[right]إنٌ بداية الاتجاه التاريخي على حقيقته في
فلسفة العلم كان مع " كارل بوبر " ، حيث كان ينحصر اهتمام الوضعية
المنطقية حول ( تحليل بنية المعرفة الجاهزة ). لقد ركزٌ " بوبر " جهوده
نحو ثلاثة مسائل : دراسة ظهور المعرفة الجديدة ، تبدل النظريات العلمية ، تطور
العلم . لكن وفي المقابل ظهرت في أمريكا أفكار
متناقضة مع أفكار "بوبر " وزملائه ، حيث تجسدت بصورة واضحة للعيان في
مؤتمر عالمي لفلسفة العلم الذي انعقد بكلية " بد فورد " بلندن عام 1965
. ومن أهم ما ميٌز هذا المؤتمر هو ذاك الجدال المتصارع بين " البوبريين
" من جهة ، وبين " توماس كون " من جهة أخرى، مع العلم أنه آنذاك
وفي انجلترا كان هناك أنصار كثيرين " للبوبرية " أكثر من "
الكُونية " ، ولكن بعد هذا المؤتمر انقلب التأثير إلى العكس فلقد قدٌم "
كون " إسهامات جدٌ هامة في تاريخ العلم . ويعتبر مؤلفه ( بنية الثورات
العلمية )الذي ألٌفه سنة 1962 من أشهر تلك الإسهامات . لكن السؤال الذي يطرح نفسه
: لماذا الاهتمام ب " توماس كون " رغم أن مجهوداته في الفلسفة لم تبرز
كثيرا ( هو مؤرخ علم أكثر منه فيلسوف علم ) ؟ وإن كان كذلك فما هو الجديدة الذي
قدٌمه وأضافه في فلسفة العلم ؟
لا
يمكن أن نتفحص تلك التطورات الأكثر حداثة في فلسفة العلم ( إسهامات " إمري
لاكاتوس " و " فيرابند" ) ، دون أن نمر ٌبمؤلف " كون "
الأساسي والذي سبق إن ذكرناه .فهو قد نشر لأول مرة في سلسلة ( الموسوعة العالمية
للعلم الموحد ) ، وهي نفس السلسلة التي عرض فيها الوضعيون المناطقة - حلقة فيينا – أرائهم ووجُهات نظرهم .
ولقد عالج الكتاب نقاط رئيسية توضح توجهات وأفكار "
توماس كون " و " الكُونيين "
عامة ، وفي الوقت نفسه هي أفكار وضعت لتبرز الأخطاء والثغرات التي وقع فيها الاتجاه الوضعي . وهذه الأفكار تتمثل
في :
*- إعطاء الملامح الموجهٌة لتواريخ العلوم المتعددة بصفة
عامة .
*- يقترح " كون " أنٌ في كل علم هناك ما يسمى
بفترة " ما قبل النموذج الإرشادي " أو " ما قبل البراد يغم "
.
*- تتجمع في هذه الفترة وقائع غالبا ما تكون بصورة
جزافية أو تلقائية ( غياب البنية النظرية ) ، أين تشهد هذه الفترة تعدد في المدارس
المتنافسة .
*- بداية التأسيس للنموذج الإرشادي ، حيث تلقى إحدى تلك
الأنساق النظرية والمدارس الفكرية المتنافسة قبولا تدريجيا عاما من طرف العلماء
وهكذا يتأسس " البراد يغم " لأول مرة .
*- فترة العلم القياسي ، حيث تصير إمكانيات ذاك البحث
الناجح مثال يقتدى به لتصبح واقعية ، فليس من أهداف العلم القياسي إيجاد أنواع
جديدة من الظواهر ، وإنما يكون البحث موجها إلى صياغة هذه الظواهر والنظريات الذي
يقدٌمها النموذج الإرشادي بالفعل.
