حول تاريخ نقدي للعلوم
عند ج. كانغيلهم
عادل مومن
يريد هذا المقال أن يقدم فكرة عامة عن المعالم الأساسية للتفكير الإبستمولوجي لواحد من كبار فلاسفة هذا العصر، واحد أهم إبستمولوجيي علوم الأحياء : إنه جورج كانغلهم Georges Canguilhem (1904-1995).
يحتل كانغلهم، في فضاء التفكير الفلسفي المعاصر مكانا استراتيجيا جعل الممارسة الفلسفية، على امتداد الأربعين عاما الماضية، تتطور وتتجدد وتعيد النظر في نفسها انطلاقا منه وبالعودة إليه في سيرورة نقاش علمي متواصل عرف فيه الفكر اغتناء هائلا وتجديدا حاسما.
ولما كان هذا الفكر عموما قد وجد منطلقات تجديده الأساسية في الثورات العلمية العظيمة التي أنجزتها مختلف علوم الطبيعة والإنسان، وفي ما واكبها من تحولات في التعامل الفلسفي معها والتنظير الإبستمولوجي لها، فإن العمل العلمي الهائل الذي أنجزه جورج كانغلهم إنما كان في قلب كل هذا التجديد، بحثا وتدريسا ونشرا. مما تمخض عنه فكر نقدي، إبستمولوجي تاريخي على درجة عالية من الصرامة والعمق والنفاذ؛ غيّر الشيء الكثير في أساسيات التفكير الفلسفي عموما، وفي التعامل الفلسفي مع العلوم وتاريخها على نحو خاص.
على أن هذا الفكر النقدي التجديدي الكبير إنما كان قد تكوّن في سياق المجال الإشكالي الذي أسسه التدخل الباشلاري حينما بلور مفهوما للممارسة الإبستمولوجية شكل فيها الوعي النظري بتاريخية العلوم البعد الأساسي المكون لها في تميزها.
وبالفعل، فإن أهم ما ميز إبستمولوجيا باشلار هو أنه قاد ما كان يسمى بـ "فلسفة العلم"، أو "فلسفة المعرفة"، لا فرق، نحو النقطة الحاسمة التي أصبح فيها الانفصال مع نظام إشكاليتها يطرح كضرورة نظرية ومعرفية قصوى. وبعمله على تحقيق هذا التجاوز، فلقد أحدث باشلار تحولا ثوريا في بنية التعامل الفلسفي مع الممارسات العلمية. وهو تحول عين للإبستمولوجيا وضعا نظريا جديدا وحدد لها مكانا للتدخل : وضعا جعل منها ممارسة نظرية تعنى بفهم السيرورات الفعلية لإنتاج المفاهيم العلمية وتبرز الإطار الفلسفي الحقيقي لذلك الإنتاج من جهة، ومن جهة أخرى تهتم بنقض كل محاولات الإحتواء التي تمارسها فلسفة الفلاسفة. ومكانا للتدخل هو فصل العلمي عن الفلسفي ضمن عملية إبستمولوجية تتسم بالإحالة على تاريخ العلم وتاريخ ما يعترض تكونه وصيرورته. ولقد شكل هذا الربط بين الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم، في الباشلارية، وحدة عضوية في موقع جدتها الثورية وأصالتها العميقة.
والحال أن في فضاء هذه الوحدة بالذات يندرج التفكير الإبستمولوجي لكانغلهم. يندرج، بمعنى أنه ينطلق من حدث هذه الوحدة وأهميتها الإستراتيجية ليعيد بناءها على أسس جديدة جعلتها تتقدم اليوم كأهم ما يميز الوضع الراهن للممارسة الإبستمولوجية. فعلا، إن أعمال جورج كانغلهم تتميز بتحديد وتفكير هذا الشيء الجديد الذي شكل مجرد إبرازه بما هو كذلك تثويرا جذريا لفلسفة وتاريخ العلوم: الوحدة الصميمية بين الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم؛ لأن "بدون علاقة بتاريخ العلوم، فلن تكون الإبستمولوجيا سوى زوج غير مجد تماما للعلم الذي تزعم الحديث عنه". (1)
وقد نتج عن التفكير في هذه الوحدة تصور جديد للإبستمولوجيا في علاقتها بموضوعها، يسنده ويدعمه تصور جديد لتاريخ العلوم تميزه العلاقة الخاصة التي يقيمها هو كذلك مع موضوعه. وهو، في الواقع، تصور واحد يقضي بأن لا معنى لقيام خطاب إبستمولوجي حول علم ما دوننا اعتبار أساسي لتاريخيته الحقيقية.
