أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيشرفنا أن تقوم بالتسجيل والمشاركة معنا
إذا أعجبك المنتدى يمكنك أن تضغط على زر أعجبني أعلى الصفحة .... شكرا لزيارتك
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيشرفنا أن تقوم بالتسجيل والمشاركة معنا
إذا أعجبك المنتدى يمكنك أن تضغط على زر أعجبني أعلى الصفحة .... شكرا لزيارتك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


(( الحكمــة لله وحــده ، وإنمـا للإنسان الاستطاعـــة في أن يكون محبًا للحكمة تواقًا الى المعرفة باحثًا على الحقيقة )) سقراط.
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  
ازرار التصفُّح
 البوابة
 الرئيسية
 قائمة الاعضاء
 البيانات الشخصية
 س .و .ج
 بحـث
المواضيع الأخيرة
» " فينومينولوجيا المعيش اليومي" من منظور المفكر مونيس بخضرة .
التأويل عند بول ريكور Emptyالإثنين أبريل 17, 2017 2:59 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  هكذا تكلم المفكر الجزائري " د . الحــــــــــاج أوحمنه دواق " مقاربات فلســـــفية " بين الضمة و الفتحة و الكسرة "
التأويل عند بول ريكور Emptyالسبت أبريل 15, 2017 2:26 am من طرف الباحث محمد بومدين

» كتاب فاتحة الفتوحات العثمانية
التأويل عند بول ريكور Emptyالخميس أغسطس 18, 2016 2:21 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

» برنامج قراءة النصوص العربية
التأويل عند بول ريكور Emptyالخميس أغسطس 18, 2016 2:12 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

» إشكالية الحرية فى الفكر الفلسفى
التأويل عند بول ريكور Emptyالخميس ديسمبر 17, 2015 11:19 pm من طرف soha ahmed

» المغرب في مستهل العصر الحديث حتى سنة 1603م
التأويل عند بول ريكور Emptyالأربعاء نوفمبر 25, 2015 8:24 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  هكذا تكلم المفكر الجزائري " د . الحــــــــــاج أوحمنه دواق " مقاربات فلســـــفية " بين الضمة و الفتحة و الكسرة "
التأويل عند بول ريكور Emptyالأربعاء نوفمبر 18, 2015 8:41 pm من طرف الباحث محمد بومدين

»  هكذا تكلم المفكر الجزائري " د . الحــــــــــاج أوحمنه دواق " مقاربات فلســـــفية " بين الضمة و الفتحة و الكسرة "
التأويل عند بول ريكور Emptyالأربعاء نوفمبر 18, 2015 8:33 pm من طرف الباحث محمد بومدين

»  هكذا تكلم المفكر الجزائري " د . الحــــــــــاج أوحمنه دواق " مقاربات فلســـــفية " بين الضمة و الفتحة و الكسرة "
التأويل عند بول ريكور Emptyالأربعاء نوفمبر 18, 2015 8:30 pm من طرف الباحث محمد بومدين

» دخول اجتماعي موفق 2015/2016
التأويل عند بول ريكور Emptyالجمعة سبتمبر 04, 2015 4:07 am من طرف omar tarouaya

» أنا أتبع محمد...
التأويل عند بول ريكور Emptyالإثنين يناير 19, 2015 3:08 pm من طرف omar tarouaya

» بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة
التأويل عند بول ريكور Emptyالإثنين ديسمبر 01, 2014 2:12 pm من طرف omar tarouaya

» مرحيا يالاعضاء الجدد
التأويل عند بول ريكور Emptyالسبت أكتوبر 11, 2014 11:16 pm من طرف omar tarouaya

» لونيس بن علي، التفكير حول الدين ضمن الحدود الإنسانية للمعرفة
التأويل عند بول ريكور Emptyالأحد أغسطس 31, 2014 12:55 am من طرف عبد النور شرقي

» تحميل كتاب الحلل البهية في الدولة العلوية الجزء الثاني
التأويل عند بول ريكور Emptyالخميس أغسطس 28, 2014 1:33 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

» في رحاب الزاوية الحجازية بسطيف
التأويل عند بول ريكور Emptyالأحد أغسطس 17, 2014 12:37 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

» العز والصولة في معالم نظام الدولة
التأويل عند بول ريكور Emptyالجمعة أغسطس 15, 2014 2:41 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير ( 12 مجلدا )
التأويل عند بول ريكور Emptyالخميس أغسطس 14, 2014 11:10 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  كتاب حول تاريخ الحضنة والمسيلة وما جاورها
التأويل عند بول ريكور Emptyالإثنين يوليو 28, 2014 11:23 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  كتاب مهم في الانساب الجزائرية
التأويل عند بول ريكور Emptyالإثنين يوليو 28, 2014 11:22 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

سحابة الكلمات الدلالية
الفيض اللغة فلسفة الانسان مقال الذاتية السؤال الفكر مقالة نظرية الفلسفة العالمية المغلق الظواهرية محمد المسلمين سقراط الحرب الامام البحث النسق المنطق الحيوان الموضوعية الفلاسفة الفلسفي

 

 التأويل عند بول ريكور

اذهب الى الأسفل 
4 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
linda
عضو ممتاز
عضو ممتاز
linda


عدد المساهمات : 195
التقييم : 24
تاريخ التسجيل : 18/02/2011
العمر : 35

التأويل عند بول ريكور Empty
مُساهمةموضوع: التأويل عند بول ريكور   التأويل عند بول ريكور Emptyالخميس فبراير 24, 2011 7:23 pm