- كـــــــــــــــــــــــيف تحدث الثورات
العلمية حسب كون ؟
قد يحدث في
فترة " العلم القياسي " نتائج غير متوقعة أو شاذٌة ، بيد أن هذه النتائج
تُطمس ( تراكم النتائج ) إلى حين ، ولكن قد يأتي وقت قد يكون فيه النموذج الإرشادي
مثقلا بهذه الفروض الخاصة التي تضعفه ، وهنا يدخل العلم مرحلة الأزمة ،تشهد هذا
خاصة في العلم الفيزيائي ، حيث تنشأ الأسئلة الميتافيزيقية وتكثر تجارب الفكر ، حيث أن معظمها لم يُفحص في
المعمل كما هو الحال في قطار " آنشتاين " المنطلق بسرعة الضوء في كلتا
حافتيه ، حيث لا يمكن التأكد من هكذا تجارب واقعيا ، فتحدث الأزمة ، وفي هذه الفترة يجد المرء خلافا حول
ماهو النموذج الإرشادي فعلا ، وهكذا تحدث ما يسميه "كون " ب ( ثورة علمية – ظهور نظرية جديدة لتحل محل
نظرية قديمة - ).
فهي ( تلك
الأحداث التطورية غير المتراكمة التي يُستبدل فيها نموذج إرشادي قديم - كلٌه أو بعضه – بنموذج إرشادي جديد يناقضه. )
فالثورات العلمية تبدأ عن طريق إحساس مُطرد بأن النموذج الإرشادي قد توقف عن تأدية
الدور المنوط به في الكشف عن جانب من الطبيعة ، فحسب " إمري لا كاتوس "
في كتابه ( تاريخ العلم وإعادة بناءاته العقلانية في الثورات العلمية ) ص 163 يقول
: " ...ففي كل من التطور العلمي يكون الإحساس بسوء الدور قد يؤدي إلى أزمة ،
شرطا أساسيا للثورة ... ).
وعلى هذا الأساس يتم حسب " كون "
قبول النماذج الإرشادية طوعا من طرف الجماعة العلمية ، ويأتي تبدلها ( النماذج
الإرشادية ) إيذانا بظهور مهمات علمية جديدة ، ونمط جديد من النظريات العلمية
وأساليب جديدة أفضل في حل الألغاز. فالمعرفة عند " كون " لا تتعمق ولا تتٌسع بل
تتحٌور . وعلى هذا الأساس لا يجوز حسبه اعتبار النظريات العلمية القديمة نظريات غير علمية ، استنادا فقط إلى مجرد كونها
قد هُجرت . فجلٌ النماذج الإرشادية والنظريات التي تنشأ على أساسها تتميز حسب "كون"
ب "( اللاقياسية ) – أثناء رؤية العالم و واقع البحث العلمي في هذا العالم ).
وما بيٌنته اللاقياسية - أنٌ بعض الأشكال من المذهب
الواقعي والذي يمثله أنصار الاتجاه الوضعي تتعرض مع
الممارسة العلمية – إذ أن الوضعيون والذين ينطلقون من اعتقاد أن العلم يتعامل
أساسا مع ملاحظات يتمٌ تصنيفها وترتيبها ، دون المضي خلفها . وهذا هو جوهر الموقف الواقعي الذي يرى
عكس ما دعى إليه " كون " القول بقياسية
النظريات العلمية .
أما الحديث عن تقدٌم العلم عند" كون "فهو ليس مرتبطا بمعنى الاقتراب من الحقيقة ، بل فقط بمعنى القدرة على
حلٌ الألغاز ، ومنه نعت بأنه (نسبي ). ولقد أورد " كون " مفهوما جديدا هو ( الزمرة العلمية ) والتي تلعب دورا حاسما في مجال تطور العلم ، من حيث قدرتها على تنظيم
العمل العلمي ومدى تأثيرها على اختيار
موضوعات البحث ، وتوفيرها لإمكانية النشاط المشترك لجماعات علمية كثيرة ،ولكن
أهميتها الكبرى تكمن في مدى قبولها لتلك المبادئ النظرية أو المناهج التي تكون
ملزمة لكافة أعضائها ،حيث أن معيار يقينية هذه النظريات أو تلك أو اتفاقها مع
الزمرة العلمية ، والنتيجة من ذلك هي أنٌه
في حال إنكار الحقيقة الموضوعية يكون أقرب السبل النظر إلى الحقيقة على أنٌها كل
ما تؤمن به الجماعة اليوم ، فكل ٌ ما اتٌفقت على اعتباره يقينا ، هو حقيقة.
[/right]