السلطة والأدب في العهد العثماني

يلاحظ الدارسون للعهد العثماني في الجزائر فقره في الإنتاج الأدبي شعرا ونثرا، وأحيانا يعمّمون ذلك ليشمل فقره الثقافي أيضا..

مؤرخو الأدب يقفزون من عهد بني زيان وبني حفص إلى قرون تالية فيجدونها -في نظرهم- صحراء قاحلة بلا أدب ولا فن. لم تعرف الجزائر عندئذ إلا التغيير الإداري والجهاد البحري (القرصنة) والحروب الجوارية، أما الإنتاج الثقافي أو الفكري فلا يعثرون منه سوى على القليل من كتب الفقه والمناقب وشروح النحو والقراءات، وبعض الشعر الشعبي غير المدوّن.

فهل هذا حكم صحيح على عهد تجاوز الثلاثة قرون؟ وهل من المعقول أن يظل أهل الجزائر ''عقيمين'' لم يلدوا أدباء وشعراء طيلة هذه الفترة؟ وأين اختفوا إذا كانوا موجودين؟ وما محفزات الإنتاج إن كانت؟ وهل أولت السلطة عندئذ أية أهمية للتعليم والثقافة والإنتاج الأدبي؟ وهل ما قيل عن الأدب من أنه لا يزدهر إلا في ظل الاستقرار ونعومة المجتمع الطبقي والبذخ المادي والانحطاط الأخلاقي؟

ذلك ما سنحاول الإجابة عنه باختصار في هذه الورقة. لقد نشأت سلطة عثمانية في الجزائر بطريقة ملفتة. ففي الوقت الذي كان فيه الإنتاج الحضاري ما يزال يشع في تلمسان الزيانية وفي قسنطينة الحفصية، استطاعت كوكبة من الجنود أن تضع يدها على إمارة الثعالبة بوسط خارطة المغرب الأوسط، حيث مدينة صغيرة مغمورة بعيدة عن التيارات الحضارية، اسمها الجزائر.

إن كوكبة الجنود التي حطت رحالها في هذه المدينة الصغيرة سرعان ما اتخذت منها منطلقا لمختلف الاتجاهات، محتمية ببعض المتصوفة والزهاد ومتعاونة مع بعض الناقمين على بني زيان في غرب البلاد وعلى بني حفص في شرقها. ويبدو أن هدف الكوكبة لم يكن تأسيس ملك ودولة مستقلة، ولكن إنشاء ولاية (إيالة) ملحقة بالسلطنة العثمانية المركزية في إسطنبول، لذلك سارعت هذه السلطنة إلى الترحيب بالهدية وعينت لها من يحميها وهي ما تزال رقعة صغيرة ولكنها قابلة للتمدد.

هل رحب العلماء في المغرب الأوسط بالولاة الجدد التابعين للسلطنة العثمانية؟ وهل اهتم الولاة بالأدباء والشعراء؟ إن ذلك لم يحدث حسب علمنا. فقد كان الطرفان متباعدين بل متناقضين بسبب فارق اللغة والولاء، لذلك حزم أدباء أمرهم واتجه بعضهم إلى بلاط بني زيان، بينما اتجه آخرون إلى بلاط بني حفص أو نحو المشرق العربي. وفي هذه الاتجاهات مراكز علمية وروابط ثقافية. حقيقة أن الجزائر العثمانية، استقبلت أيضا وهي في مرحلة التأسيس عددا من علماء وأدباء الأطراف: من الأندلس، وليبيا، وجربة، والمغرب (مثل الخروبي وقدورة والأنصاري).

لم تؤسس السلطة العثمانية الجديدة نظاما للتعليم ترعاه وتنميه، ولم تهتم بالمراكز الثقافية كالمدارس العالية والمساجد المفتوحة في وجه الطلبة المتعطشين للعلم، في وقت كانت فيه أزهار الأدب تذبل في الأندلس وفاس وتلمسان وقسنطينة. لقد كان شغل السلطة الجزائرية الجديدة الشاغل هو الدفاع عن المكتسبات وفرض الهيمنة بالداخل وشن الغارات في أعالي البحار لحصد الغنائم وقهر الأعداء.

وهكذا استمر وجود السلطة العثمانية قرنا ونصف تقريبا وجودا سياسيا واقتصاديا، ليس فيه أثر أو تأثير للثقافة والأدب والفن ولا حتى اقتراب من فئة الأدباء والشعراء، وكان العلماء الذين تتعامل معهم لا يخرجون عن الفقهاء والقضاة وبعض مرابطي الطرق الصوفية. فكان على مؤرخ الأدب أن ينتظر ظهور جيل من ''الأدباء'' المحليين إلى جانب ''علماء'' الدين الذين أرسلت السلطنة بعضهم من إسطنبول.

إن هناك عوامل أدت إلى ظهور جيل من الأدباء والشعراء بطبعة ''جزائرية'' أو وطنية. من هذه العوامل حلول عائلات أندلسية متعلمة ومتشبعة بروح الأدب والشعر الأندلسي المتمثل في الموشحات والمولديات ووصف الرياض وجمال الطبيعة، ثم ما عرف بشعر الاستصراخ الذي يعني دعوة الولاة (الحكام) إلى الجهاد وتحرير وهران من قبضة الإسبان ونجدة الأندلسيين. ومنها حلول بعض المثقفين من المشرق حاملين معهم تجارب أدبية وأنغاما موسيقية، ويرافقها الخط العثماني والأشعار المولدية. ومن هذه الأنغام الموسيقية والألحان المحلية والأندلسية ظهر مزيج من الموسيقى ومن الطرب ما تزال بقاياه محسوسة في طبوع عديدة لها أسماؤها عند المختصين، وتمثلها جمعيات فنية معروفة مثل المطربية والموصلية والأندلسية وأحباب المألوف.