بول ريكور ومسارات التأويل
د.عمارة ناصر

تميزت الفلسفة المعاصرة بخاصية "الحَديّة Maximalité" أي بدفع المفاهيم والنظريات والمذاهب إلى أطراف متباعدة من العقل، وهو ما أدّى إلى تمزق الذات بوصفها القاعدة العقلانية المشتركة لبناء الحداثة، لأنه ومنذ ديكارت مرَّ الكوجيتو، في مساره التحققي، بعثرات وتصدعات وجروح خلفتها تأويلات متباينة وثبّتتها في جسد الخطاب الفلسفي حجاجيات هيمنت على الموضع الأنطولوجي للذات بفعل تراكم الأفهام والنصوص، ممّا خلق العتامة في اللغة فلمْ نعدْ نسمع كلام الذات أو نرى الأشياء بوضوح، وانزلق تاريخ الفكر عن تاريخه فأصبح يتحرك خارج أطره التكوينية وبناءاته التراثية في مجال الحداثة المشوّه والمضطرب.
إن أزمة "الحدّية" في الفكر الفلسفي المعاصر، وإن كانت ترتبط بعوامل تاريخية فاعلة كالصراع بين المدارس الفرنسية والألمانية والإنجليزية، إلا أنها ترتبط كذلك بالطابع البلاغي للفلسفة بوصفها محبة الانتصار (فيلونيقا)، أي بوصفها آراء متنافرة تبحث عن جهويات حديّة للتموقع وضرب الآخر ودفعه للابتعاد قدر الإمكان وفق قاعدة خفية مفادها أنه "بقدر ما يختفي رأي الآخر يظهر رأيي"، حتى أمكننا تسمية هذه الأزمة بالنزعة الحديّة (Maximalisme) والتي نخرت العقلانية المعاصرة في جانبها النظري ، إذ تمّ تمزيق الذات وخلخلة الفهم وجَرح الكوجيتو بفعل الضربات الموجهة إلى علاقة الذات بالوجود، فما عادت الذات تلعب دورها المحوري في الكون أو ترسم نقطة انطلاق فلسفية تنبني عليها حقيقة " أنا أفكر، أنا موجود "، وتحصل هذه الحقيقة في لحظة تأملية شاملة.
أما في الجانب العملي، فإن أزمة "الحديّة" أفقدت المشروع الكانطي طموحه العملي في تأسيس الأخلاق وأفرغت المشاريع الإيديولوجية من حمولتها الرمزية، كما جعلت من "الفعل" وضعا هشًّا في صورة الحقيقة ممّا أدى إلى تضخّم الشيء وتعاظمه أمام الذات، فظهرت أمراض الحداثة من اضطراب وخوف وتيْه وعدمية وهي أمراض الذات بالأساس الناتجة عن غمرها ونسيانها أو تحطيمها وتمزيقها حتى ما عادت تستطيع فهم نفسها بنفسها أو التعرف على ذاتها مباشرة بل أصبح ذلك عملا أسطوريا ليس له أية ارتباطات عقلانية.
فأيُّ جهدٍ هذا الذي يكشف عن الذات في مسارها الطويل والشاق من أساسها الأنطولوجي وشكل الوجود الذي ترتكز إليه إلى وضعها الإبستمولوجي داخل النصوص وأمامها وطبيعة علاقتها مع الفهم والإدراك وبنيات العقل عامة، إلى مرحلة انقذافها إلى العملي وتحققها في الأفعال ؟، وأيّة فلسفة تعايش هذه التحولات التي تبدو مشروعا ضخما؟ ، بالإضافة إلى تعدد التأويلات وصراعها ومزاحمة العلوم الإنسانية على الحدود المتاخمة للفلسفة إلى درجة أشرفت فيها الفلسفة على بؤسها بالمعنى الماركسي . وكيف السبيل إلى ردم الفجوات وترميم التصدعات وتضميد الجروح التي أحدثتها التأويلات المتصارعة في جسد الذات؟ وكيف الطريق إلى ترتيب البيت التأويلي بما يسمح بجبر الكوجيتو المكسور وإعادة بناء العقل وتهذيبه، ودفع شرور الواقع وقلقه ؟
إنها لمَهمّة صعبة ومضنية تحتاج إلى سعي فلسفي مفتوح على جبهات متعددة، ينخرط في تأسيس أنطولوجي لا يُفلت من قبضة هيدغر ومشاركٌ بفعالية في المخاضات المعرفية للعلوم التجريبية والإنسانية ومحاورٌ للنصوص والتأويلات على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها، ومساهمٌ في القضايا السياسية والإيديولوجية وحاملٌ همَّ الحياة الأخلاقية ومكامن الشر والقلق والبؤس في الحياة الاجتماعية المعاصرة والتي تنهش العقل وتنخر الإنسان وتجعل قيمه وأبعاده تتآكل ووجوده يتهاوى وينعدم وأفكاره تتهافت وتبتذل.
يبدو أن السير بحذرٍ بين حدود التأويلات المختلفة وتجميع شذاراتها الفلسفية، مَهمة كائن خرافي يملك ملكة قراءة سحرية وقدرة فائقة على الاستدعاء والاستحضار والكرّ والفرّ في طرق ملتوية ومنعطفات نظرية كثيرة ، ويصل إلى الحياة العملية ويبعث الفعل الأخلاقي فيها دون الانقلاب كليّا على طابعها الحداثي وخصوصيتها العقلانية وخطها التاريخي ومنجزاتها الحضارية وفتوحاتها الثقافية.
غير أن فيلسوفا مثل ريكور (Ricœur) تجرأ على تحمل هذه المهمة وأدائها بوصفها "مسؤولية" وهو ما يعني التزامه الصارم بمتابعة النصوص الفلسفية المختلفة والدخول في حوار متعدد الجبهات والمناحي والسياقات الدينية، السياسية، المعرفية، والفلسفية..، مستثمرا قراءاته التمفصلية بين التحليل النفسي، البنيوية، الماركسية، الوجودية، الفلسفة التحليلية، اللسانيات، وغيرها من المساحات النصية التي وظفها في بناء نموذج قرائي كثيف.
يذكرنا عمل ريكور بالعمل الذي قام به أفلوطين ومثيله في الثقافة العربية الإسلامية الفارابي، من خلال محاولة تقريب أرسطو من أفلاطون والجمع بين "رأييهما" في جهد نقدي تأويلي يريد رأب الصدع بين قطبي الذات في الخطاب الفلسفي الغربي، وهذا لا يعني أن ريكور يقوم بالمهمة نفسها، ولكنه مشروع لرأب الصدع بين الذات ونفسها والإطاحة بالأوهام التي أفرزها الطابع الحدّي للأطروحات والأفكار والنظريات، وتجميع المعنى وترميمه من خلال أنتروبولوجية فلسفية تجعل من التفلسف فعلا جماعيا مسؤولا.
لماذا ريكور؟ لأنه فيلسوف يقدّم فرصة لقارئه حتى ينخرط معه في حواراته، وهي ليست فرصة مجانية ولكنها تدفع إلى اكتساب ملَكة حجاجية تسمح بمرافقة الفيلسوف في منعطفاته، التأويلية ومواقفه الفلسفية والأخلاقية من القضايا والأطروحات التي يريد لها أن تتوحد تحت راية "هرمينوطيقا الذات".
إن ريكور يقدّم مثالا عن تجسّد الفلسفة من خلال حياة الفيلسوف نفسه، فحياة ريكور انعكاس تاريخي لمشروعه الفلسفي عبر مراحله ومحطاته المختلفة ، ذلك أنه يعتبر نفسه فيلسوفا مسؤولا وبهذا فهو شاهد فلسفي على العصر، إذ يجب استنطاقه ومعرفة الأسس الحجاجية لشهادته وبنائها الأنطولوجي والإبستمولوجي ومسوغات اللغة الفلسفية التي يقرأ بها ويكتب وفقها.
1 . سيرة الفيلسوف الشاهد :
إن الحاجة إلى متابعة سيرة ريكور ليست عملا تأريخيا، وإن تضمنته، ولكنها حاجة إلى استثمار هذه السيرة في شكلها المعطى كقاعدة أولية يقدمها الفيلسوف عن نفسه، تجنبا لمتاهات تأويلية يتيه فيها قارئه بعيدا عن أهدافٍ التزم بها هو نفسه. "فالسيرة الذاتية "Autobiographie" تتركز حول الهوية ومنه غياب المسافة بين الشخصية الأساسية للحكاية وبين الراوي الذي هو نفسه هذه الشخصية التي تقول أنا وتكتب بضمير المخاطب المفرد"[1] ولهذا خصص ريكور كتابه "Réflexion faite"* لتفسير محطات سيرته الذاتية، وتأمل مساره المعرفي والفلسفي الطويل زمنيا وسجاليا.
وُلد بول ريكور في 27 فبراير سنة 1913 بمدينة فالنس Valence الفرنسية ، توفيت أمه بعد ولادته بستة أشهر، و قتِل والده سنة 1915 على جبهة القتال في الحرب العالمية الأولى، وشكّل هذا الحادث بالنسبة إليه تأسيسا هاجسيا لمسألة مقلقة ومزعجة حول إشكالية الشر، الخطيئة والمعاناة، وهذا ما جعله يتبنى الشيوعية وهو شاب مراهق[2]، وهو ما سيدفع به إلى معالجة مشكلة العدالة والذاكرة ومسألة الإيديولوجيا والعنف.
