ولد جورج ويليام فريدريك هيجل و هو فيلسوف ألماني، في ستوتجارت في 27 أغسطس سنة 1770 من عائلة روسية تنتمي إلي البرجوازية الصغيرة ، كان والده موظفا في الدولة البروسية, و قد درس في كلية لاهوتية, و كان مؤهلا لكي يصبح رجل دين، و هناك درس التاريخ و اللغة الألمانية والرياضيات.
و قد تميز عصر هيجل بأنه كان مرحلة انتقالية في الفكر الأوربي بين مرحلتين متناقضتين, و هما المرحلة الكلاسيكية الرومانسية المتشبعة بالعاطفة والخيال , ومرحلة بزوغ الإيمان بالعقل والتنوير العقلي والسير نحو المعرفة العقلية العملية ، فهو كما تأثر بالدراسة اللاهوتية كان أيضا قد بدأ يستشعر رياح ونفحات الثورة الفرنسية التي لم تكن سوى نتاج لفلسفة عصر الأنوار .
وجود هذه المتناقضات في حياة هيجل هو ما يفسر فلسفته الجدلية التي جمعت بين المتناقضات والمتضادات والتقابلات, فقد تميز نسقه الجدلي بالتوحيد بين النقيضين في إطار وحدة جديدة تتضمن مزاياهما معا و التي سماها ب 'الفكرة المطلقة'.
إن أهم الكتب التي تناولت مفهوم التاريخ ودراسته من وجهة نظر فلسفية عند هيجل هو كتاب " محاضرات في فلسفة التاريخ " وهو ما يلخص النسق الهيجلي في فلسفة التاريخ .
يعرف هيجل فلسفة التاريخ بأنها لا تعني شيئا أخر سوى دراسة التاريخ من خلال الفكر. فهو جوهر الإنسان والعنصر الملازم للمعرفة والحقيقة ، إلا أن ما يميز الفكر في التاريخ هو كونه تابع لمعطى ، فهو يتحدد تبعا للحقائق والوقائع المجردة في الحقيقة، وإذا كان هيجل يرى أن مسار الفلسفة ومسار التاريخ هما مساران متعارضان ,على اعتبار أن مسار التاريخ مسار خطي لا يحتمل التأويل ، بل يعتمد على سرد الأحداث ونقلها من طرف المؤرخ, بينما تختلف نظرة الفيلسوف للتاريخ ، فنظرة الفكر هي نظرة تأويليه ،فعند امتزاج الفكر بالتاريخ المعطى يفرض ذلك على الفيلسوف إقحام فكرة طاغية يفسر بها التاريخ على غير طريقة المؤرخ وهذا هو الشيء الذي يخلق التعارض بين مسار كل من التاريخ والفلسفة.
وقد ميز هيجل في دراسته للتاريخ بين ثلاثة أنواع أساسية من التاريخ : التاريخ الأصلي ، التاريخ النظري والتاريخ الفلسفي.
فالتاريخ الأصلي هو التاريخ الذي كتبه المؤرخ ويسرد فيه أصل الأحداث والوقائع وينقلها كما رآها تحدث أمامه أو كما سمعها عند الآخرين ، إلا أن المؤرخ وهو يروي الأحداث والوقائع التاريخية فهو ينقلها من العالم الواقعي إلى عالم التصور العقلي ، أي أنه يقوم بنقلها من إطارها الخاص إلى إطار تصوري عقلي انطلاقا من تصوره لهذه الأحداث ، والأصل في هذا النوع من التاريخ حسب هيجل هو التاريخ المكتوب لا المنقول عبر الذاكرة ،و أهم مميز لهذا النوع من التاريخ حسب هيجل, هو تطبعه بروح العصر التي تطغى على المؤرخ من خلال سرده للأحداث التي عاشها هو نفسه.