لذلك، تقدّم إبستمولوجيا كانغلهم نفسها على أنها بالأساس، في الرؤية والتوجه، تاريخا إبستمولوجيا للعلوم يشكل في الوقت الراهن النموذج الأكثر تقدما، لا من حيث إنجازاته العلمية القيمة في مجال ممارسته وحسب، ولكن أيضا من حيث انشغاله العميق ببلورة وصياغة الإشكالية النظرية المحايثة له. إبستمولوجيا تاريخية وتاريخ للعلوم إبستمولوجي : تلك هي الوحدة النظرية التي تؤسس بنية المنظور الذي يفكر من داخله كانغلهم قضايا ومشكلات الممارسة العلمية في تاريخها الخاص. ومن حيث إن الأمر كذلك، فإن الدرس الباشلاري يمارس حضوره الفعال في عمق هذا المنظور؛ الشيء الذي يحرص كانغلهم نفسه على تسجيله على أنه أثمن ما يدين به إليه، عندما يكتب مثلا قائلا : "لسنا في حاجة إلى القول بأننا حينما نربط، بـهذا الشكل الوثيق، تطور الإبستمولوجيا بإنجاز دراسات في التأريخ العلمي، فإننا نستوحي تعاليم الدرس الباشلاري." (2). واستلهام الدرس الباشلاري يعني هنا أن كانغلهم ينتج ممارسة لتاريخ العلوم تنتسب فكريا إلى باشلار، ولكنها تطور الباشلارية ضمن "إبستمولوجيا جهوية" دقيقة التحديد خاصة بالحقل المعرفي لعلوم الحياة. وبعبارة أخرى، فإن التاريخ الإبستمولوجي للعلوم الذي يمارسه كانغلهم وينظر له يستخدم، ويطور، ويصحح، حسب مقتضياته الخاصة، مفاهيم الابستمولوجيا الباشلارية وأطروحات "العقلانية المطبقة"، في الميدان الذي شكل حقل اشتغاله، ميدان المعرفة البيولوجية. وبقيامه وتعينه في موقع الشرخ الذي أحدثه باشلار في الفلسفة، فإنه يتابع ويعمق السجال مع فلسفة الفلاسفة.
والحقيقة أن إبستمولوجيا كانغلهم شكلت ، بالوحدة التي أشرنا إليها، الإطار المرجعي الأساسي الذي تكونت، انطلاقا منه، طرق جديدة للبحث في مجال العلوم والمعارف غيرت جوهريا، على امتداد الثلاثين سنة الماضية، التصور القديم لتاريخ وفلسفة العلوم. وتكفي مجرد الإشارة إلى التراث الفكري لميشال فوكو دلالة على هذا التغيير الحاسم لتبرز كل الأهمية الإستراتيجية التي يكتسيها فكر كانغلهم في الثقافة الفلسفية المعاصرة.
لقد كان أول ما وسم البحث الجديد في تلك المجالات يتمثل في هذا المتطلب البسيط، ولكن الذي ظل مع ذلك هامشيا عند الإبستمولوجيين الذين كتبوا في تاريخ العلوم، وهو : الاحترام الواجب والصارم لواقع العلم الحقيقي. فالإبستمولوجيون الجدد يشبهون الاثنولوجيين الذين ينصرفون إلى البحث في "الميدان"؛ فهم يذهبون لرؤية العمل العلمي الفعلي عن قرب، ويرفضون الحديث عما يجهلونه أو ما لا يعرفونه إلا بطرق غير مباشرة. وهذا ما قدم عنه باشلار أمثل نموذج بالنسبة للعلوم الفيزيو-كيميائية، وهو نفس ما تصدر عنه كل أعمال كانغلهم بخصوص العلوم البيولوجية.
وبالترابط مع هذا الاقتضاء، هناك مستلزم آخر لا يقل أهمية عن السابق، لعله شكل بوضوح أبرز مظاهر ذلك التغيير؛ ويتمثل في الاستحالة المبدئية للتعامل مع مجموعة أخبار، أو مع فلسفة للتاريخ على أنها بالفعل تاريخ. وهنا أيضا، فلقد انصرف المؤرخون الجدد إلى الميدان ، ميدان التاريخ الفعلي ليكتشفوا بأن الأشياء لا تقع في التاريخ كما كان يعتقد، وخصوصا في مجال تاريخ الأفكار والعلم والفلسفة… ومن هنا، فإنه لا يمكن أن ينفصل التاريخ الحقيقي للعلوم عن الإبستمولوجيا، لأنـها تشكل شرط إمكانه الأساسي؛ ولكنه تاريخ حديد لم تعد له أية صلة بمفهوم التاريخ كما شغلته فلسفات للتاريخ سابقة، على النمط المثالي للتقدم التراكمي أو الجدلي… المتصل، الذي ليس من الضروري أن يجد فيه السؤال العلمي المطروح في لحظة ما جوابه الحتمي في اللحظة التي تليها. وإذا كان باشلار قد دشن القول فعلا في مفهوم هذا التاريخ الجديد، فإن الذي لا مراء فيه هو أن كانغلهم قد ارتقى به إلى مستويات عالية جدا من التفكير والتنظير؛ وهي التي بلورت ، فيما نعتقد، من جملة ما بلورت، الإمكانية التاريخية لقيام الفكر الفوكوي بكل غناه وفعاليته، وحتى تناقضاته.