أنهى دراسته الثانوية في رين Rennes ثم دخل جامعتها وحصل منها على شهادة الماجستير، جُند سنة 1939 للحرب العالمية الثانية في مواجهة ألمانيا وسُجن إلى غاية سنة 1945، وفي السجن استثمر وقته في قراءة كارل ياسبرس فكانت بداية مسار التعرف على الذات، وترجم كتاب هوسرل "أفكار Ideen"، ويُعتبر هذا مثالا نادرا عن الصداقة مع لغة العدو من خلال ضحيته[3]، وهذا يعني ترسخ مبدأ التعرف على الذات من خلال الآخر لدى ريكور، وهو مثال أيضا عن الفيلسوف الذي يستمع لفيلسوف آخر ويصغي إليه في لغته، حيث أن اهتمامه بالآخر يُغذي إبداعه للذات وفق قاعدة تقول إنه " لا توجد طريقة للخروج من الذات إلا بالتغرّب في الغير"[4]. وبعد إطلاق سراحه، شارك مع إمانويل لفيناس وموريس ميرلوبونتي وجون بول سارتر في التعريف بالفينومينولوجيا الألمانية، واستثمرها في سنوات الستينات في حواره مع العلوم الإنسانية وعلى الخصوص مع التحليل النفسي[5] غير أن هيمنة البنيوية وأفكار سارتر وجاك لاكّان حالت دون انتشار أفكاره في فرنسا.
في هذه السنوات ظل ياسبرس مُحاوره الصامت كما يقول[6] واختار منفاه الفلسفي إلى أمريكا الشمالية حيث انتقل إلى جامعة شيكاغو وبقي فيها حتى عام 1990، حيث تعرف عن قرب على الفلسفة الأنجلوسكسونية، وساهم في نشر الفلسفة التحليلية الأمريكية بفرنسا[7] التي ساعدته على فتح خطابه الفلسفي ومشروعه في تشييد الذات على الفعل وربطه بالفكر داخل دائرة تأويل واحدة بالإضافة على تأثره بإمانويل مونييه من خلال مفهومه للالتزام، الذي يشكل تمفصلا مرناً ودون انفصال بين الفكر والفعل.
ومنه تبادرت إليه ملامح مشروع إمكانية التفكير والفعل بواسطة الذات نفسها، كما يوضحه عنوان كتابه الصادر عام 1990 "الذات عينها كآخر" ، وهذا المشروع ليس إلا جزءا من حياته ومسيرته في البحث عن ذات الفلسفة من خلال ذاته، ولهذا اعتبر ريكور أن الأنا أو الذات تُثبت في أفعالها، "هذا ما يعلمنا إياه الشعور بالمسؤولية أن هذا الفعل هو أنا cette action c'est moi، فالذات تنقذف أمام نفسها واضعة نفسها كوسيلة لاستكمال مباشر لمشروع ما، فأنا ألتقي مع نفسي في مشاريعي، أنا متضمن في مشروعي ومشروعي هو أنا ومن أجلي"[8]، ومنه تقترب سيرته الذاتية من "كتابة للذات" بوصفها فعلا ومشروعا مرتبطا بتاريخيته، وتمتلك سيرته خاصيتها الزمنية من خلال الطابع السردي حيث أن "الزمن يصبح زمنا إنسانيا عندما يتمفصل بطريقة سردية، ويكون السرد دالا عندما يرسم معالم التجربة الزمنية"[9]، إذ يمكننا وصف ريكور بأنه "حكاية الذات المروية بلغة فلسفية"، وصورة انفهامها أمام النص وشكل من أشكال انعكاسها واسترجاعها في مرآة اللغة.
بعد أن نُفي ريكور عن المشهد الثقافي الفرنسي، عاد إلى فرنسا وتمت إعادة اكتشافه من جديد، ولكن في خضم الصراعات الفكرية والإيديولوجية العنيفة في فرنسا، فضّل ريكور الإصغاء والانتباه اللامتناهي للاتناسق الممكن في الحوارات، محترما حجج الخصوم، مبديا منهجا فكريا خصبا، قادرا على توجيه "الإنسان الخطاء" (L'homme faillible) بين مآسي الحداثة[10]، وينبني هذا المنهج على مبدأ الحوار حيث اعتبِر عمله "حوارات ومواجهات على حدود الفلسفة، فلم يكن يهتم بشروط إمكان الفلسفة، ولا بالبحث عن "ميدان" يكون في النهاية مجال عظمة وسيادة، بل اهتم بالمضامين الفلسفية التي تعمل بطريقة مستترة في الخطابات العلمية، الشعرية أو خطابات عادية"[11]، ذلك أن الفلسفة لا تستغني عن الحوار مع العلوم، بل يذكرنا ريكور بأن الفلسفة تموت إذا قطعنا حوارها مع العلوم الدقيقة والعلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية[12].
فقد ساهم ريكور في إثراء السجالات والحوارات التي يقوم بها الخطاب الفلسفي مع العلوم الأخرى على حدوده وهوامشه وهذا بفضل قدرة فائقة على القراءة، حتى سماه أحد الباحثين الفرنسيين بـ "غول القراءة Ogre de lecture"[13] وهو ما أفضى إلى تملّكه النص وقدرته على التواصل مع محاوريه عبر النصوص بطريقة تسمح بالخروج بنتائج عملية ، كما هو حال دلالة عنوان أحد مؤلفاته "من النص إلى الفعل".
لقد آمن ريكور بفكرة " التفلسف معاً Philosopher ensemble "[14] كقاعدة أساسية لاستعادة الذات في شروطها الأنطولوجية والإبستمولوجية، والتفلسف معاً لا يعني حدوث توافق جماعي ومشاركة في معنى واحد وإنما وجود حوار يشتغل فيه التأويل بحرية فيقود هذا التأويل عبر الحوار إلى معرفة الوجود المتناثر واستعادة الكوجيتو في شموليته، "فالتفلسف بالنسبة لريكور ليس فقط أن نكون منتبهين مع الفلاسفة الآخرين، ولكن أن نبحث ونستقبل معهم، وننفتح معهم على الوجود"[15] ومنه يضطلع ريكور بمسؤولية فلسفية تجعله في مقام الشاهد ، بالمعنيين الفلسفي والديني، بوصف الفيلسوف هنا مسيحيا بروتستنتيا، إلى الدرجة التي اعتبِر فيها "تيولوجيًّا متنكرا"[16]، إذ يمكننا مقارنة سيرته الذاتية باعترافات أوغسطين أو جون جاك روسو..، وكثيرٌ من مقولاته بالتعاليم الإنجيلية التي استلهم منها تصوراته حول الخير والعدالة والتسامح.
إلا أن التعاطي مع الفلسفة أعطى للفيلسوف طابعا التزاميًّا تجاه الواقع ومشكلاته وتنوّع معطياته الدينية والثقافية ، ولهذا يرى ريكور أن "الفيلسوف، بوصفه مفكرا مسؤولا، يجب أن يسلك طريقا وسطا بين الإلحاد والإيمان، لأنه لا يمكنه أن يكتفي بمزاوجة هرمينوطيقا اختزالية تطيح بأصنام الآلهة الميتة، وهرمينوطيقا موضوعية هي تكرار لموت الإله الأخلاقي وإعادة تجميع الأنبياء والمجتمع المسيحي الأولي، إن مسؤولية الفيلسوف هي التفكير"[17]، وبهذا فإن الهرمينوطيقا الإنجيلية كانت أقل حضورا في أعماله من الهرمينوطيقا الفلسفية وإن تضمنت نصوصه حوارا مع ما يسميه ريكور "بالفكر الإنجيلي"[18] أي الفكر الذي يشتغل على تفسير النصوص الإنجيلية وتأويلها ومنه فإن "الفيلسوف الأكثر استعدادا للحوار مع المفسر (للنص الإنجيلي) هو من يقرأ بارتياح كتب التفسير أكثر من نصوص التيولوجيا"[19]، فالنص الديني المفتوح بواسطة الفينومينولوجيا هو إمكان فلسفي بالنسبة لريكور لأنه يقدّم إحدى شروط قيام الفهم* منذ مبدأ " آمن كي تفهم وأفهم كي تؤمن " وشروط قيام الذات في كليتها دون أن يؤثر ذلك على استقلالية المفكر المسؤول.
إن الانفتاح الواسع الذي عرفته فلسفة ريكور على العلوم الإنسانية من جهة والحوارات الفلسفية الداخلية من جهة أخرى، جعل منه شخصية قلقة ، بالمعنى الوجودي، مغامرا على حدود الفلسفة ومفضلا الانعطاف غير المباشر للهرمينوطيقا على الأنطولوجيا المباشرة لهيدغر، وهو ما جعل فكره يعاني "عجزا في التجذير"[20] مما يعب من تلمس خط مميز يسير وفقه الفكر الفلسفي لريكور ولعلها ضريبة الانفتاح التأويلي على خطابات متعددة.
وفي مرحلة حياته الأخيرة يتجه ريكور، بتأثير من الفلسفة التحليلية، نحو استثمار "الحجاجية لطرد إغواءات اللغة الميتافيزيقية، وملئ الفضاء العمومي الذي لا يحتقره المفكر، وهذا ما يفسر اهتمام ريكور بأن يكون حاضرا في هذا الفضاء خلال السنوات الأخيرة من حياته"[21]، وهو يعني أن الذات من خلال الفيلسوف تسير نحو إنجاز أفعالها وتحقيق حريتها التي أتاحتها تأويلات مكثفة قادت إلى تحرير الفعل من النص ، والنص من الرمز ، والرمز من الاسطورة ، وتخليص العقل من الشر، والفلسفة من عدميتها ، والتاريخ من بؤسه، وعليه و"وفق الأسلوب الكانطي ما بعد الهيغلي وفي مواجهة بؤس التاريخ، يتجه ريكور بثبات مثل كانط نحو العملي"[22] محاولا زرعه بمفاهيم العدالة والآخر والمسؤولية، بوصف " العدالة آلية تسمح بموضعة الكلام وتقود إلى التفلسف"[23] بحيث تصبح العدالة منطق حياة ريكور كما هي منطق تفلسفه ومن العدالة كذلك حضور الآخر في فكره بشكل يتعايش سلميا مع الذات ويدفعها إلى إخراج ملكات الإدارة والقدرة والوجود والحياة.