أما النوع الثاني من التاريخ هو التاريخ النظري أو التاريخ التأهيلي و هو يختلف عن التاريخ الأصلي لكونه يتجرد من عنصر الزمان ، فهو يتجسد في قدرة المؤرخ على القفز فوق حواجز الزمن لحقبة لم يعيشها و أحداث لم يراها, كأن يؤرخ عالم في الألفية الثالثة لأحداث العصور الوسطى أو حضارة ما بين النهرين . وهذا النوع من التاريخ هو تاريخ برجماتي نفعي يسعى إلى البحث في تجارب الماضي واستخلاص العبر و الدروس منه من أجل تفادي أخطائه وهفواته ، فهو يعتمد على تحليل ومقارنة جميع الروايات ونقدها وفحص مدى مصداقيتها ومعقوليتها.
أما النوع الأخير والأهم حسب هيجل , هو التاريخ الفلسفي وهو الذي تهتم به الفلسفة باعتباره تاريخ للإنسان وليس أي مخلوق آخر، الإنسان الذي يميزه العقل والروح والوعي،هذا الأخير الذي يعتبر حسب هيجل نقطة البداية بالنسبة للتاريخ ، فلا تاريخ إلا تاريخ الوعي.
وأهم فكرة تأتي بها فلسفة التاريخ حسب هيجل هي أن العقل يسيطر على العالم ، وأن العقل هو جوهر التاريخ ، فالعقل هو الذي يحكم التاريخ ، فالتاريخ عنده ليس هو الرصد الميت للأحداث و استخلاص العبر وإنما هو التاريخ الذي يهيمن على الوقائع ويصوغها في منطقها الداخلي من خلال تفاعل الشخصيات التاريخية الذي يبلوره المنطق الداخلي للتاريخ، حيث يقوم التاريخ بتفسير الوقائع والأحداث واستخراج القوانين والتنبؤات للمستقبل بغض النظر عن زمن معين ، وهذا ما يسميه هيجل العقل في التاريخ.
وتعتمد دراسته لفلسفة التاريخ على دراسته لتطور المجتمع الإنساني و ذلك من خلال أطروحة أساسية عند هيجل و هي 'الصراع من اجل الاعتراف ' أو ما يمكن أن نسميه في فلسفة هيجل علاقة السيد بالعبد وينطلق في تفسير الجدلية في التاريخ عنده من أن الإنسان شأنه في ذلك شأن الحيوانات لديه احتياجات طبيعية و فطرية ,و رغبته في أشياء خارجة عنه كالطعام، و الشراب و المأوى بل اكثر من ذلك إلى حماية جسده و نفسه ,إلا أن الإنسان يتميز عن باقي الحيوانات بأن له تطلعات أكبر و أقوى و التي تتجسد في رغبته الأسمى أو السعي وراء الاعتراف و التقدير، هذا السعي قد يقود الإنسان للمغامرة بحياته والدخول مع بني جنسه في صراع من اجل الحصول على هذه المنزلة.
كان الإنسان أقدر الكائنات الأخرى على الدخول في صراع حتى الموت من اجل الحصول على الاعتراف، الاعتراف به ليس ككائن موجود من ضمن الكائنات الأخرى , بل ككائن بشري له كرامة و منزلة داخل الطبيعة، هذه القدرة لدى الإنسان نابعة من كونه الكائن الوحيد الذي يستطيع السيطرة على شهواته و غرائزه و من أقوى و أهم هذه الغرائز هي غريزة حب البقاء ، فان كان الإنسان يتحدى الطبيعة ، و يقاوم قسوتها من أجل الحفاظ على نفسه بدافع غريزة حب البقاء ,فهو يصبح مستعد للتضحية بها من أجل هدف أسمى و أرقى وهو الاعتراف بآدميته و به ككائن عاقل مميز عن باقي الكائنات الأخرى ذات اشتراك معها في جوانب تخص الغريزة.
ويصف هيجل دوره الإنساني في سعيه وراء الحصول على الاعتراف بأن المتصارعين يدخلون في صراع مخاطرة بحياتهم حتى الموت , فان حدث وأدى الخوف الطبيعي من الموت بأحدهما إلى الاستسلام نشأت علاقة السيد و العبد وبذلك تكون هذه المخاطرة من أجل المنزلة المحضة.