لذلك يقرر ميشال فوكو نفسه بأنه لا يمكن فهم ما حدث خلال العقود الثلاثة الماضية في فضاء الثقافة الفرنسية، وخاصة على امتداد الستينات، دون إدراك الدور الأساسي الذي لعبته الفلسفة فيه. بيد أن الفلسفة ذاتها لم يكن لها أن تلعب مثل هذا الدور لولا الحضور القوي فيها لفكر جورج كانغلهم، كتابة وتدريسا. يقول فوكو: "فلنسحب كانغلهم ولن يصبح بوسعنا عندئذ أن نفهم شيئا كثيرا في سلسلة كاملة من النقاشات التي دارت بين الماركسيين الفرنسيين." (3).
فعلا لقد كان الحدث النظري الفلسفي الكبير الذي طغى على البحث الفلسفي خلال هذه الفترة ووجهها الوجهة المعروفة، هو الذي تمثل في الانشغالات النظرية بإعادة قراءة " رأس المال" لمجموعة من الفلاسفة الماركسيين تجمعوا حول لوي ألتوسير. إلا أن إعادة القراءة هذه لم تكن لتتم بالصورة التي كانت تتم بـها يومئذ لولا اعتمادها، فيما اعتمدت عليه، على مجمل الدرس الذي كانت تبسطه أعمال جورج كانغلهم في تاريخ العلوم. وقد عبر ألتوسير نفسه عن هذا الاعتماد في شكل دين نظري عندما كتب يقول:"إنني أصر على الاعتراف بالدين، الصريح أو الضمني، الذي يربطنا بـهؤلاء المعلمين الكبار في قراءة آثار المعرفة، الذين كانوا بالنسبة لنا باشلار وكافاياس بالأمس، والذين هم بالنسبة إلينا اليوم كانغلهم وفوكو." (4). ويتابع فوكو حديثه السابق قائلا: "ولن يكون بوسعنا كذلك أن ندرك كل ما هو متميز في أعمال بعض السوسيولوجيين من أمثال بورديو وكاستيل وباسرون؛ هذا الشيء الذي يميزهم بقوة في مجال البحث السوسيولوجي؛ بل إننا لن ندرك كل غنى ذلك العمل النظري الهام الذي قام به المحللون النفسانيون، وبخاصة اللاكانيين. واكثر من ذلك، ففي كل جدل الأفكار الذي سبق أو أعقب حركة ماي 1968، فإنه من السهل العثور على موقع أولئك الذين تكونوا، من قريب أو بعيد، على يد كانغلهم" (5).
هكذا يحتل كانغلهم وممارسته المتميزة لتاريخ العلوم مكانا مركزيا في كل مناظرات ومجادلات، لا الفكر الفرنسي وحسب، بل ربما أيضا الفكر الغربي المعاصر. وبطبيعة الحال، فإن مثل هذا الحضور المحوري الوازن يطرح مسألة الأسباب التاريخية التي جعلته فاعلا ومؤثرا إلى هذا الحد في الحاضر الراهن.
ينتمي كانغلهم إلى تيار فكري كانت الفلسفة تنصرف فيه أساسا إلى التفكير في المعرفة والعقلانية والمفهوم، وذلك بالتعارض مع تيار آخر كان الاهتمام الفلسفي فيه ينصب على التجربة والمعنى والذات، يتمثل التيار الأول في كل من كفاياس (6) وباشلار وكويري، بينما ينتسب الثاني إلى سارتر وميرلوبونتي عبر قراءة معينة لهوسرل في اتجاه فلسفة للذات (7). وعلى الهيمنة التي مارسها هذا الاتجاه الأخير عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، فإن خط التفكير، في الاتجاه الأول، هو الذي كانت تتكون داخله المعالم الأساسية التي ستعيد بناء الفكر الفرنسي المعاصر جذريا من خلال الهزات المعرفية والمنهجية التي أحدثتها فيه. ومن ثم، فلقد ارتبط صميميا بالحاضر وقضاياه الفكرية الكبرى.
