد ، ومازلت – ان انجلترا هى البيئة التى تطور فيها المنطق الحديث ، ولما كانت العقلية الانجليزية تميل إلى النزعة التجريبية ، وتاخذ باتجاه واقعى بالمعنى العلمى لهذه الكلمة ، فقد بدا لى المنطق الرمزى أو الرياضى مجرد لغة علمية للفلسفة التجريبية او الواقعية الحديثة اكثر منه فرعاً مستقلا من المعرفة . فالمنطق الرمزى او الرياضى اذن هو مثل الرياضيات تماما من حيث هو "لغة " للمعرفة العملية والواقعية عموما . وبدا لى أيضا أن هذا ربما يكون هو السبب الذى دفع النزعة المنطقية المعاصرة – اللوجسطيقية . إلى محاولة رد الرياضيات ( الاقل عمومية ) إلى المنطق ( الاكثر عمومية ) ليكون بذلك " لغة " لا للفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم الطبيعية وحدها ، بل لكل معرفة تهدف الدقة و اليقين والعمومية مثل العلوم الطبيعية .
كما بدا لى اننى عرفت سر رفض الوضعية المنطقية للميتافيزيقا الذى اعتبره هروبا من مواجهة المشكلات الميتافيزيقية ، فليس العجز عن التفسير والتعبير عن الشئ ما مكافئا لكونه لغوا لا معنى له – وهو أمر لم يوافقني عليه أستاذي الدكتور زكى نجيب محمود ، وفى مناقشة دارت بيننا بعد ذلك بسنوات ، وكنت فى ذلك الوقت عضو هيئة تدريس ، وظهر كتابى عن "مدخل إلى المنطق الصورى" فتطرقت المناقشة إلى شىء أثار غضب استاذى وقال لى بلهجة العتاب : لقد جئت واشتركت فى مناقشة رسالتك للماجستير رغم انى أحسست أنك فى بعض الأمور تتحدث بشكل معارض لفكرى ، وجاء كتابك ليؤكد هذه الحقيقة حين اتهمت رفض الميتافيزيقا بانه هروب من المشكلة . ولم استطع الرد الا بقولى : شرف لاادعية وتهمة لا انكرها ، على حد قول أحد السياسيين حين وجهت اليه تهمة سياسية .
لقد ارجعت رفض الوضعية المنطقية للميتافزيقا إلى تمسكهم الصارم باللغة المنطقية كما طورها المنطق الرياضى الحديث ، ولما كان من الصعب التعبير عن القضايا الميتافيزيقة بلغة المنطق الحديث قد ساعدهم على رفضها ، وليس معنى ان هناك لغة رمزية رياضية هو ان تكون هذه اللغة وحدها هى " اللغة " العالمية التى يتحدث بها الجميع – اعنى جميع الفلاسفة : فاللغة المنطقية لا يمكنها ان تستوعب كل اساليب التعبير عن كل المشكلات والمسائل التى يثيرها العقل البشرى ، فلماذا نغلق الابواب امام العقل لنحبسه فى مكان ضيق لا يتسع لكل نشاطاته . لماذا لا نتركه ينطلق إلى المشكلات الميتافيزيقية التى تلح على العقول البشرية ، أليست احساساتنا الداخلية وربما مشاعرنا هو واقع بالفعل وليس وهما ، ايكون موقف الانسان من مشكلة ما وهما لانه لا يعبر عن واقع والا اتفق الجميع عليه ، ولكن أليس من حقنا ايضا ان نقول ان مثل هذه المشكلات تشكل واقعا بالنسبة للفرد ، ومن حقه ان يحاول الإجابة عنها .
انى مؤمن بالمنهج التحليلى والفلسفة التحليلية بوصفها مجالا لتطبيق منهج التحليل ، وأرى ان التحليل كمنهج يبدأ بتحديد المشكلة المركبة وردها الى مشكلات صغيرة ، ومعالجة هذا المشكلات الصغيرة واحدة بعد اخرى من شأنه ان يؤدى إلى مزيد من التحليل ومزيد من الفهم والوضوح حتى تجد المشكلة حلا يمكن الإفادة منه فى واقع الانسان أما لتبرير معتقد او تفسيره او تغيره . وليس الى حذف كائنات واقعية كما فعل رسل الذى لم يكن مخلصا لمذهبه الواقعى ، والذى راح يجتز بنصل اوكام المركبات التى تم تحليلها لصالح عناصرها .
لا تعارض هناك بين التحليلية والتسليم بمشروعية الميتافيزيقا ، طالما كان من الواضح امامنا التفرقة بين نوعين من الواقعية : الواقعية الموضوعية التى تقر بكل ما هو واقعى فى العالم وتحترم الشعور بهذا الواقع وهنا يدخل تحت هذا النوع كثير من الفلاسفة منذ بيكون وهيوم ولوك ومل ورسل وغيرهم . وهناك الموضوعات الشعورية ، وهو مايحدث امام العقل من تصورات وقضايا نستشعرها وهى تلح على عقولنا للتعامل معها ، وتعرض نفسها على عقولنا على صورة اسئلة تحتاج الى اجابات هذا واقع ندركه بشكل مباشر من خلال الاستبطان او الملاحظة الذاتية تماما كشعورى بالجوع او الالم . ومن حلال هذا الواقع الشعورى تأخذ الميتافيزيقا مشروعيتها وضرورتها .