لقد اتضح أن سيرة ريكور الفكرية أو "اعترافاته الفلسفية" هي جملة من القرارات النابعة من ذاتٍ توّاقة إلى الحرية والمسؤولية والعدالة والتي كلفته الصدامات والنفي والعزلة. لقد أسس ريكور فلسفته على احترام الآخر حسب قاعدتين هما " لا تمارس السلطة على الآخر بطريقة تتركه بدون سلطة عليك"[24] والقاعدة الأخرى أنه "عندما أبحث عن الوجود في الآخرين، فسأصبح أنا نفسي"[25] ويجب أن نفهم أن الآخر صنفان صنف في مصادر الفلسفة غير الفلسفية وصنف في فلسفة الآخر بوصفه لغة أخرى للفلسفة ومرآة الذات التي لا يمكن أن تظهر إلا من خلالها، إذ يقول ريكور: "إن وجودي بالنسبة لي هو في تشكل الذات في رأي الآخر الذي يُجسدها"[26]، وبهذا المعنى يتخذ الفيلسوف صفة الشاهد النوعي على الآخرين وعلى واقعهم ووجودهم الذي يأتي طواعية إلى اللغة ، وهي إحدى وصايا هيدغر التي يلتزم بها ريكور خلال حياته بوصفها قراءة في الوجود المتجلي عبر كلام اللغة.
ويكون هذا هو التزام الفلسفة الحديثة كلها من خلال "رهانها في المرور والانتقال من مقولة "الإنسان الذي يتكلم عن الوجود"، والتي لا تطرح أية مشكلة على مستوى المعنى، إلى مقولة معكوسة "الوجود الذي يتكلم عن نفسه في الخطاب الذي يأخذه الإنسان عن الوجود""[27]، وهو الجهد الذي تَمثل في حياة ريكور الفكرية من خلال تطعيم الهرمينوطيقا بالفينومينولوجيا من أجل تسهيل الاختراقات والانفتاحات اللازمة داخل الوجود مرورا بالنص.
وهكذا يذكرنا درس السيرة الذاتية بأن الفلسفة هي حكاية فيلسوف تسردها اعترافات الذات التي تعبّر عن انحكاء (Se raconter) الوجود في اللغة، وهنا يحضر السؤال: لماذا يكتب الإنسان سيرته؟ وكيف يكون حاكيا ومحكيا في الوقت نفسه؟ ويجيبنا صاحب السيرة أنه "ليس هناك تاريخ للحاضر بالمعنى السردي الدقيق للكلمة، ولا يمكن أن يكون هذا التاريخ سوى استباق لما سيكتبه المؤرخون في المستقبل عنا"[28]، وبهذا نلج مع ريكور إلى الفلسفة من باب زمني مختلف هو الزمن بوصفه سردا والتاريخ بوصفه انحكاءً والحقيقة باعتبارها قولا واعترافا.
2 .فلسفة الانعطاف ومسار التأويل:
الفلسفة خطاب مُنتهٍ في اللغة ، إذ لها البداية البلاغية نفسها للخطاب في عموميته، ولذا هي لحظة سابقة على المنهج المستخدم في تحليل القضايا الفلسفية وتوجيهها إلى الحلول الممكنة، فلحظة البداية في الخطاب الفلسفي هي فرضيته الممكنة، إذ لا فلسفة بدون فرضية[29]، وهو ما يعني أنها محطة ضرورية ولا تقبل التجاوز حيث بدء الخطاب الحامل للقضية المسماة فلسفية.
ولهذا يرى ريكور "أن الفيلسوف يصل إلى الفكرة دائما عبر قناة قضية واحدة، وهو ما نسميه عنف نقطة البدء، فالبدء هو دائما شيء من القوة، خصوصا عندما نبدأ بالمجرد المطلق مثلما يبدأ اسبينوزا"[30]، وتجعل نقطة البدء من الخطاب مسارا مغلقا بحيث يعود في النهاية إلى هذه النقطة ليتحرّى الفرضية ، وإن كانت الفلسفة لا تستطيع استعادة كل فرضياتها بشكل مكتمل لأن البدء فيها أنطولوجي لا يلبث أن يتوارى خلف اللغة نفسها، فالفيلسوف إنسان محجوز داخل سياج ضيق مكوّن من الكوجيتو ومسألة الحكم التركيبي القبلي A priori، ومسألة الوجود نفسه، وهو ما يشكل في النهاية "عنف المسار المفرد في الفلسفة"[31] ولا يعني هذا أن المسار الفلسفي، بهذا الشكل، هو صنعة يمكن تجاوزها ، لأن ذلك يعني الخروج إلى خصوصية خطاب مغاير حيث "النزوع الطبيعي للفلسفة هو تبيان الوجود نفسه من خلال المفاهيم"[32]، ولكن ما هي خصوصيات هذا المسار المنهجي والمفاهيم التي يستخدمها ريكور للتخفيف من وطأة الفلسفة العنيفة التي يعتبر نفسه واحدا من ممارسيها؟.
ينطلق ريكور من إمكانية فينومينولوجية لفهم الذات والكشف عن تكويناتها الأنطولوجية بوصفه الحقائق الأولى التي تبنى عليها استدلالات واستنتاجات، و يشتغل ريكور من خلال التجريد الذي هو في جزء منه ما يسميه هوسرل بالاختزال الماهوي، أي وضع الفعل بين قوسين لملامسة الفكرة والمعنى[33]، وبهذا يستطيع وصف الجوهر الثابت دون تأثير العرض المتغير أي الفعل أو الحدث أو الظاهرة، لأن ريكور يعتقد في فرضية أن "الحقيقة المنبثقة عن الحياة يمكن أن تكون مطمورة تحت الماهيات"[34] وهو ما يعني استدعاء طريق وجودية ظاهراتية تعرّف عليها ريكور بمناسبة انشغاله بالقلق بوصفه مرض العصر.
وبهذا تنبني الفرضية الأنطولوجية حول طبيعة الوجود والذات على فرضية تاريخية هي أنه "من الممكن جدّا أن عصرنا يخبئ في داخله أشكالا أخرى للقلق الأكثر تجذرا، ولهذا نحن مدعوون للتفكير والتأمل في قلق هذا العصر، فمن واجبنا فهم هذا الزمن الذي يجب أن ندخله بدل أن نغادره، فسنكون أكثر استعدادا لمعرفته، يعني من أجل تحديد موضع القلق فيه وتعويضه بأحاسيس قوية"[35]، ويرتبط هذا القلق في جانبه النظري بانحطاط المعنى وتدهوره ، وفي جانبه العملي باختفاء الطابع الأخلاقي للحداثة بوصفها انتصارا للعقل الأداتي، وهو ما يعني تعليق التاريخ بالمعنى الفينومينولوجي، من أجل الحفر تحت هذا القلق ومعرفة دوافعه، ويعتمد ريكور المناحي الثلاثة لهذا القلق كما أشار شارل تايلور:[36]
- منحى الغزو الجميل للحداثة في ظاهرة الفردانية، حيث ينتج القلق عن فقدان المعنى واختفاء الآفاق الأخلاقية.
- منحى الهيمنة التكنولوجية وتهديدات العقل الأداتي ضد حريتنا.
- منحى الاستبداد "الناعم" الذي تمارسه الدولة الحديثة على مواطنيها[37]، وعليه يمارس التجريد أو الوصف المحض لفصل هذه التجليات التاريخية عن جذورها الأنطولوجية بهدف التعرف عن قرب ودون عوائق على مصادر القلق عبر غواصة التأمل الفلسفي بوصفه "هو من يقود اللعبة ويستوجب الشعور ويستخرج القصد المضمر ويرفعه إلى الحقيقة من خلال الحجة النقدية"[38]، حيث أن صلاحية هذا المنهج نابعة من طبيعة الموضوع وطريقة اختفائه وظهوره.
ولهذا تتعدد المناهج في فلسفة ريكور لارتباطها بمسار الموضوعات ومحطاتها التاريخية فالمنهج الكلي هو " التأمل بمناسبة موضوع ما " مُطعماً بالفينومينولوجيا من أجل أن يكون التأمل والذات المتأملة شيئا واحدا كضمان لتماسك الحقيقة، " فالطريقة التي يُقبض بها على الأنا هي التأمل الذي تكون خاصيته تأسيس التطابق بين المتأمِّل والمتأمَّل فيه، وليس هذا التطابق منطقيا ولكنه الوحدة بين الزمن المحايث وبين ما يتضمنه"[39] وهذا يعني أن موضوعات التأمل هي رموز ووسائط تقود إلى الذات أكثر من إحالتها على نفسها وهو ما يجب أن نستثمره في مشروع " استعادة الذات في كليتها" بتأويل هذه الرموز باعتبارها الأساطير التي تشكل واسطة بين الذات والذات نفسها[40]، وتمثل هذه المرحلة المحطة الأولى في المسار المنهجي لفلسفة ريكور، فهي مرتبطة بالرموز ومنه هي هرمينوطيقا أولى يعبِّر عنها ريكور بقوله : " كنتُ أستند بثقلي إلى المنهج التأملي الذي أتى به هوسرل والثنائي الوجودي: ياسبرز ومارسيل، وربما أطلقت الآن على هذا النوع من الوصف الأول الظاهراتية الوجودية، برغم إنني لم أجرؤ في حينها على تسميتها بالظاهراتية، لأنني لم أرغب أن تحتمي محاولتي بشرعية هوسرل، الذي كنت أترجمه إلى الفرنسية، برغم ذلك كانت ظاهراتية، بمعنى أنها حاولت أن تستخلص من التجربة المعيشة، المعاني والبنى الجوهرية للهدف والمشروع والدافع والإرادة..."[41]، ذلك أن قلق العصر، كمشكلة فلسفية، مغلّف ومغطى بواسطة استعارات ومجازات وألغاز وأشكال وتمثلات غير مباشرة وغير معطاة للفهم المباشر ومن ثمة هي رموز تحجب الذات وتتوسط فهمها لنفسها.