ويرى فوكو بأن أحد الأسباب الأساسية في ذلك تكمن في كون أن الفلسفة كانت قد طرحت لأول مرة، في القرن الثامن عشر، على التفكير العقلاني مسألة أسسه وقدراته ومن ثم كانت قد جعلت ، بما هي أكثر أشكال هذا التفكير تقدما، من راهنيتها ومن العلاقة بسياقها التاريخي أحد أهم تساؤلاتـها الجوهرية. ولقد كان هذا يشكل الموضوع المركزي للتساؤل حول "ما هي الأنوار؟"، الذي كان كانط قد قدم عنه أحد أهم الأجوبة. ولعل هذا الموضوع بالذات هو الذي منح لتاريخ العلوم، منذ ذلك الوقت، المكانة الفلسفية التي ميزته إلى اليوم. إلا أن مساءلة الفلسفة لنفسها عن حالتها الراهنة وعما يمكن أن ينتج عن ذلك من آثار على مجمل أوضاع الفكر بعامة، سرعان ما قادت الجواب عن "ما الأنوار؟" إلى أبعد من ذلك، حيث نتج عن هذا الوضع الدقيق أن مسألة "الحاضر" غدت تشكل، بالنسبة للتفكير الفلسفي، تساؤلا محايثا لا يمكنه الاستغناء عنه. فإلى أي مدى ترتبط اللحظة (الحاضرة) بسيرورة تاريخية؟ وإلى أي حد تكون الفلسفة هي المرجع الذي ينبغي فيه للتاريخ ذاته أن يقرأ في شروطه؟ على هذا النحو، صار التاريخ إحدى أعظم مشكلات الفلسفة.
غير أن المصير الذي آلت إليه مسألة "الأنوار" هذه لم يكن واحدا ولا متماثلا في ثقافات أوروبا. فعلى حين أن الفلسفة الألمانية كانت قد بلورتها في صورة تفكير تاريخي وسياسي حول المجتمع انصب أساسا على مشكلة التجربة الدينية والأخلاقية في علاقتها بالاقتصاد والدولة، كان تاريخ العلوم، في فرنسا، هو الذي اشتغل كدعامة لمسألة "الأنوار" في بعدها الفلسفي. يقول فوكو: "لقد كانت انتقادات سان-سيمون، ووضعية أوغست كونت وتابعيه، تشكل، بصورة معينة، طريقة لاستعادة تساؤل كانط، ولكن على مستوى تاريخ عام للمجتمعات. فالمعرفة والاعتقاد، والشكل العلمي للمعرفة والمضامين الدينية للتمثل، أو الانتقال من ما قبل العلمي إلى العلمي، وتكون سلطة تاريخ عام للأفكار والمعتقدات، وأصل وقيمة العقلانية : كل هذا شكل الصورة التي انتقلت بواسطتها، من خلال الوضعية-وكل من وقف ضدها-، ومن خلال المجادلات الصاخبة حول العلموية، والمناقشات حول العلم الوسطي، مسألة "الأنوار" إلى فرنسا". (8)
وفي هذا السياق، فإن أعمال كويري وباشلار، كفاياس وكانغلهم (التي تشكل، في هذا الإطار تقليدا متميزا داخل الفلسفة الفرنسية يتحدد بلا وضعيته الضد تطورية ينتمي إليه فوكو نفسه)، على الرغم من اختلاف مراكز اهتماماتها ضمن قطاعات جهوية جد محددة في تاريخ العلوم والإبستمولوجيا، فإنها قد شكلت مصادر أساسية، على جانب كبير من الأهمية، لتبلور وقيام ما هو أصيل وجديد في الإنتاج الفلسفي المعاصر. تماما كما فعلت، ولو في سياق مختلف، "النظرية النقدية" لمدرسة فرانكفورت الألمانية (هابرماس، أدورنو…الخ). ولعل هذا راجع أساسا إلى أن هذه الآثار الفكرية الهامة كلها إنما كانت تشغل، بأساليب مختلفة وضمن توجهات منهجية ومفاهيمية متباينة، قضية "الأنوار" بما هي قضية الفكر الفلسفي منذ مائة وخمسين عاما. مما جعل التساؤلات واحدة هنا وهناك، والإنشغالات متقاربة، إن لم تكن متماثلة؛ ف " في تاريخ العلوم الفرنسي، كما في النظرية النقدية الألمانية، يتعلق الأمر، في العمق، بفحص عقل حملت استقلالية بنيته في ذاتها تاريخ الوثوقيات والاستبدادات، وبالتالي عقل لا سبيل له للانعتاق إلا بشرط أن يتمكن هو نفسه من التحرر من ذاته." (9)
ولما كان تاريخ العلوم قد حمل في عمقه، جينيالوجيا، مسألة " الأنوار"؛ فلا غرابة في أن يحتل هذا التاريخ، وخصوصا في صيغته الكانغلهيمية، مركز الصدارة الذي أشرنا إليه.
