أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيشرفنا أن تقوم بالتسجيل والمشاركة معنا
إذا أعجبك المنتدى يمكنك أن تضغط على زر أعجبني أعلى الصفحة .... شكرا لزيارتك
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيشرفنا أن تقوم بالتسجيل والمشاركة معنا
إذا أعجبك المنتدى يمكنك أن تضغط على زر أعجبني أعلى الصفحة .... شكرا لزيارتك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


(( الحكمــة لله وحــده ، وإنمـا للإنسان الاستطاعـــة في أن يكون محبًا للحكمة تواقًا الى المعرفة باحثًا على الحقيقة )) سقراط.
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  
ازرار التصفُّح
 البوابة
 الرئيسية
 قائمة الاعضاء
 البيانات الشخصية
 س .و .ج
 بحـث
المواضيع الأخيرة
» " فينومينولوجيا المعيش اليومي" من منظور المفكر مونيس بخضرة .
الجاحظ Emptyالإثنين أبريل 17, 2017 2:59 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  هكذا تكلم المفكر الجزائري " د . الحــــــــــاج أوحمنه دواق " مقاربات فلســـــفية " بين الضمة و الفتحة و الكسرة "
الجاحظ Emptyالسبت أبريل 15, 2017 2:26 am من طرف الباحث محمد بومدين

» كتاب فاتحة الفتوحات العثمانية
الجاحظ Emptyالخميس أغسطس 18, 2016 2:21 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

» برنامج قراءة النصوص العربية
الجاحظ Emptyالخميس أغسطس 18, 2016 2:12 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

» إشكالية الحرية فى الفكر الفلسفى
الجاحظ Emptyالخميس ديسمبر 17, 2015 11:19 pm من طرف soha ahmed

» المغرب في مستهل العصر الحديث حتى سنة 1603م
الجاحظ Emptyالأربعاء نوفمبر 25, 2015 8:24 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  هكذا تكلم المفكر الجزائري " د . الحــــــــــاج أوحمنه دواق " مقاربات فلســـــفية " بين الضمة و الفتحة و الكسرة "
الجاحظ Emptyالأربعاء نوفمبر 18, 2015 8:41 pm من طرف الباحث محمد بومدين

»  هكذا تكلم المفكر الجزائري " د . الحــــــــــاج أوحمنه دواق " مقاربات فلســـــفية " بين الضمة و الفتحة و الكسرة "
الجاحظ Emptyالأربعاء نوفمبر 18, 2015 8:33 pm من طرف الباحث محمد بومدين

»  هكذا تكلم المفكر الجزائري " د . الحــــــــــاج أوحمنه دواق " مقاربات فلســـــفية " بين الضمة و الفتحة و الكسرة "
الجاحظ Emptyالأربعاء نوفمبر 18, 2015 8:30 pm من طرف الباحث محمد بومدين

» دخول اجتماعي موفق 2015/2016
الجاحظ Emptyالجمعة سبتمبر 04, 2015 4:07 am من طرف omar tarouaya

» أنا أتبع محمد...
الجاحظ Emptyالإثنين يناير 19, 2015 3:08 pm من طرف omar tarouaya

» بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة
الجاحظ Emptyالإثنين ديسمبر 01, 2014 2:12 pm من طرف omar tarouaya

» مرحيا يالاعضاء الجدد
الجاحظ Emptyالسبت أكتوبر 11, 2014 11:16 pm من طرف omar tarouaya

» لونيس بن علي، التفكير حول الدين ضمن الحدود الإنسانية للمعرفة
الجاحظ Emptyالأحد أغسطس 31, 2014 12:55 am من طرف عبد النور شرقي

» تحميل كتاب الحلل البهية في الدولة العلوية الجزء الثاني
الجاحظ Emptyالخميس أغسطس 28, 2014 1:33 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

» في رحاب الزاوية الحجازية بسطيف
الجاحظ Emptyالأحد أغسطس 17, 2014 12:37 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