ويبرر ريكور هذا الخيار بقوله: " بدا لي أن تأمل الذات المباشر، لا يمكن أن يمضي قدما، دون سلوك طريق ملتوية، هي منعطف تأويل هذه الرموز، فكان عليَّ أن أقدم بُعدا تأويليا (هرمينوطيقيا) في داخل بنية الفكر التأملي نفسه (..) وكانت هذه هي الكيفية الأولى التي ظهرت بها مشكلة اللغة في نوع من الفلسفة لم تكن في البداية فلسفة لغة بل فلسفة إرادة، وقد فرض علي موضوعي الأول أن أبحث في بنية الرمزية والأسطورة"[42] وشكّل هذا الطريق الملتوي "منعطفا" تأويليا في المنهج الريكوري، إذ كان من الواجب تفعيل منعطف طويل من خلال الرموز والأساطير المنقولة بواسطة الثقافات الكبرى للوصول إلى الطابع الملموس في الإدارة السيئة. وكان هذا جانبا نقديا واستكشافيا في الوقت نفسه، " فبالحديث عن الانعطاف من خلال الرمزية، طرحتُ (ريكور) فرضية مشتركة مع هوسرل وديكارت لمعرفة راهنية الكوجيتو وشفافيته وبرهانيته"[43]، فهذه الفرضية تؤسس لزاوية تراقِب منها الذات هيأتها على صورتها الشفافة وترصد فيها الراهن ، أي زمن الوجود الذي تتحرك فيه، من خلال الرمز بوصفه كلام الوجود بالمعنى الهيدغري.
وبهذا بيَّن ريكور الرابطة الأكثر قربا بين الهرمينوطيقا والرمزية كحقيقة تتكلم من خلال الرموز، " فعلى الهرمينوطيقا، إذن، أن تفهم اللغة من زاوية رمزية"[44]، لأنها الزاوية نفسها التي يمكن من خلالها فهم الحياة الاجتماعية ومن ثمة إمكانية تغيير واقعها انطلاقا من عمل التأويل ، لأنه "إذا لم نتفق على أن الحياة الاجتماعية لها بنية رمزية، فإنه لا يكون لنا وسيلة لفهم كيف نعيش ونصنع الأشياء ونمثل هذه النشاطات في شكل أفكار وفهم كيف يمكن أن تُنتج الحياة الواقعية أوهاما، إذ سيكون كل ذلك مجرد أحداث غامضة وغير مفهومة"[45]، فالرمزية وظيفة تأويلية تقوم مقام المواضيع بالنسبة لمنهج التأمل المجرد فتستحضر الأشياء التي لها أصل في المجتمع وتؤدي دورا في تشكيل حقائقه وتفعيل نشاطاته ولكنها – الأشياء- تبقى متعذرةً على الفهم المباشر ويبقى تلبّسها باللغة مسألة غامضة ومعناها متعدد لا يكشف عن وجود شيء واحد .
وبهذا فإن دافعية الرمز للتفكير والتأمل، باعتبار الرمز معطى للتفكير[46]، هي حقيقة هذه المعاني الاجتماعية والإنسانية والمكان الطبيعي الذي تُنتج فيه نفسها وتُظهر للوجود أشياءها، بدليل أنها إذا أرادت أن تتجلى كمعطى مباشر للفهم فقدت خاصيتها وكينونتها المحايثة وانصرف المعنى إلى غيره وابتعدت الحقيقة عن مصدر تشكلها.
إن الرمز، موضوع ريكور الأول بمصادره النفسية، الدينية و الاجتماعية، إنما يكون موضوعا لغويا لمنهج التأمل، بامتياز، وهذا لأن "كلّ فكر رمزي يحاول التغلب على الفرق الأساسي الذي يشكل العلاقة الدلالية (تعبير حاضر/ مضمون غائب)، جاعلا من الرمز اللحظة التي يكون فيها التعبير والمضمون غير القابل للتعبير شيئا واحدا، وهذا ما تخلص إليه الهرمينوطيقا التي تقرر فهم كل نص كرمز قابل للتفكيك"[47]. ويعالج ريكور مسألة الرمز في بعدها اللغوي من خلال نموذج الاستعارة الذي يسمح بتفسير التمفصل بين اللغوي وما يحيل إليه تمفصلا ينحرف عن سلوك اللغة الواضح والعادي.
إذ من خلال تحليل نظرية الاستعارة سيتمكن ريكور من حلّ مشكلة الرمز في بعديه اللغوي وغير اللغوي، لأن الاستعارة تمثل اللحظة الفينومينولوجية التي ينفصل فيها الرمزي عن تابعه الإحالي والموضوعي فيتجلى معزولا في اللغة وقابلا للتأمل والتأويل، وبهذا المعنى ينطلق ريكور من مقولة هيدغر "الإستعاري لا يوجد إلا في داخل الميتافيزيقي"[48] لكي يبين الكيفية التي بها تعود مفاهيم الحقيقة والواقع والوجود إلى الحقل الذي تستجيب فيه للتأثير الدلالي للمقول الإستعاري من أجل أن يلتئم الرمز في عمل اللغة.
يسلك ريكور في هذه المحطة المنهجية سلوكا فرويديا في استدعاء الرموز عبر الاستعارة لعلاج "لاوعي الذات" ، بما أنها المطلب الأساسي من وراء خوض هذا المنهج، معتبرا "أن الرمز وحده يبتعث الفكر، بابتعاثه الكلام أولا، والاستعارة هي العنصر الكاشف المناسب لإضاءة هذا الجانب من الرموز الذي له مساس باللغة"[49]، وهي أيضا الواسطة اللغوية بين الذات والوجود الأصيل وبين الذات واللغة نفسها، لذا هي واسطة كاشفة وليست مجرد طفرة عرضية، فهي معطاة للتأمل في الرمز من أجل كشف دروب الوجود استجابة لنداء هيدغر في كلام الوجود.
بالنسبة لريكور فإن الاستعارة ليست لغة مجازية ينبغي ترجمتها صرفيا، بل إنها تشكل اللغة الوحيدة التي تنظم عمل الاتجاه نحو الأصل[50]، وهو ما يعني استدعاء الطابع البنيوي للفهم بوصفه مرحلة ضرورية للانتقال إلى التأويل وهو ما تعكسه التقابلات بين الفهم والتفسير، حيث إن فهم البنيات لا يخرج عن فهم عام مهمته التفكير انطلاقا من الرموز، "فهو الوسيط الضروري بين الرمزية البسيطة والذكاء الهرمينوطيقي"[51]، ففي تمفصل البنيوية مع التأويل يجد ريكور القدرة على فهم الانتقال المهم من الأسطوري إلى العقلاني ، من الميتوس إلى اللوغوس، حيث يقدم الطابع الرمزي للأسطورة نموذجا لعلاقة البنية بالحادثة بصفة رمزية غير متأثرة بالإحالة الموضوعية إلى الشيء الخارجي.
وهذا يعني بالتحديد موضوعا تأمليا خالصا تتعرف فيه الذات على نفسها من خلال وساطة الرموز، لأنه لا توجد رمزية قبل الإنسان الذي يتكلم، حتى وإن كانت قوة الرمز متجذرة بعمق في تعبيرية الكون، في إرادة القول للرغبة[52] ذلك أن الذات المحمولة في الكوجيتو لا تتحقق كحادثة ومنه هي معطاة للتأمل الذي يعتبره ريكور القاعدة الأساسية للهرمينوطيقا لأنه – التأمل- "يعود إلى الكلام ويبقى كذلك تأملا، يعني فهما للمعنى، ثم يصير تأويلا وهي الطريقة الوحيدة التي بها يمكن أن يصير واقعيا محسوسا دون أن يفقد طابعه التأملي"[53]، وبهذا يصبح تأمل الرمز وتأويله فعلا واحدا للذات، وهو ما يعني أيضا أن اللوغوس يُولد من الميتوس، وعبر فهم الرموز تَعبُر الذات إلى الفعل الذي يسكن الخطاب ونموذجه النصي.
وفي نهاية هذه المحطة اعتبر ريكور أن كلا من الاستعارة والرمز يساعدان في رسم حدود الميدان الذي نستطيع أن نوسع به نظرية التأويل[54]، حتى يسمح للكوجيتو المكسور بالالتئام وجعل وضعه يستقر كخطوة أولى في مشروع التشييد النهائي الذي بدأ معرفيا مع ديكارت، ولكنه بدأ أنطولوجيا ما قبل الفلسفة السقراطية حيث "أن إثبات الوجود يؤسس لوجود الإنسان ويضع نهاية لما سماه بارميندس بـ "التيه l'Errance "[55] وهي غاية هذا المنعطف المنهجي القاعدي في فلسفة ريكور والذي يكون قد استهلك منه أشواطا طويلة في موضوعاته ومنطلقاته والجبهات المعرفية التي ناضل على حدودها حتى اكتسب وضعه المؤهل إلى الانتقال من المجرد إلى المحسوس دون خدش الكوجيتو مرة أخرى، فالكوجيتو الريكوري صُقل على حدود التحليل النفسي ،البنيوية ،الوجودية ،التيولوجيا والأساطير.. ، لكنه لا يطمئن من القلق إلا في مرآته التاريخية أي في حياته الفعلية.
في منعطف آخر، يتحوّل التأمل ، بتحريض من منهج "التأمل الثاني Réflexion seconde" ، الموروث عن غابريال مارسيل، بوصفه لحظة نقدية للتأمل الأول كمحاولة للإمساك بالوجود وبالرغبة التي تجتهد من أجل ذلك، وبدفعٍ من مفهوم "الإثبات من الأصل" المأخوذ عن جون نابرت J.Nabert ، الذي هو بالنسبة لريكور "المصطلح الخالص لتعيين شدة الوجود الذي يعايشه القلق ويلاحقه من مستوى إلى مستوى آخر في صراع غير مُثبت"[56] ، وهو المصطلح الذي يستفيد منه ريكور في جعل التأمل يفكر في الذات انطلاقا من تفسير العلاقة بين الفاعل والفعل كمستوى ثانٍ من تجلي الذات بعد الرموز والعلامات والأساطير، ويجعل من النص رمزا لهذا الفعل ومدخلا إليه، لأن هناك ملاءمة بين منعطفات المنهج ومنعطفات موضوعاته.