لقد تميز العمل الهائل الذي أنجزه كانغلهم، على مدى أربعين عاما، بانصرافه أساسا إلى دراسة تاريخ البيولوجيا وتاريخ الطب. ولقد شكل هذا الاهتمام تحولا نوعيا في المجالات التي كان يمارس فيها التأريخ للعلوم لزمن طويل، التأريخ الذي انشغل بعلوم معينة (كالفيزياء والكيمياء والرياضيات…) كانت تستمد مكانتها المتميزة، من علاقات تأسيسها ومن مستواها العالي في الصياغة الصورية وقابليتها اللامتناهية للترييض. إلا أن كانغلهم قد حول هذا الانشغال التاريخي نحو مجالات أخرى لم تكن فيها المعارف افتراضية-استنتاجية دائما؛ معارف ظلت لوقت طويل وثيقة الصلة بالتخييلات ومرتعا خصبا لصراع التأويلات الإيديولوجية على عمق لاهوتي متجذر، ومن ثم معارف طرحت على الفلسفة والتاريخ أسئلة كانت غريبة على العادات الفلسفية المألوفة : إنها مجالات المعرفة البيولوجية، هذا مع العلم بأن الأهمية النظرية للمشكلات التي يثيرها تطور علم ما لا تتناسب ضرورة مع درجة الصياغة الصورية والرياضية التي يصل إليها. والحقيقة أن كانغلهم، عندما عمل على إنجاز هذا التحويل، فإنه لم يوسع كثيرا من مجال تاريخ العلوم وحسب، حيث جعله يشمل المعارف البيولوجية، بل إنه قد أعاد بناء مفهوم هذا التاريخ نفسه، في سيرورة هذا التوسيع، حول جملة من النقاط الإستراتيجية غيرت تماما من صورته المألوفة لدى ممارسيه.
يقدم التاريخ الجديد للعلوم ذاته عند كانغلهم، في البداية، على أنه بالأساس تاريخ انفصالي. ومسألة الانفصال التاريخي ليست جديدة، ولم يكن كانغلهم قد استحدثها لأول مرة؛ فلقد سبق لكويري وباشلار، كل على شاكلته ، أن بلورا تصورا متكاملا عن الانفصال و اللا إستمرار، وشغلاه في الدراسات التاريخية التي أنجزها كل واحد منهما حول موضوعات معينة. إلا أن كانغلهم، عندما يستعيد هذه المسألة، فإنه كثيرا ما يشدد على أن الكشف عن الانفصال التاريخي لا يشكل مسلمة منهجية لديه، ولا نتيجة من نتائج البحث الذي يقوم به، بل إنه قد لا يعدو أن يكون كيفية إجرائية تلتحم أوثق التلاحم بتاريخ العلوم نفسه، لأن موضوع هذا التاريخ، بما هو موضوعه المتميز، هو الذي يقتضيها اقتضاء.
إن تاريخ العلوم، كما يتصوره كانغلهم، ليس تاريخا يحكي الانبثاق التدريجي لحقيقة قائمة منذ الأزل في الأشياء أو في العقل، ولا هو تاريخ بسيط للأفكار والشروط العامة التي تظهر فيها تلك الحقيقة قبل أن تزول لتترك المكان لغيرها. إن تاريخ العلوم لا يمكنه أن يعتبر الحقيقة العلمية كمكسب نهائي تحقق مرة واحدة وإلى الأبد، ولكن لا يمكنه كذلك أن يصرف النظر عن كل ماله علاقة بالحقيقة من قريب أو بعيد، وعن التعارض القائم دوما بين الحقيقي وغير الحقيقي. لذلك، فإن ما يشكل خصوصية وأهمية هذا النوع من التاريخ يتحدد، جوهريا، بالنسبة لكانغلهم، في مرجعية نظام التفاعل التاريخي بين الحقيقة والخطأ. ولعل هذا هو ما يشكل، في الوقت ذاته، موضوع الخطاب التاريخي نفسه فيه.
