كيف ساهم تفكيره في جنونه؟
إن نيتشه كان "يعرف أكثر مما ينبغي" وهي الجملة التي دائما ما رددها كولن ولسن في مشكلة اللامنتمي وشعوره بأنه مجبول لشيء أعظم – خلاص البشرية- وهو يكمن في يده.
قد عذبه هذا الشعور وأرقه, كذلك قتاله من أجل حرية الفرد جعله يخوض معاركه في مياه ضحلة.
هاجم كيركغارد المسيحية ومثله نيتشه اعتبراها مخادعة وتخفي الحقائق وهما بذلك شاهدا العدمية أمامهما في حالى إلغائها, لكن تجاوز كيركغارد العدمية وذلك بأن يصبح المرء مسيحيا أفضل إن انتقل من المرحلة الحسية الجمالية إلى المرحلة الأخلاقية حتى يصل إلى المرحلة الدينية. ولا يمكن أن توضع هذه المراحل في قوالب عقلية أو تفرض بطريقة منطقية فالمسيحية نفسها مفارقة, وهي تتطلب قفزة نحو الأعلى, بمعنى آخر إن كيركيغار رجع للمسيحية ولكن من طريق آخر ليس كطريق الكنيسة.
أما نيتشه رأى بأن الإلحاد الفرصة الأعظم وليس مجرد ضياع. فقد انشغل بالكيفية التي يستطيع المرء بواسطتها أن يخرج من المسيحية, فالإيمان المسيحي بنظره "انتحار عقلي" في حين يقبل كيركغارد التضحية بالعقل فإن نيتشه يرفضها وينظر للمسيحية على أنها تضحية للروح البشرية.
وفي تصور نيتشه بأن القضاء على العدمية يبدأ بالقضاء على الإله, فأعلن بحماقة موت الإله ودون أن يدري أنه بذلك إنما يعمق من الأحساس بالعدمية ويدفع بالعالم الذي أصبح بلا قانون يحكمه إلى هاوية بلا قرار.
هذا فقط لإيضاح ما طبيعة الحمل الذي أخذه فكر نيتشه على عاتقه.
فهو يرى خلاص البشرية على يده فأخذ مطرقته وهدم الأخلاق وفيما يخص بمشرعها أماته, وقدم هدف جديد للإنسان يجب أن يخدمه وهو "الإنسان الأعلى" وأقام معه فكرة العود الأبدي حتى يحب الإنسان الحياة ويعمل لخيره فيها, وفيما يخص العالم ما الذي يحركه؟ تطل علينا إرادة القوة.
هو بذلك يقدم لنا نظاما جديدا "دينا جديدا".
وهذا معناه أن تفكير لن يتوقف فقط عند الأمور الكبيرة التي تهم البشر, بل ومع صغائر الأمور (التافهة), فانكب على القراءة والكتابة ليفكر بشكل أكثر وأبعد مما سبب له سلسلة طويلة من أمراض الصداع وسوء الهضم والإنهاك العقلي والجسدي, فكان يبلغ به الأمر أنه لا يستطيع أن يفهم شيئا أو يدرك أمرا مهما تفه في بعض الأحيان.
وكما قال كولن ولسن: "كانت الأمور تعرقل طبيعته الخلاقة, لأن ذهنه ارتفع إلى مستويات عالية من التفكير حين كان يتمتع بصحة جيدة. وكان مثل فان كوخ في أن الأمور التافهة ضيقت عليه الخناق في اللحظة الحرجة التي بدأ فيها بالأنهيار...".
لا أريد أن أقلل من شأن المرض الذي أصاب نيتشه وهو ما يزال تلميذا, فقد ساهم في جنونه, بقية صحته معتله منذاك الوقت, وهي فترة طويلة قد يكون فعلا سببا كافيا لجنونه.