إذا كان القلق قد ترك شروخا وتصدعات في وجود الذات لأنه يتلبس بالإرادة السيئة ويدفع بقوة العقل إلى اللاوعي أو العدم، فإن " الحضور الكثيف للشر يُحطم قوة العقل وينهشها"[57] ومن ثمة يقع الشر حاجزا بين الذات وصورتها الشفافة والواضحة في مرآة موضوعاتها وأفعالها وآثارها في الكلام والكتابة، فهو يكتسب بذلك طابعه الرمزي لدى ريكور، بما أن تفكيك هذا الرمز يقود إلى تحرير الفعل من الإرادة السيئة أي يقود إلى "الخلاص" كرمز مناهض للشر، وبهذا "فإن رمزية الشر تقوم باستدعاء الهرمينوطيقا، فرموز الشر على المستوى الدلالي أو الأسطوري، هي في اتجاه معكوس لرمزية واسعة هي رمزية الخلاص"[58]، ولهذا فإن المرور من التأمل المجرد إلى الهرمينوطيقا هو منعطف ضروري لملاحقة الذات ورصدها في أفعالها باعتبار هذه الأفعال ناتجة عن تأويلات متصارعة ، وهو ما يعني الحاجة إلى تحكيم بينها يقود إلى ترميم الذات في الخارج بعد أن كان ريكور قد أرسى أسسها الأنطولوجية والرمزية في الداخل من خلال الخطاب التأملي الذي ينطلق من ذاته ويجد فيها المبدأ لتمفصله، وانطلاقا من ذاته يُفجر فضاء مفاهيميا يُعطَى فيه المعنى بشكل استعاري[59]، ومنه فإن التأمل المفتوح ، بمناسبة القلق الوجودي والمعرفي المتجدر في الرموز، ما هو إلا منعطف منهجي مرتبط بموضوعه وبالقراءات التي تكوّنه وتغذيه.
إن مسألة الشر جعلت من المنهج الفلسفي لدى ريكور يأخذ منعطفا آخر، ويبرر ذلك بقوله : "إن استكمال أنطولوجيا الذات يتطلب تغييرا جديدا للمنهج والدخول في نوع من "شعرية الإرادة" بالارتباط بالحقائق الجديدة التي ينبغي أن تُكتَشف"[60] وهذا بعد أن ظهر له أن التجريد فيه نوعٌ من اختزالٍ للرؤى وبترٍ للوجود، هذا الوجود الذي يصاحب الذات في انقذافها إلى الخارج في الأفعال والممارسات، والذي يتآكل كذلك بفعل الشر.
وبهذا المعنى اكتشف ريكور ضرورة فتح التأمل على الهرمينوطيقا بمناسبة مشكل الشر[61] الذي يعمل على جرح الكوجيتو وتحطيمه في آثار الذات الفعلية ، وهو ما يتطلب تتبع هذه الآثار لمعرفة الجذور الأنطولوجية لهذه الإرادة السيئة التي تسكن الذات وتنخرها ومنه فهي تكبح عمل العقل وتُشوّه الحقيقة في الخطابات والنصوص، ولهذا يرى ريكور أنه "يجب أن يصير التأمل تأويلا، لأنه لا يمكننا الإمساك بفعل الوجود خارجا إلا في العلامات المنتشرة في العالم، كما يجب على الفلسفة أن تنفتح على نتائج العلوم ومناهجها وفرضياتها التي تحاول فك الرموز وتأويل علامات الإنسان"[62] ومنه فإن ريكور يشتغل وفق أنتروبولوجية فلسفية للإمساك بفعل الوجود الذي تشكله رمزية الشر.
ففي حين ينتقل التأمل من الطابع الأسطوري للإرادة السيئة إلى الطابع الرمزي للشر، فإن التفكير يتجه إلى ناحية أخرى حيث نتساءل عن المكان الإنساني للشر وتمفصله بالواقع[63]، إذ يبحث ريكور، من خلال مشكلة الشر، في المسار العقلاني الذي تمر به الذات في انكشافها عبر مستويات الخطاب في تأمل الشر: الأسطورة، الحكمة، الغنوصية، التيوديسية، الديالكتيكية، التفكير، الفعل، من خلال مقاله المشهور "الشر: تحد للفلسفة والتيولوجيا"[64]، والذي يخلص في نهايته إلى التأكيد على أن "مشكلة الشر ليست مشكلة تأملية فقط، فهي موجودة في التقاطع بين الفكر والفعل (بالمعنيين الأخلاقي والسياسي) وكذا التحول الروحي لمشاعرنا"[65]، وهذا يعني تخلي ريكور عن منعطف التأمل وتجريده بانتفاء الطابع الأسطوري لفعل الشر الذي أصبح يشكل تحدٍّ للعقلانية ، والذي يتطلب تأويلا مفصليا يستحضر الفعل في جوهر التفكير بتطعيم الهرمينوطيقا بالفينومينولوجيا للسيطرة على المسافة بين الفاعل والفعل، بين الذات والشر، بين الوعي والإرادة السيئة و هي المسافة التي تقال في تأويلات متصارعة في الفلسفة كما في العلوم الاجتماعية.
ويظهر هذا التطعيم ضروريا لأن الأمر يتعلق برصد التجربة الحية في سياقها اللغوي- النصي، وبهذا "تجد الهرمينوطيقا في الفينومينولوجيا "بنية الاستقبال""[66] أي مبدأ الفهم الذي هو استحضار وانخراط فكري في التجربة والتعشيش داخلها، تجاوزا للمسافة الموضوعية بين الذات والموضوع، وبهذا يكون اتخاذ هذه المسافة (Distanciation) وفق الهرمينوطيقا كتعبير عن تنوع للتعليق الفينومينولوجي (Epoché) وهذا بجعل المعنى على مسافة من "المعاش" الذي يلتصق بنا التصاقا بسيطا وخالصا.
غير أن الهرمينوطيقا "تقوم بتوسيع الحركة الأساسية للتماسف في مجالها المخصوص، في العلوم التاريخية وعلوم الفكر عموما، فإذا كانت الفينومينولوجيا تبدأ عندما نقطع الحياة لنجعلها دالة، فإن الهرمينوطيقا تبدأ كذلك عندما نقطع علاقة الانتماء لجعلها دالة"[67]، وهذا ما ينطبق على رمزية الشر، فعندما رابطة انتماء فعل الشر إلى فاعله فإن التأويل يقود إلى دلالة مختلفة عن ما تقدمه علاقة الانتماء بوصفها علاقة غير عادلة، حيث "العدالة مكان الحقيقة والماهية وليست مكان الدولة فقط"[68]، لأنه من خلال تأويل رمزية الشر يخلص ريكور إلى أن "الإنسان الذي تكشف عنه هذه الرمزية هو ضحية أكثر منه مذنبا"[69]، يعني إعادة فهم الشر من خلال تفسير مسؤولية الفاعل في ارتباطه بفعل الشر، ولكن تنوع التعليق الفينومينولوجي في المسافات التأويلية وصراعها لا يظهر بشكل ثابت وجلي إلا في دليل يؤشر على ذلك هو "النص" وهنا تلتحم الهرمينوطيقا بموضوعها عبر مسافة اللغة.
ينطلق ريكور في رحلته الهرمينوطيقية من مشكلة الشر في سلّمها النصي الذي تُعرض من خلاله ويبدأ من تجلي الشر في الكلام إذ "يجب الاعتراف أنه توجَد في الفلسفة المعاصرة ثغرة كبيرة في هذا القسط من المشاعر، فقد قيل الكثير عن الآلام والشرور ولكن لم يُقل إلا القليل عن مشاعر الخير"[70] . وبهذا تنطلق الهرمينوطيقا من تقليص هذه الثغرة في مكانها الفينومينولوجي أي في شكلها النصي كمرحلة وانعطاف تأملي تتوفر لديه إمكانية فتح حوار مع التأويلات المتصارعة حول الحقيقة وهذه الإمكانية هي معطى نصي خالص.
وبهذا المعنى يلخص لنا ريكور مهام الهرمينوطيقا الفلسفية التي "تبدأ بالتحقق من خلال تطوير الأشكال الرمزية، ثم التحليل من خلال فهم البنيات الرمزية ونقد أنساق التأويل، وإحالة تنوع المناهج الهرمينوطيقية إلى بنية النظريات التي تؤسسها، وبهذا تصبح جاهزة لممارسة مهمتها العليا والتي ستكون تحكيما حقيقيا بين إدعاءات الشمولية لكل تأويل من التأويلات"[71]، ويندرج عمل ريكور الهرمينوطيقي بركوب المبدأ الفينومينولوجي في التعليق ووضع الأقواس لمحاورة التأويلات الفلسفية أو تلك التي تقع على حدود الفلسفة والتي تمثل في الحقيقة أجزاء الذات الغربية المتناثرة في النصوص والخطابات المتصارعة، وهي مرحلة يراها ريكور ضرورية لاستكمال البناء الأنطولوجي للذات، وترميم الكوجيتو المكسور الذي خلفه صراع التأويلات معلنا "موت المعنى وولادة طفليه اليتيمين: العقل الأداتي والوجود اللامعقول"[72] وتجلياتهما في تاريخ الحداثة ومظاهرها السياسية والاجتماعية والقانونية.