وعليه، فإن ما ينبغي أن يهتم تاريخ العلوم بالتأريخ له ليس هو موضوع هذا العلم أو ذاك، وإنما تاريخ "الخطاب الذي يقول الحقيقة" في العلم؛ بمعنى الخطاب الذي يصحح ذاته وينجز حول ذاته ذلك العمل التجديدي التركيبي التصحيحي المتواصل الذي تتغياه مهمة قول الحقيقة. وفي إطار ذلك، فإن الخطأ لا ينمحي بفعل قوة تمتلكها الحقيقة التي تخرج تدريجيا من "الظلمات" إلى "النور"، ولكنه ينمحي من خلال تشكل طريقة أخرى، جديدة، لقول الحقيقة؛ لأن الحقيقي هو ملفوظ القول العلمي في خطاب يضبطه تصحيحه النقدي. وتأسيسا على هذا، فإن الروابط التاريخية، في تاريخ العلوم عند كانغلهم، التي يمكن لمختلف لحظات علم ما أن تقيمها مع بعضها البعض، لا مناص من أن تتخذ، بالضرورة، شكل تلك الانفصالات التي تكونها التعديلات وإعادات السبك، والقطائع وتكون الأسس الجديدة، وتغييرات مستويات التناول، بل والانتقال إلى صنف جديد من الموضوعات…
ولما كان تاريخ العلوم هو تاريخ خطاب الحقيقة، كما أشرنا، فإن المنهج الذي يوافقه ويتلاءم مع موضوعه هو "المنهج الارتدادي. إن كانغلهم، وهو يقرر ذلك، يستعيد التصور الباشلاري العام للإرتداد التاريخي؛ ولكنه يحدث فيه تطورات جديدة. فالمنهج الارتدادي، كما يستخدمه كانغلهم في تأريخه للعلوم، لا يتعلق بالبحث عن الحقيقة المعترف بها اليوم كحقيقة، ثم الانطلاق منها للتساؤل عن اللحظة أو اللحظات، التي ابتدأ منها، وقع الحدس بها من حيث هي كذلك ، والسبل التي تم سلكها والعوائق التي تم تجاوزها، للكشف عنها وإثباتها. ولكن الارتداد يعني " أن التغييرات المتلاحقة لخطاب الحقيقة تنتج بدون انقطاع إعادات سبك في تاريخها الخاص: فما ظل مأزقا لزمن طويل يصبح مخرجا ذات يوم؛ وما كان مجرد محاولة جانبية يغدو مشكلة مركزية تبدأ كل المشكلات الأخرى في الدوران حولها؛ وما كان نهجا منحرفا بعض الشيء يضحى قطيعة أساسية" (10).
على أن تاريخ الانفصاليات هذا هو نفسه انفصال، لذلك تقوم الحاجة دوما إلى استعادته للاشتغال عليه بأشكال جديدة. ولكن هل معنى ذلك أن المؤرخ الوحيد، المؤهل بطبيعة عمله، للقيام بالتأريخ لعلم ما، لا يمكن أن يكون إلا العالم نفسه؟ إن الجواب الكانغليمي عن هذا السؤال يشكل، في الواقع، إحدى النقاط الأساسية في منهجية التفكير الإبستمولوجي لديه. ذلك أن المسألة ، في الأساس، هي مسألة "وجهة نظر": فتاريخ حقيقي للعلوم لا يمكنه أبدا أن يكتفي بالانطلاق مما كتبه علماء الماضي عن مشكلات علمهم، ولا مما اعتقدوا أنه يشكل الحقيقة أو الخطأ، ولا مما راهنوا على أنه صواب أم لا…؛ على الرغم أن من بينهم من حاول أن يكتب تاريخا للعلم الذي يمارسه بكيفية علمية متقدمة؛ ولكنها تبقى مجرد استثناءات (11). ووجهة النظر المقصودة هذه إنما هي، بين المؤرخ الصرف والعالم ذاته، وجهة نظر الإبستمولوجي، أي وجهة النظر التي تبرز، من خلال العلاقات المتنوعة والمختلفة لمعرفة علمية، ما يدعوه كانغلهم ب" السير المنظم الكامن" (12)؛ بمعنى أن سيرورات إلغاء وانتقاء الملفوظات والنظريات والموضوعاتتتم في كل لحظة بالنظر إلى ضابط معين؛ ولا يمكن لـهذا الأخير أن يتماثل مع بنية نظرية أو مع نموذج راهن، وذلك لأن الحقيقة العلمية الراهنة لا تشكل في تلك السيرورات سوى إحدى حلقاتـها.
وجهة نظر الإبستمولوجيا، ولكن لا بمعنى أن الإبستمولوجيا هي النظرية العامة لكل علم ممكن، بل البحث في المعيارية الداخلية الخاصة بالعمل العلمي كما يتم بالفعل. ومن ثم، فهي تفكير نظري ضروري هو الذي يمكن تاريخ العلوم من أن يكون على غير التاريخ العام. وهذا يعني، بصفة عامة/ أن القيام بتحليلات إنفصالية في تاريخ العلوم، وعلوم الحياة بوجه خاص، يترافق باستمرار، في منهجية كانغلهم، مع استجلاء أساسي للعلاقة التاريخية بين العلم والإبستمولوجيا.
من هذا المنظور المنهجي، التاريخي والإبستمولوجي، كتب كانغلهم دراسات حاسمة في تاريخ علوم الحياة. ولعل أهم ما يمثل طابع الحسم فيها هو أنها أبرزت وحللت وفكرت بعمق فكري وصفاء نظري نادرين المعالم الأساسية التي تخصص ذلك التاريخ وتميزه بالعلاقة مع تاريخ علوم أخرى. تاريخ خاص يطرح، من حيث تميزه ذلك، مشكلات خاصة على ممارسته، تبرز من بينها في المقام الأول مشكلة مفهومه وزمانيته. ولم يغفل كانغلهم يوما، أو تجنب طرح هذه المشكلات والتفكير فيها بما هي كذلك بالتوازي مع إنجاز أبحاث في منتهى الدقة والأهمية، الأمر الذي جعل تأريخه للبيولوجيا يحتل تلك المكانة المرموقة، نظريا في سياق فكر اليوم، وفلسفيا في فضاء انتقال علوم الحياة لاحتلال مكان إستراتيجي في وضع الإنسان المعاصر.