ويفسر هيجل بأن رغبة الإنسان في نيل التقدير والاعتراف به ككائن بشري والتي قادته في فجر التاريخ إلى الدخول في صراعات دموية هي التي كانت وراء التقسيم الذي عرفه المجتمع الإنساني وهو مجتمع السادة و العبيد الذي نتج عن استسلام أحد أطراف الصراع لغريزة الخوف الطبيعي من الموت ودخل في صنف العبيد وانضم إلى السادة من تمسك بالرغبة في اعتراف الآخر , إلا أن هذا النظام الاجتماعي سرعان ما أصبح لا يشبع رغبة الإنسان في الاعتراف . فالعبد في جميع الأحوال لم يكن معترَف به ولا بإنسانية. أما السيد فقد أصبح ناقص الاعتراف لأنه لا يحظى باعتراف السادة الآخرين. وهذا الأمر شمل جميع الأنظمة الأرستقراطية بجميع أشكالها و التي شكلت أكثر الأنظمة الاجتماعية هيمنة على التاريخ.
أصبح الشعور بعدم الرضي على الاعتراف دافعا جديدا للبحث عن نظام جديد للخروج من التناقض الذي خلقه وضع كل من السيد والعبد, حسب هيجل ثم التغلب على هذا الصراع نحو علاقة أفضل من خلال كل من الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية, وهما الثورتان الديمقراطيتان اللتان كسرتا نظام السيد والعبد , وأصبح بموجبهما التكافؤ بين أفراد المجتمع هو السائد على حساب الصراع من أجل الاعتراف . فقد مكنت الثورة الفرنسية من تعويض الصراع من أجل الاعتراف وصراع السيد والعبد إلى علاقة التكافؤ والسيادة الشعبية وسيادة القانون ,فصار الاعتراف شاملا ومتبادلا بين المواطنين باعتبارهم أناس يتمتعون وبشكل متساوي بالكرامة و الحقوق والسيادة تكفلها لهم الدولة , وهذا الفهم للدولة هو الذي يقدمه هيجل في فهم الدولة الديمقراطية الليبرالية.
هذا الوصول عرفه الإنسان بفضل الاعتراف بوضعه كإنسان له كرامة من خلال الثورتين الفرنسية والأمريكية هو الذي يجسد نهاية التاريخ, فالنضال والصراع من أجل نيل الاعتراف الذي كان يحرك عجلة التاريخ قد بلغ منتهاه وحقق مبتغاه في مجتمع تحقق فيه الاعتراف الشامل والمتبادل , ولأن ليس هناك نظام سياسي أو اجتماعي أفضل يمكنه أن يحقق هذا الهدف على نحو أفضل خلص هيجل إلى القول بأن نهاية التاريخ تجسدت بعد الثورة الفرنسية في النظام الديمقراطي الليبرالي لأن ليس بالإمكان حدوث تطورات تاريخية بعد هذه الثورة.
فهيجل كان من الفلاسفة الذين آمنوا أن السيرورة التاريخية لا يمكن أن تتواصل إلى ما لانهاية وإنما لا بد أن تنتهي بفعل إنجاز تحققه المجتمعات الحرة في العالم الواقعي والذي تمثل في نظره في المجتمع الديمقراطي الليبرالي.
فالدولة الليبرالية قد انتصرت في العالم بأجمعه لأن مبادئ الثورة الفرنسية لا تقتصر فقط على تغيير الحالة السياسية والاجتماعية في فرنسا فحسب, بل عمت أوروبا بأكملها , بل إن مبادئ الحرية والمساواة عمت العالم بأسره, ولم يظهر أي تنظيم سياسي أو اجتماعي يفوق الليبرالية . وبذلك تصبح الليبرالية الديمقراطية حسب هيجل قد عوضت الرغبة الغير عقلانية في الاعتراف بالدولة والفرد برغبة جديدة من أجل الاعتراف أساسها المساواة , وبالتالي إذا عم هذا التحول دول العالم,صار الحافز إلى الحرب أقل وطأة في ظل دول أكثر تجانسا , وبالتالي لم يعد ما يحرك عجلة التغيير في التاريخ وتجسدت نهاية التاريخ.