واتفقت مع رسل فى رفضه للفلسفة اللغوية التى سادت مدرسة أكسفورد بوصفها امتدادا لفلسفة التحليل اللغوى عند فتجنشتين المتأخر لأن المبالغة فى جعل اللغة هو أساس الفلسفة وهدفها امر يصعب قبوله .. نعم .. ما من شىء الا وللفلسفة فيه مدخل – على حد تعبير الفارابى – فالفلسفة يمكن ان تعالج موضوع اللغة تحت اسم " فلسفة اللغة " مثلها فى ذلك مثل " فلسفة الدين" و " فلسفة العلم " ولا افضل اسم " الفلسفة اللغوية " لان من الصعب قيام فلسفة بأكملها على أسس لغوية بحتة . وهذا ما حاولت ابراره فى كتاب " فلسفة برتراندرسل" .
وجاء الاهتمام بالمنطق العربى مكملا لصورة المنطق كما أود ان ابحثها اردت ان أطير بجناحين ، غربى وشرقى ، امد يدا نحو الغرب لنأخذ المنهج والطريقة ، ولابد ان ننظر إلى الشرق فهو همنا وموضوع اهتمامنا . أردت من خلال ترجمة كتاب ريشر – تطور المنطق العربى – ان أقدم الصورة الحقيقية لإسهامات العرب فى هذا المجال بعيدا عن التعصب الأعمى، ودون الوقوع فى شرك الشعور بالدونية . ولعل الاجابة عن السؤال : لماذا ترجم العرب المنطق اليوناني ، ولماذا كان أول ما ترجم من كتب اليونان ؟ هو من المسائل الاساسية نظراً لما قيل فى هذا الشأن والذى لم يخرج عن انهم ترجموه لحاجتهم إليه فى الدفاع عن العقيدة ضد المهاجمين للاسلام ، وهذا ما كان يروجه المستشرقون والمؤلفين الغربيين . فأردت ان أصحح هذا الأمر ، وقلت إن السبب الرئيسى فى هذا الامر يعود إلى سبب علمى يرتبط بخطة تهدف إلى نهضة علمية شاملة وصلت قمتها عند المأمون ، فقد حرص الخلفاء والعلماء فى ذلك الوقت معرفة علمى الطب والفلك وقد أيقنوا ان تعلم هذين العلمين لا يتم بصورة مرضية الأ بعد تعلم علم المنطق كما كان الحال موجودا فى الأكاديميات النسطورية فى الشام والعراق والذى يمتد إلى الوراء حتى مدرسة الإسكندرية . فكانت بداية الترجمة منصبة على المنطق . وبعد أن ترجم وتم استيعابه وجد من وجد من المتكلمين والفقهاء ان هذا المنطق يمكن ان يستعان به فى الدفاع عن العقيدة .
كما حاولت فى هذا الكتاب – سواء فى المقدمة الطويلة او فى الهوامش – ابرز جهود مناطقة العرب فى مجال الدراسات المنطقية ، وجهود بعض الفقهاء فى مهاجمة المنطق واتهام أصحابه بالكفر و الالحاد ، وقد تناولت هذا الموضوع فى الكثير من المؤلفات الاخرى مثل كتاب "مقدمه فى المنطق الصورى" وفى بعض الابحاث التى نشرت اخيرا تحت عنوان دراسات فى المنطق عند العرب.
واخيرا أقول : أنا على يقين من ان دراسة الفلسفة لا تتم بشكل دقيق ومفيد ومفهوم الا من خلال الظروف الاجتماعية والسياسية التى يعيشها الفيلسوف . ورغم ان الأمر بديهي ، الا ان معظم من كتبوا فى الفلسفة كانو يتجاهلون هذه الحقيقة . وقد حاولت فى كتاب " مدخل لدراسة الفلسفة المعاصرة " أن اطبق هذا الأمر على بعض المذاهب الفلسفية مثل البراجمانية والوجودية والبنوية والتحليلية . وهى فلسفات أراها تنبع من مصادر عديدة تضرب فى اعماق الظروف الاجتماعية والسياسية التى سادت هذا المجتمع او ذاك . وهى ايضا رغم اختلاف ظروفها الا انها جاءت متأثرة بالعلم الحديث – سلبا او ايجابا – والعلم فى عصرنا هو سيد العصر بلا منازع ، ولا سبيل امام الفلسفة الا ان تساير العلم والمنهج العلمي . سر النجاح فى العلم ، ويمكن ان يكون سر النجاح فى الفلسفة . وما احوجنا نحن العرب فى هذه الظروف التى نعيشها الى التفكر العلمى واستخدام المنهج العلمى فى مواجهة مشكلاتنا الاجتماعية والسياسية.