» العز والصولة في معالم نظام الدولة
الجاحظ Emptyالجمعة أغسطس 15, 2014 2:41 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير ( 12 مجلدا )
الجاحظ Emptyالخميس أغسطس 14, 2014 11:10 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  كتاب حول تاريخ الحضنة والمسيلة وما جاورها
الجاحظ Emptyالإثنين يوليو 28, 2014 11:23 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  كتاب مهم في الانساب الجزائرية
الجاحظ Emptyالإثنين يوليو 28, 2014 11:22 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

سحابة الكلمات الدلالية
الفكر النسق اللغة المسلمين سقراط البحث محمد الفلسفي الفلاسفة الذاتية مقال السؤال الموضوعية المغلق الظواهرية نظرية الامام الانسان الفيض المنطق مقالة فلسفة الحيوان العالمية الفلسفة الحرب

 

 الجاحظ

اذهب الى الأسفل 
5 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
عادل مومن
عضو رائع
عضو رائع



عدد المساهمات : 62
التقييم : 8
تاريخ التسجيل : 03/09/2010

الجاحظ Empty
مُساهمةموضوع: الجاحظ   الجاحظ Emptyالسبت سبتمبر 04, 2010 3:02 am


مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 384 نيسان 2003



فهرس العدد
فهرس الدوريات


البخيل والبخلاء بين الجاحظ وموليير دراسة مقارنة لأنموذج البخيل بين: الأدب العربي والأدب الفرنسي ـــ صالحة نصر
منهج البحث‏
ـ تعريف الأنموذج (البخيل) في الأدب المقارن.‏
الجاحظ ـ مولده ـ نشأته ـ أهم أعماله ـ نزعته الفنية ـ خلاصة مكثفة عن كتابه "البخلاء".‏
موليير: مولده ـ نشأته ـ أهم أعماله الأدبية ـ مسرحية "البخيل" مكثفة.‏
ـ العوامل المؤثرة التي دعت الأديبين لأنموذج البخيل.(اقتصادية ـ اجتماعية ـ خلقية ـ نفسية ـ ومادية).‏
ـ البخيل والبخلاء: تشابه واختلاف بين بخيل الجاحظ وبخيل موليير ـ أوجه التشابه ـ صور الاختلاف.‏
ـ عنصر السخرية عند الأديبين.‏
ـ التفاعل والانفعال بين الكاتب وبخيله.‏
ـ رأي واستنتاج.‏
ـ تعريف الأنموذج (البخيل) في الأدب المقارن.الأنموذج:‏
هو ذاك الإنسان الذي تتمثل فيه مجموعة من الفضائل أو الرذائل، أو مجموعة عواطف مختلفة كانت من قبلُ في عالم التجريد، أو متفرقة في مختلف الأشخاص. علماً أن هناك أنموذجات مأخوذة من مصدر أسطوري، أو ديني، أو عن تقاليد وطنية، أو غير ذلك من الشخصيات التاريخية التي دخلت ميدان الأدب... ومن هذه النماذج الإنسانية العامة أنموذج (البخيل) الذي هو موضوع هذه الدراسة. فما هو أنموذج البخيل في الأدب العربي حيث يمثله بخيل (الجاحظ) ويمثله في الأدب الفرنسي بخيل موليير؟...‏
إن شخصية الأنموذج البخيل قديمة في الأدب العالمي. تعود بدايات هذا النوع من الأدب إلى الرومانيين الذين أخذوها بدورهم عن اليونان، وعن شعراء الإغريق منهم خاصة. ويذكر الدكتور محمد غنيمي هلال أن: "من بين الذين برعوا في الملهاة من الرومانيين نخص "بلوتوس" plotus (254 ـ 184ق.م). وكان ذا أصالة في تصوير شخصيات ملاهيه، وعواطفهم، في حوار حي، وطرائف لاذعة عميقة، وكان يحاكي شعراء الملاهي من الإغريق، وبخاصة "ميناندر" (342 ـ 292 ق.