إن من بين تلك المشكلات المشكلة الكبرى المتعلقة بخصوصية الحياة وإمكانية المعرفة بها. لقد كان الفكر البيولوجي، منذ نهاية القرن الثامن عشر، يعتبر بأن هناك نوعا من الوحدة بين الفيزيزلزجيا كدراسة لظواهر الحياة وبين الباثولوجيا كتحليل للأمراض، وحدة كان يتصور أنها هي التي تمكن من الارتقاء إلى فهم حقيقة الظواهر المرضية انطلاقا من تحليل السيرورات الحياتية الطبيعية، أي دراسة المرض على خلفية الحالة السوية. إلا أن كانغلهم يبين بأن هناك ظواهر، في معرفة الحياة، تميز هذه المعرفة أو تضعها على مسافة بعيدة من المعارف التي تحيل على المجالات الفيزيائية والكيميائية. ذلك أن المعرفة بالحياة لم تتمكن من الوعي بمبدإ قيامها إلا حينما عملت على صياغة الأسئلة الأساسية المتعلقة بمجال الظواهر المرضية. ومعنى هذا أنه لم يكن من الممكن تكوين علم بالحياة والكائن الحي إلا عندما أخذ في الاعتبار، كشيء أساسي بالنسبة لموضوعه، إمكانية المرض والموت والتشوه والشذوذ والخطأ. وعلى الرغم من الأهمية القصوى التي يكتسيها البعد الفيزيو-كيميائي في دراسة الآليات الطبيعية لـهذه الظواهر، فإن مكانها لا يمكنه أن يتعين ويتحدد، في نظر كانغلهم، إلا داخل خصوصية معينة، قد يؤدي التنكر لـها بعلم الحياة إلى إقصاء ما يشكل بالذات موضوعه وحقل ممارسته المميزة.
ولعل هنا تكمن المفارقة الكبرى في علوم الحياة؛ المفارقة التي يعيها كانغلهم، والتي قاد تفكيره لها بصورة جديدة إلى نتائج غير متوقعة، كان لا بد لها من أن تصدم قناعات الفلاسفة والبيولوجيين على حد سواء. فتكون البيولوجيا كعلم يدين بالشيء الكثير إلى تدخل العلوم الفيزيائية-الكيميائية، وإلى استخدام الأداة الرياضية…؛ ولكن هذا التكوين لم يكن لينجلي في سيرورته، وفي نفس الوقت، إلا من خلال جوهرية تميز المرض والحياة. والحال أن هذا التميز يحمل إسما محددا في تاريخ البيولوجيا، وهو "الحيوية". هنا، على هذا المستوى بالذات، يبرز أحد أوجه أصالة التفكير الإبستمولوجي لكانغلهم الفيلسوف : فضد تقليد فلسفي كامل، وضد توجه منهجي راسخ عند البيولوجيين أنفسهم منذ أمد طويل في صورة ما كان يدعى ب "النزعة الآلية"، يبين كانغلهم بأن "الحيوية" لعبت، ولا زالت تلعب، في تاريخ البيولوجيا ، دورا جوهريا لا على مستوى اشتغالها كمرشد نظري للمشكلات التي ينبغي أن تطرح، أو حل تلك التي يجب أن تحل وحسب- كالتمسك بالصدور عما يشكل أصالة الحياة دون الذهاب إلى حد الإقرار بأن الحياة تشكل شيئا متعاليا، ميتافيزيقيا، مستقلا كليا عن عالم الطبيعة-، وإنما كذلك كموجه نقدي يتيح التصدي لكل محاولات إرجاع أو اختزال ظواهر الحياة إلى ما لا يدرك قيمة وأصالة الحياة.