ولهذا فإن ريكور يباشر منعطف الهرمينوطيقا – الفينومينولوجية من خلال النص ووحدته الأساسية "الكلمة" والتي يمكن من خلالها سحب التأويل على خطابات متعددة وبالتالي فض الصراع العنيف بواسطة "المعركة اللطيفة"، بالكلمة كلحظة خطابية، لأنه في "الخطابات السياسية، الشعرية و الفلسفية ،تكون الكلمة هي الرابطة بين العنف والمعنى، غير أن اللغة تبقى بريئة، فهي أداة ورمز، لأنها لا تتكلم بل هي متكلَّمة"[73] ومنه يمكننا القول أن توليف الكلمات، أو الكتابة ليس نشاطا لغويا فقط بل عملا هرمينوطيقيا كذلك.
وما يسمى بالتناص الفلسفي، الذي يشكل دعامة أساسية في منهج ريكور، هو حوار فلسفي له شروطه وضوابطه كفعل للقراءة، وبهذا المعنى يركز ريكور على وساطة الكتابات، والتي تبقى مختلفة على الرغم من مقاربتها لبعضها من خلال نشاط القراءة[74]، لأن هذا النشاط يعني إصغاءً بالمعنى الهيدغري للكلمة والذي هو مبدأ الحوار كما هو ميدان استقبال الحقيقة ولهذا فإن الفيلسوف الذي يكون أصمّا مع الآخرين، يهتم أكثر بذاته، بينما من يشتغل بتاريخ الفلسفة* يهتم أكثر بالآخرين[75] وهذا الاشتغال بالآخر يعني، على عكس التصور الهيغلي الذي اعتبره موتا وعدما، يعني حياة المعنى وحريته بانفلاته مما يسميه ريكور بـ "عنف الغلق "[76]، وليس هذا الانفلات سوى اللحظة النقدية في الهرمينوطيقا الريكورية ولا تعني هذه اللحظة أيضا سوى يقينا جديدا في منظومة اليقينيات والقناعات التي تتأسس عليها فلسفة ريكور التي تزاوج بين العمل الفلسفي والاشتغال التأملي ذي الجذور الدينية.
في منعطف الفعل والتاريخ، كما في منعطف سنوات حياته الأخيرة، يتجه ريكور إلى ملاحقة الذات خارج سياج أنطولوجيتها وفي مرآة آثارها وأفعالها، هذه الذات العائدة من أمريكا والمتشبعة بالفلسفة التحليلية الأنجلوسكسونية، و هذا الخارج الذي يبدأ بالجسد، حيث "الأنا ليس ملحقا بالجسد، بل على العكس، فالشخص هو المرجع، وهو الموجه والقائد، والجسد يجد تعبيره من خلال الأنا الذي يُخضعه له أو يقاومه"[77] ويكون هذا بعد أن تستحكم الذات إرادتها وتجمع شتاتها الداخلي وتستعيد رموزها المكوّنة وأساطيرها المؤسسة.
لقد ناضل ريكور على جبهات التحليل النفسي والبنيوية والتيولوجيا والأسطورة واللسانيات من أجل إرساء دعائم الذات التراثية وتحرير وجودها المغترب والمنفي في تاريخ محكي ولكنه منخور بنسيان ليس له ماضٍ، إذ إن "النسيان هو التهديد المقلق الذي يرتسم وراء فينومينولوجيا الذاكرة وإبستومولوجيا التاريخ"[78]، وبهذا ينعطف المنهج الريكوري نحو هرمينوطيقا الفعل بمناسبة النسيان الذي لا يُعتبر عدوا للذاكرة، فاتحا التاريخ على حاضر تتفاوض فيه الذاكرة مع النسيان من أجل إيجاد المعيار الصحيح لتوازنهما[79]، إن هذا المعيار بالنسبة إليه هو السرد من خلال فرضية مؤلفه الأساس "الزمن والسرد Temps et Récit": الزمن ذو بنية سردية ولا يكون إنسانيا إلا إذا كان محكيا، وتصبح الهوية الشخصية هوية سردية، محاولا بذلك ردم الهوة، التي تبدو كمغالطة، بين القصص التي تروى والحياة التي تُعاش[80] وهو ما يمكن أن نعتبره المخاض الفلسفي لولادة تأملاته المتأخرة عن الذاكرة والتاريخ والعدالة والتي من بينها سيرته الفكرية (1995).
فبعد مؤلفه حول السرد والزمن (التاريخ) بأجزائه الثلاثة أواسط الثمانينات* جاء مؤلفه المهم عن الذات عينها كآخر (1990) كعتبة هرمينوطيقية لدخوله صراع التأويلات العملية واقترابه أكثر من الميدان العام والسجال السياسي والتاريخي والأخلاقي.
لقد دخل ريكور إلى "التاريخ" (بمعناه المعرفي والأنطولوجي) من مدخل السرد وعبر الخطاب بوصفه واقعة والعلاقة التي تشكله، علاقة الواقعة بالمعنى[81] ، فمن خلال سرد الخطاب وخطاب السرد، أي من خلال زمن الخطاب في أفعال اللغة المتجلي في اللغة السردية، تتشكل زاوية الانعطاف نحو الفعل في فلسفة ريكور جامعا ذلك في إحدى فرضياته الأساسية: "بما أن نفس التغيير الناتج عن الفعل الإنساني يمكن أن تكون له أوصاف متعددة، فإن الجملة السردية هي إحدى الآليات الوصفية الممكنة للفعل الإنساني"[82]، وتعني وصف الذات خارج نفسها، لأنه لم يعد ممكنا سجن التأمل في دائرة مغلقة، بما أن الذات لا تنشئ حلقة مع نفسها، فعلى هذا التأمل أن ينقذف إلى الخارج متخذا مسافة أخرى وقاطعا رابطة الانتماء لاستقبال دلالات أخرى للذات في مزاوجة حيث "يأخذ التأمل معناه الكامل كجدل داخلي من خلاله أشيّد "الأنا" مرة، والمشروع (الفعل) مرة أخرى"[83]، ولا يتجلى هذا التشييد المزدوج كحياة حقيقة إلا من خلال الطابع السردي لخطابه.
لقد أراد ريكور أن تكون لتأملاته وتأويلاته نتائج معاشة فاختار المنعطف التحليلي وبرّر ذلك وأعلنه في عتبة الذات (1990) بقوله: "إن الهرمينوطيقا تكشف عن نفسها كفلسفة للانعطاف (Détour)، فقد ظهر لي أن الانعطاف بواسطة الفلسفة التحليلية سيكون أكثر غنىً بتحقق الوعود والنتائج"[84] وهذا لا يعني أن الانعطاف في فلسفة ريكور هو منهج انقلاب وثورة على مقولات وأفكار سابقة، بل هو التفافٌ ودورانٌ للذات على نفسها وسيرٌ في دروب وعرة ومسارات ملتوية في إطار المشروع المجموعة في مؤلف "النقد والقناعة" : " أبقى فيلسوفا تأمليا، إذن فيلسوفا للذات"[85]، حيث أن تأمل الذات واسترجاعها في كليتها يظل الهدف الأساسي لكل المسار الهرمينوطيقي.
فالمنعطف التحليلي هو عتبة تأملية للكوجيتو، يتعرف من خلاله على حياة الذات الفعلية ومشكلاتها التي تبدأ بالإشكالية التي طرحها ريكور في "مسارات التعرف والاعتراف: " كيف نقدم تتمّة للتحليل الأرسطي للفعل، بمفهومه عن الرغبة المتعلقة، في إطار الفلسفة التأملية، التي تبدأ من ديكارت ولوك وتبلورت في البعد العملي للنقد الكانطي الثاني ووصلت مع فيخته إلى ذروة قوتها الترنسندنتالية؟[86] وهذا يعني معالجة مسالة الفعل من خلال فلسفة للذاتية (Ipséité)* لاستكمال صرح الذات بتحويل الإرادة إلى استطاعة أي إلى إدراج الذات في مجالها الزمني والتاريخي وفهم هذا الزمن الذي يغلف الفعل ويبقى مدرّعا وغير قابل للاختراق، ولهذا لجأ ريكور إلى استدراج هذا الزمن إلى الخطاب ومحاصرته بالسرد واختراقه بمنعطفات هرمينوطيقية مدعومة بضربات الكوجيتو الذي يمتلك إرادته ويستوعب ذاته.
إن ضرورة فتح التأمل على فلسفة التحليل هي من طبيعة التأمل نفسه لأن طريقة العودة إلى الذات من خلال أفعالها تتطلب التحقق من نسبة هذه الأفعال إلى الذات نفسها، وهذا الانتساب الأنطولوجي والفعلي هو ما تنبني عليه المعرفة العملية حول الأخلاق والقانون والعدالة والتاريخ والمسؤولية.
فالمشكلة إذن ترتبط بإعادة صياغة مفهوم الإنسان وفق مفهوم آخر للذات، وفهم الفعل في انتسابه إلى ذات قادرة وحرة، وفي هذا المسار تكون "النظرية التحليلية للفعل هي التي توجه الانعطاف الكبير بواسطة السؤال ماذا؟ والسؤال لماذا؟ حتى وإن لم تكن لها القدرة على مصاحبة حركة العودة نحو السؤال من؟ من هو الفاعل؟"[87]. وبهذا فإن فلسفة تحليل الفعل لا تقارب الذات إلا من زاوية جزئية ونسبية مما يدفع إلى التحقق من رابطة الانتساب والانتماء بواسطة المنعطف الهرمينوطيقي من خلال سلسلة الأسئلة المرتبطة بفكرة الانتسابية أو النسبة أو الغزو (L'imputabilité): "من يتكلم؟ من يفعل؟ من ينحكي؟ تجد تكملتها في السؤال "من هو القادر على الانتساب (نسبة الفعل إلى فاعله)؟ وهذا يضيف مسألة القدرة على تحمّل نتائج الأفعال و تحمل الأخ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
أحمد أمين
المدير العام
المدير العام
أحمد أمين