م). ومن أشهر ملاهي بلوتوس التي كان لها تأثير في الآداب الأوروبية بعده، ملهاة "أولولاريا"، أو "وعاء الذهب". وقد حاكاه "موليير" في ملهاته الشهيرة "البخيل"(1)... كما يشير الدكتور هلال في مكان آخر إلى تأثر موليير في مسرحيته الشهيرة "البخيل"، بالشاعر الروماني بلوتوس حيث "صور موليير شخصية "أرباغون" أنموذجاً إنسانياً للبخيل وتعمق في تصويره أكثر مما فعل بلوتوس بحيث ظهرت هذه الرذيلة الاجتماعية في صورها المختلفة الهدامة في علاقة البخيل بأولاده، وفي نظرته إلى المجتمع، حتى ِأن عاطفة الحب عنده لم تطغ(2) على صفة البخيل فيه... وقد ظهرت في المسرحية آثار هذا البخل الأليمة في أبناء ذلك البخيل. مما أكسب هذه الملهاة طابعاً به يقرب الضحك المر من البكاء. وتبدو من خلالها المأساة الاجتماعية في صورة ملهاة عميقة المعاني"(3)... وتوالت بعد ذلك المسرحيات في الآداب الأوروبية تصور أنموذج البخيل، وأشهرها مسرحية الشاعر الإيطالي "كارلو جولدوني" (1707 ـ 1793م). وعنوانها البخيل، وهي ملهاة في فصل واحد. وللمؤلف ملهاة أخرى عنوانها "البخيل المتبرج"، كما له ملهاة ثالثة بعنوان: "البخيل الغيور"، هذا في الأدب الأوروبي. فما هو الشأن في الأدب العربي؟؟ هل كان الجاحظ مبتدعاً في هذا الباب؟... أم سبقه سابقون إلى الخوض فيه؟؟ ما الذي لفت الجاحظ إلى موضوع البخل وإلى تصوير البخلاء؟؟!...‏
في المقدمة التي وضعها الدكتور طه الحاجري في تحقيق كتاب "البخلاء للجاحظ"، يشير إلى أن الجاحظ لم يكن أول من ابتدع الكتابة في موضوع البخل والبخلاء فابن النديم في "الفهرست"، والجاحظ نفسه في كتاب "البخلاء"، يشيران إلى أن له في هذا الموضوع أسلافاً من أمثال "الأصمعي"، و"أبي الحسن المدائني"، و"أبي عبيدة"، ولكن الأمر مختلف بين الجاحظ وبينهم".(4).‏
فمن هو "الجاحظ" الذي ارتقى بهذا الفن النثري؟ ومن هو "موليير" الذي خلدته آثاره الأدبية وعُدّت من روائع المسرح الفرنسي الكلاسيكي، ومنها مسرحية "البخيل"؟..‏
كيف تصور هذان الأديبان /الجاحظ وموليير/ أنموذج "البخيل"، وكيف رسما ذلك؟... ماهي العوامل المؤثرة التي دعت الأديبين لتناول أنموذج البخيل؟... ثم ماهي الصفات الشخصية التي تشابه كل منهما مع الآخر؟ وماهي أوجه الاختلاف بين بخيليهما؟ وما مدى الانفعال والتفاعل بين كل كاتب وبخيله؟... وكيف جاء عنصر الإضحاك والسخرية الذي يُعدُّ من أهم مقومات فن الفكاهة أو /الملهاة/؟؟؟‏
الجاحظ: هو أبو عثمان عَمْرو بن بحر بن محبوب الكناني الجاحظ. ولد بالبصرة سنة تسع وخمسين ومئة هجرية. وتوفي سنة خمس وخمسين ومئتين هجرية. كان في قلة ثم أثرى بجهده ونشاطه ودأبه.‏
أخذ الجاحظ العلم عن المسجديين، وعن خطباء العرب بالمربد، كما أخذ العلوم العربية عن كبار علماء عصره، على أن علمه الواسع جاء عن طريق مطالعته الخاصة حيث كان شديد الولع بالقراءة.‏
"تثقف الجاحظ باليونانية عن طريق علماء الكلام، كحنين بن اسحاق، وسلمون وأمثالهما، وبالفارسية من كتب ابن المقفع، ومشافهة أبي عبيدة".(5). وكان إلى جانب ذلك يختلط بالفقراء والأغنياء والكبار والصغار وعامة الناس. فاكتسب من ذلك خبرة واسعة بطبائع الناس، وعاداتهم وتقاليدهم، وأفكارهم وميولهم.‏