وقبل أن نتحدث عن الشعر الفصيح، نشير إلى أن العهد قد شهد ما يعرف بأدب الشروح، وهو نمط أساسه أن ينظم العالم أو الأديب قصيدة في موضوع سياسي أو مديحي أو ديني ثم يقوم هو نفسه (أو يقوم غيره بدله) بشرح ما نظم، لأن النظم -كما يقولون- يضيق عن كل المعاني التي يريد العالم أو الأديب توصيلها. ولدينا من ذلك نماذج عديدة كالمنظومة الحلفاوية (أحمد الحلفاوي)، وهي نظم قام بها أحد علماء تلمسان واصفا فيها عملية تحرير وهران الأولى من ربقة الإسبان. ثم تصدى أحد أدباء المغرب (عبد الرحمن الجامعي) لشرح المنظومة. وهناك شرح أبي راس الناصري لقصيدته في تاريخ الأندلس المعروفة بالحلل السندسية. وقد شاعت قصيدة مديحية تسمى العقيقة من نظم شاعر بني زيان (سعيد المنداسي) فتبارى في شرحها عدد من الأدباء خلال العهد العثماني.

فإذا تجاوزنا أدب الشروح على القصائد أو المنظومات (المتون) فإننا نلتقي بعدد من الشعراء المتميزين في الغزل والسياسة والمدح والوصف والرثاء، وغير ذلك من أغراض الشعر المعروفة. وأذكر أنني عندما نشرت كتاب مختارات من الشعر العربي التي جمعها المفتي والشاعر أحمد بن عمار احتج بعض الطلاب بكونهم لم يدرسوا مثل هذا الشعر في الثانويات ولم تشمله برامجهم الجامعية. وكنت طبعا أتعاطف معهم وأعزو غياب هذا اللون من الشعر الجميل عن تلاميذنا وطلابنا إلى الجهل بتراثنا الثقافي.

وليس من مهمة هذه الورقة سرد نماذج من شعر أحمد المقري صاحب نفح الطيب، وهو شعر رقيق يمثل المدرسة الأندلسية بحق، ولا استغاثات محمد القوجيلي، ولا وصفيات أحمد بن عمار، ولا غزليات محمد بن علي، ولا مجونيات ابن رأس العين، ولا مدائح المانجلاتيين (وهم كثر)، ولا تجليات أحمد بن سحنون ومحمد بن ميمون، ولا رثائيات محمد بن الشاهد. وربما تكفي الإشارة إلى أن ابن ميمون ترك لنا عددا من القصائد في كتابه التحفة المرضية لعدد من شعراء عصره في شتى الأغراض. ومن العلماء الذين تعاطوا الشعر أيضا سعيد قدورة وعلي الأنصاري ومصطفى الرماصي وعبد الكريم الفكون...

كان ذلك قبل أن يكتب محمد بن الشاهد قصيدته المؤثرة في رثاء مدينة الجزائر بعد سقوطها في أيدي المحتلين، وقبل بروز الأمير عبد القادر أحد فرسان شعر الفخر والوصف والحنين والحرب.

وهكذا فإن العهد العثماني ليس مجرد ثلاثة قرون من السير في صحراء قاحلة في أرض الأدب الجزائري، كما صوره ممجدو الاستعمار الفرنسي، وإنما هو مرحلة يبقى على الباحثين الجدد أن يكتشفوا فيها المزيد من الدواوين والمجموعات الشعرية والأعمال النثرية، كما عثرنا نحن على مجموعة أشعار جزائرية (وهي المختارات) لأحمد بن عمار، ورواية حكاية العشاق في الحب والاشتياق للأمير مصطفى.

حقيقة أن العهد العثماني استغرق مدة طويلة وأنه لم يؤسس لأدب البلاط وشعر القصور، ولم تعرف الجزائر خلاله نهضة علمية ولا أدبية، ولكنه -مع ذلك- أسس لأدب جزائري - وطني كنا نفتقده فيما مضى، أي في عصور الإمارات والممالك المتصارعة. فالسلطة العثمانية تأسست في الربع الأول من القرن السادس عشر (العاشر الهجري) ومعها تأسست هوية جزائرية حديثة ذات أدب وشعر وذوق محلي، من مكوناتها اللغة الواحدة والذوق المشترك والأدب المعبر عن خلجات كل المواطنين.

أبو القاسم سعد الله

مقال جيد
أحسن بكثير من تلك المقالات التي تعاني من القطعانية
ومقالات الحمقى من المنستبين للتاريخ في الجزائر من أمثال فتيحة الواليش
ومنى صالحى وغيرهن كثير

مشكور يا أخي الحبيب

أعرف أحد الباحثين
يبحث في الحركة العلمية والأدبية في الجزائر خلال القرننين السابع والثامن عشر
الميلاديين
إنه مديرنا مؤرخ المغرب الأوسط

إلا انه غير بحثه في آخر لحظة بعدما قطع شوطا كبيرا
وتوجه نحو الممغرب الأقصى والدولة السعدية التعيسة

بالتوفيق للجميع

حشفا وسوء كيلة
يا مؤرخ المغرب الوسيط
جامعتنا لا تستحق الذكر في الويب
لأنها عار على الجزائر والعرب

ماذا تقصدين يا صونيا بحشف وشوء كيلة ؟؟؟؟؟؟

ثانيا أنا معك في أن الجامعة الجزائرية لا علاقة بالأناقة والجمال

شكرا على الموضوع