عدد المساهمات : 1016
التقييم : 25
تاريخ التسجيل : 02/09/2010
العمر : 39

التأويل عند بول ريكور Empty
مُساهمةموضوع: رد: التأويل عند بول ريكور   التأويل عند بول ريكور Emptyالأحد فبراير 27, 2011 5:21 pm

لقد عالج بول ريكور إشكالية هامة هي إشكالبة أقصاء الأخر و عد الإعتراف به و هذا حقا ماتعانيه الشعو ب العربية التي مازات تؤمن بمقولة "بقدر ما يختفي رأي الآخر يظهر رأيي" شكرا لك على الموضوع .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
linda
عضو ممتاز
عضو ممتاز
linda


عدد المساهمات : 195
التقييم : 24
تاريخ التسجيل : 18/02/2011
العمر : 35

التأويل عند بول ريكور Empty
مُساهمةموضوع: رد: التأويل عند بول ريكور   التأويل عند بول ريكور Emptyالأحد فبراير 27, 2011 8:39 pm

شكرا أحمد أمين على المرور
للمعلومة فقط كاتب المقال هو أستاذي في الجامعة
ويعتبر من أحسن دكاترة الفلسفة في الجزائر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مؤرخ المغرب الأوسط
المدير العام
المدير العام
مؤرخ المغرب الأوسط


عدد المساهمات : 1632
التقييم : 39
تاريخ التسجيل : 27/08/2010
العمر : 38
الموقع : مؤرخون وفلاسفة

التأويل عند بول ريكور Empty
مُساهمةموضوع: رد: التأويل عند بول ريكور   التأويل عند بول ريكور Emptyالأحد فبراير 27, 2011 9:57 pm

شكرا على الموضوع
وأضن أنه لا يعنيني
لانه لست فيلسوفا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http:///histoirphilo.yoo7.com
أحمد أمين
المدير العام
المدير العام
أحمد أمين


عدد المساهمات : 1016
التقييم : 25
تاريخ التسجيل : 02/09/2010
العمر : 39

التأويل عند بول ريكور Empty
مُساهمةموضوع: رد: التأويل عند بول ريكور   التأويل عند بول ريكور Emptyالإثنين فبراير 28, 2011 1:02 pm

شكرا لك linda على الموضوع و على النقل ، الدكتور عمارة ناصر من باحثي الفلسفة القلائل اللذين يشهد لهم في الجزائر و لك شرف الدراسة و التمنهج على يده و كل الأطروحات الفلسفية التي يقدمها في كتبه ومقلاته التي يقدمها ذلت عمق فلسفي و أسلوب شيق .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
souf_mani
من قدامى المحاربين
من قدامى المحاربين
souf_mani


عدد المساهمات : 865
التقييم : 13
تاريخ التسجيل : 04/09/2010
العمر : 37
الموقع : في الجنة إن شاء الله

التأويل عند بول ريكور Empty
مُساهمةموضوع: رد: التأويل عند بول ريكور   التأويل عند بول ريكور Emptyالثلاثاء مارس 01, 2011 12:36 am

شكرا لندة على الموضوع لقد عدتي بنا الى ايام الجامعة بهذا المقال
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://histoirphilo.yoo7.com/
 
التأويل عند بول ريكور
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كوجيتو بول ريكور
» رابط كتب بول ريكور
» الفينومينولوجيا وفن التأويل
» بحوث التأويل (د. عامر عبد زيد كاظم)
» صولتي وجولتي في معركة التأويل

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: ๑۩۞۩๑ منتدى الفكر والفلسفة ๑۩۞۩๑ :: الفلسفة المعاصرة وفلسفة ما بعد الحداثة-
انتقل الى: