إن العقل العربي على وجه الخصوص قبل مجيء الإسلام، كان عقلا مغيَّبا بحكم طبيعة الإنسان العربي آنذاك، الذي استهوى الحس، و جعل من الطبيعة اله يحاول التعايش معه.
لكن في هذه الفترة بالذات حين كان للعربي قيمة شعرية فصيحة ذات طابع وصفي، و كانت مكة عاصمة العالم التجارية و الثقافية و منبعا للاحتكاك، و التناقح الحضاري و المعرفي، ظهر شاب منها بحيث أنه كان مهيئا لحمل مشعل العلم بأخلاقه و مزاياه الحميدة مما جعل منه رسولا إلى الأمة، يحمل إليها الكلام الرباني أو الوحي الإلهي، بحيث أنّ السماء تتدخل في حياة البشر و توقظ عقل العرب مما جعلهم يجدّون في طرح الأسئلة حول الوحي، أي أنهم انتقلوا من الوصف إلى المضمون، بتدبر معاني القرآن بعد الإنصات له.
هذه الأسئلة أصبحت تحتاج إلى أجوبة، تكـون بمثابة بلسم شاف، مما جعل المسلمين ينشئون أول مؤسسة اجتماعية تغلب الكل على الفرد، ألا و هي "المسجد"، و لكن هذا لا يكفي مما ولّد علم الكلام، و الذي دار بين فرق كلامية شتى، كفرقة المعتزلة التي أسسها واصل ابن عطاء، و فرقة الأجهمية التي أسسها جهم بن صفوان، و الأشعرية التي أسسها موسى الأشعري و غيرها، معتمدة بذلك الجدل و النقاش، و الذي كان عقيما في أغلب الأوقات.
في خضم هذه الأحداث و تشعبها يظهر شاب من كندة يدعى أبا إسحاق الكندي متأثرا بفكر مدرسة المعتزلة الذين قدموا العقل على كل شيء، لكنه يختلف عنهم في أمر أساسي، و هو تقديم العقل عن الوحي، و الذي وضحه في تقسيمه للمعرفة، بحيث قال الكندي بأنّ المعرفة نوعان:
أ. معرفة جزئية يسيطر على استقرائها العقل.
ب. معرفة كلية أو إلهية يسيطر عليها الحدس أو العرفان
و لا مجال للعقل في العلم الإلهي، هذا القول جعل من الكندي فيلسوف العرب بامتياز، و أسس للفلسفة العربية الإسلامية بأعماله المختلفة من ترجمة كتب الأسبقين من اليونانيين، و اعتماده على المنهج الواضح، و الرؤية الثاقبة للأمور، و هذا ما تجلى في مؤلفاته المختلفة، و التي كان أهمها كتاب " الفلسفة الأولى" الذي يتحدث فيه عن الميتافيزيقا.
و نجد أيضا أسماء لامعة في تاريخ الحضارة الإسلامية، و التي لمعت بالعلم و أبرقت سهام المناهج و المواضيع، ألا و هو الفارابي الملقب " بالمعلم الثاني" و الذي أبدع مشروعا فلسفيا ضخما، و قدمه للمجتمع آنذاك بعدما كان متأثرا بالمثالية الأفلاطونية، بحيث أن الفارابي أنتج المدنية و القوانين، و قد شرحهما في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" بالإضافة إلى هذا جعل من عالمية الإسلام هدفا يجب العمل عليه، و الذي يبدأ بنشر تعاليم الإسلام بالعلم قبل السيف، كما أنه عمل على تقريب نظرية فوتونية الخلق للمفهوم الإسلامي.
إلى جانب هذا تواصلت الحضارة الإسلامية و امتدت شرقا و غربا إلى أن وصلت إلى الأندلس، التي تعتبر ربيع الحضارة الإسلامية و ورودها التي ذبلت بذبول عميد فلاسفتها، ألا وهو ابن رشد"الحفيد"، بحيث تشاء الصدف أن ينشأ في الأندلس "الشارح الأكبر" كما لقبه كبير شعراء ايطاليا "دانتي"، طبيبا و فيلسوفا و عالما و ساعيا إلى المساهمة في العلم و إثراء الرصيد المعرفي الإسلامي، و بحكم نباهة و نباغة ابن رشد جعلته يتبوأ درجات العلى في القضاء، فولي قاضيا على اشبيليا، و اعتمد طبيبا خاصا لابن المنصور ملك الموحدين قبل أن تحاك له المؤامرة الشهيرة، و تحل به النكسة التي أعتبرها نكسة كل المسلمين إلى يومنا هذا.
فحياة ابن رشد كانت مليئة بالعلم بشرحه و ترجمته للأدب اليوناني القديم، و خاصة أرسطو، و دفاعه المستميت عن المرأة المسلمة و حقوقها، و مهارته الطبية الباهرة بشهادة ابن طفيل، بالإضافة إلى قوة فلسفته، و التي حاول بها أن يوفق بين الحكمة و الشريعة، و هذا ما وضحه في كتابه الشهير"فصل المقال فيما بين الحكمة و الشريعة من الاتصال". مما جعله يدفع ضريبة النجاح، و الذي خلصت إلى انتصار حزب الرجعيين على حزب الفلاسفة و العلماء، فرحم الله فلاسفة الإسلام و علماءهم المؤهلون للاقتداء.
فـي الأخير ما يمكننا استنتاجه هو أنّ عوامل حث العقل الإسلامي على العمل تتمحور فيما يلي:
1) ظهور الوحي و الفرق الكلامية.
2) ظهور حركة الترجمة من اللغات المختلفة إلى العربية.
3) نشأة المشاريع الفلسفية العربية على أنقاض علم و ثقافات الأمم الأخرى.
4) نجاح الخطاب العمودي بين فئات المجتمع و ابتعاد أفراده عن الحسية.
مما ولّد الإقلاع الحضاري الذي نحن بحاجة إليه الآن، فصار الفيلسوف يحاور الفقيه، و الطبيب يحاور السياسي و غيرها من مظاهر الإنسانية المنظمة و المنتظمة وراء قناع العلم و المعرفة.
بقلم: مــزوار محمد سعيد في امتحان يوم: 12. 06 . 2011 .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]