واعتبارا لما سبق من أن علوم الحياة تستلزم طريقة معينة لكتابة تاريخها، فإن علوم الحياة في تاريخها تطرح كذلك، وبكيفية خاصة، المسألة الفلسفية المتعلقة بالمعرفة؛ بمعنى أن معرفة الحياة تطرح مشكلة علاقتها بالحياة نفسها.فإذا كان الفيزيائي لا يرى في الحياة والموت سوى ظواهر طبيعية كبقية الظواهر الأخرى، فإن ما يميز عالم الأحياء هو أنه يتعرف، أثناء عمله، على علامة موضوعه الخاص، ومن حيث إنه ينتمي أساسا إلى هذا الموضوع؛ لأنه يحيا ويفصح عن طبيعة الحياة هذه، ويمارسها ويطورها في نشاط معرفي محدد. لذلك، فعلى البيولوجي، أيا كانت دقة الوسائل الفيزيائية والكيميائية والرياضية التي يستعملها لمعرفة الحياة، أن يدرك تمام الإدراك ما يجعل من الحياة موضوعا متميزا للمعرفة؛ ومن ثم ما يجعل أن هناك، ضمن الكائنات الحية، كائنات يمكنها أن تعرف لأنها بالذات حية، وأن تعرف الحياة نفسها في آخر المطاف. ولذلك، فإن ما يسعى إليه كانغلهم، وهو يفكر في هذه المشكلة، هو تحديد دور قيمة المفهوم في الحياة، من خلال تحليله للمعرفة بالحياة؛ أي تحديد موقع ووظيفة المفهوم من حيث إنه أرقى أساليب تعقل الكائن الحي الإنساني للوسط الذي يعيش فيه، والذي لا يفتأ بواسطته يشكل ذلك الوسط ويعيد تشكليه باستمرار.
على أن هناك عند كانغلهم، في قلب هذه الإشكالية الفلسفية مسألة الخطأ. فإذا كان تاريخ العلوم هو تاريخ التعارض بين الحقيقة والخطأ، فإن تاريخ علوم الحياة، عندما ينتهي إلى تصور الحياة على النحو الذي ذكرنا، يعتبر أن الحياة هي، في أساسها، "القدرة على الخطأ". وربما أن الشيء الذي تجب مساءلته، انطلاقا من هنا، هو أن هناك خطأ فريدا جعل الحياة تنتهي، مع الإنسان، إلى كائن لا مكان له سيظل محكوما عليه بالتيه والخطأ. لذلك، يرى كانغلهم بأن الخطأ هو الأصل في تكون الفكر البشري وتاريخه. وهكذا، فالحقيقة نفسها عند كانغلهم، إذا نظر إليها على مستوى الزمن اللانهائي للحياة، ليست سوى أحدث الأخطاء ؛ وأن التعارض بين الحقيقة والخطأ إنما يشكل الطريقة الأكثر تميزا للحياة التي اخترعتها حياة حملت في أصلها احتمال الخطأ.وعليه، فإن الخطأ عند كانغلهم، فيلسوف الخطأ، هو المصادفة الدائمة التي يلتقي حولها تاريخ البشر ومصير الحياة.
فلسفة الخطأ، وفلسفة المفهوم، مفهوم الحياة: ألا تنبغي إعادة صياغة كبريات المشكلات الفلسفية انطلاقا من هنا : مشكلة الذات، ومشكلة المعرفة، ومشكلة العقل والعقلانية…، ما دام أن المعرفة تتأصل في أخطاء الحياة ·
هوامـش
1 - G.Canguilhem, "Etudes d'histoire et de philosophie des sciences scicens", Vrin, Paris, 1979, p.12.
2 - G.Canguilhem, “Idéologie et Rationalité dans l'histoire des sciences de la vie", Vrin, Paris, 1977, p. 20.
3 - Michel Foucault, "La vie : l’expérience et la science", Revue de Métaphysique et de Morale, 90° Année, n° 1, 1985, p.3.
4 - Louis Althusser, "Lire le Capital”, PC. Maspéro, Paris, 1971, T1, p. 13, note 1, p. 52.
5 - M.Foucault, artic. Cit, pp. 3-4.
6 - Jean Cavaillès (1903-1944)
واحد من كبار مناطقة هذا العصر، أحد كبار إبستمولوجيي الرياضيات. شكلت أبحاثه في إبستمولوجيا الرياضيات ثورة فكرية ومنهجية غيرت مجرى التعامل مع هذا العلم. من مؤلفاته الأساسية :
“Méthode axiomatique et formalisme. Essai sur le problème du fondement des mathématiques”, PUF, 1938.
وقد صدر بعد موته :
- “Sur la logique et la théorie de la science”, PUF, 1947.
وحول كفاياس، انظر مقالة باشلار في :
“L’Engagement Rationaliste”, PUF, Paris, 1972, pp. 178-190.
7 - انظر على سبيل المثال النقاش الذي دار بين فوكو وسارتر في :
“Le Magazine Littéraire”, n° 5, 14 (1966), n° 46 (1968).
8 - Foucault , Ibid.
9 - خصص فوكو أحد دروسه لعام 1983 بالكوليج دوفرانس لتفسير نص كانط " ما الأنوار؟" ( 1784) والتعليق عليه. وفيه يبرز مسألة الحاضر هذه,
انظر مقتطفات أساسية من هذا الدرس في :
“Le Magazine Littéraire”, n° Mai, 1984, pp. 35-39.
10 - G.Canguilhem, "Idéologie e t Rationalité…”, op.cit, p.15
11 - Cf. François Jacob, “ La logique du vivant”, Gallimard, Paris 1970.
12 - Canguilhem, “Idéologie et Rationalité", op.cit, p.18.