وافق مولد الجاحظ في عصر ساد فيه الترف المادي والفكري. فنشط سوق البيان والعلم، وكثر المثقفون وظهر العلماء في شتى المجالات، وانتشرت الحرية الفكرية والمناظرات الكلامية في عصر تشابكت فيه الثقافات الإنسانية بصورة واسعة... انتقل من البصرة إلى بغداد، وكانت هي والكوفة آنذاك عاصمتي العلم والمعرفة والأدب، ومركزي التفاعل بين الحضارات والأديان والمذاهب على اختلافها.‏
أصبح الجاحظ بذلك إماماً من أئمة الكلام، وزعيماً من زعماء المعتزلة، وصاحب نحلة من نحلهم، عالماً، محيطاً بمعارف عصره لا يكاد يفوته شيء منها. "في بغداد ظهرت شهرته وسار صيته في الآفاق، وعرف بالأديب الأول، والكاتب الأول المؤلف في علوم الدين حيث أصبح رئيساً لفرقة المتكلمين المعتزلة التي دعيت "بالجاحظية"(6). كما أصبح راوية من رواة اللغة وآدابها وأخبارها، غابرها ومعاصرها، واسع الرواية، دقيق المعرفة، قوي الملكة في نقد الآثار وتمييزها...‏
ألم الجاحظ إلى جانب ذلك بالفارسية، وعرف بوساطتها ثقافات الدول المعاصرة فشارك في الحياة مشاركة فعالة. وكان فوق هذا كاتباً، أديباً، بكل ما تتضمنه هذه الصفة من رهافة في الحس، وخصوبة في الخيال، وقوة في الملاحظة، ودقة في الإدراك وقدرة على التغلغل في دقائق الموجودات، واستشفاف الحركات النفسية المختلفة، وتمكن من العبارة الحية النابضة في بساطة ودقة وجمال.‏
كان الجاحظ دميم الخلقة، قصيراً، أسود، بارز العينين، ولذلك لقب بالجاحظ. يحدثنا هو عن شوهته فيقول: "ذكرت للمتوكل لأعلم أولاده، فلما استحضرني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف دينار وصرفني".(7)، إلا أن هذه الصفات التي غالباً ما تقود الإنسان إلى التأزم النفسي، والشعور بالنقص، وبالتالي إلى النقمة على الحياة لم تؤثر في الجاحظ... فقد كان حلو الحديث، حسن المحاضرة، حاضر الجواب، سريع النكتة، ناعم السخرية، يحب اللهو والطرب، وله ولع شديد بالضحك والإضحاك. فكأنه لا ينظر إلى الحياة إلا من وجهها المشرق. ينفد بعقله إلى المدركات الخفية، ويراها بوضوح تام... ولذا فقد أدرك ذاته وفهمها وتقبّل عيوبها، وتبنى محاسنها. كما أدرك واقع الحياة بروح مرحة راضية... على أن ما تميز به الجاحظ إلى جانب علمه وبيانه ومناظراته الفلسفية، هو نزعته إلى السخرية والتهكم إلى جانب المرح والدعابة.‏
ولعل في الحادثة التالية التي يوردها محقق البخلاء، عن الجاحظ، ما يعطي صورة دقيقة، وفهماً أعمق لروح الجاحظ المرحة الشفافة التي وجدت في الدعابة والفكاهة والتندر بمواقف البخلاء ما يعجز عن التقاطه الأذكياء. "حين تولى الوزارة محمد بن عبد الملك الزيات، اتصل الجاحظ به وقدم إليه كتابه "الحيوان"، فنشأت بينهما صداقة حميمة، وكان ابن الزيات مناوئاً للقاضي أحمد بن داوود في زمن "المعتصم" فوقف الجاحظ مع صديقه الزيات ضده. ولما صارت الخلافة إلى "المتوكل"، وعذب "ابن الزيات" في التنور هرب الجاحظ وقال: "لا أريد أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور". غير أنه قبض عليه، وأتي به مقيّداً إلى ابن داوود الذي أراد القضاء عليه ولكنه استطاع أن يحظى بعفوه بفصاحة لسانه، وقوة منطقه، وأسلوبه المرح..."(8).‏
دارسو، وشارحو، ومحققو كتب الجاحظ بلغ عددهم في أرشيف مكتبة الأسد الوطنية بدمشق لوحدها /121/ مئة وواحداً وعشرين دارساً ونيف. توزعت دراساتهم بين أهم مؤلفاته وأشهرها: (الحيوان ـ البيان والتبيين ـ رسائل التربيع والتدوير ـ الإيجاز ـ تهذيب الأخلاق ـ خلق القرآن ـ الاعتزال ـ الإمامة ـ العرب والموالي ـ العرب والعجم ـ الرد على المشبهة ـ الجواري ـ الحاسد والمحسود ـ فلسفة الجد والهزل ـ التاج في أخلاق الملوك ـ الحنين إلى الأوطان ـ المحاسن والأضداد ـ النساء ـ القضاة والولاة ـ رسائل الجاحظ ـ منتخبات من أدبه ـ وبحوث تحليله لأدبه....)، أما دارسو وشارحو كتابه البخلاء فقد قارب عددهم في الأرشيف نيفاً وأربعين دراسة يعود أقدمها، إلى سنة /1905/ القاهرة.‏
وإذا ما تساءلنا عن الغاية التي رمى إليها الجاحظ من تأليف كتابه البخلاء، توصلنا إلى آراء متباينة تعكس وجهة نظر الدارسين... لقد ذهب بعضهم إلى أنه أراد بموضوعه البخلاء إضحاك الناس وتسليتهم، وقال بعضهم: إنه أراد به إصلاح المجتمع من الفساد... وزعم آخرون أن ما كتبه ينم عن نفسيته البخيلة...، إلا أننا نستشف من مختلف المراجع أن أحاديث البخل وأخبار البخلاء كانت تسير في طريقين متجهين إلى غايتين: يقوم في أحد الطريقين دعاة الشعوبية الذين يقفون بالمرصاد فيردون على العرب فخرهم واعتزازهم بالكرم والشجاعة وغيرها من الصفات التي تتطلبها المروءة في الصحراء. ولهذا فهم يحاولون جاهدين تلقّط الأخبار التي تتعلق بأسلوب حياة العرب القاسية، وهيأة معيشتهم الخشنة، ومأكلهم، ومطاعمهم البدائية إلى غير ذلك من لوازم البداوة... وذلك بهدف النيل والتقليل من شأن العرب، والحط من قدرهم... وقد وجدت حركة الشعوبية في باب الهجاء عند شعراء العرب مادة دسمة، فركبت موجتها، لأن الهجاء قائم على التجني، وحيث القبيلة تحمل التبعة كلها كما يقول الجاحظ "والعرب إذا وجدت رجلاً من القبيلة قد أتى قبيحاً، ألزمت ذلك القبيلة كلها، كما تمدح‏
القبيلة بفعل جميل وإن لم يكن ذلك إلا بواحد منها".(9). وهكذا... حينما ظفر دعاة الشعوبية بهذه المجموعات من أخبار البخلاء، ذهبوا يصنفونها ويملأون بها الجو على العرب والعربية تشنيعاً وسخرية.‏
وقد أشار الجاحظ إلى هذا المنحى عند حديثه عن تلك الأهاجي فقال: "... وهذا الباب يكثر ويطول... فإن أردته مجموعاً فاطلبه في كتاب الشعوبية فإن هنالك مستقصى".(10).‏
وهكذا نرى أن الخصومة الجنسية التي ثارت بين الروح العربية، والروح الشعوبية، قد أدت إلى نوع من الحديث عن البخل وجهته ولونته بما تريد، كما وجهت أنواعاً أخرى من الأحاديث، وخلقت ضروباً من الكتب والتآليف كثيرة!!....‏
ـ وفي الطريق الأخرى كان يقوم دعاة الدولة القائمة ممن وضعوا أنفسهم في خدمة السلطان، من العلماء وأهل الأدب... ومنهم من كان ينصر الدعوة العربية ويتعصب لها كالأصمعي... ومنهم من كان أميل إلى الشعوبية كالمدائني وغيره...‏
ومهما يكن من أمر هؤلاء الذين سبقوا الجاحظ في الكتابة عن البخل والبخلاء: "ومهما تكن حقيقة الحوافز إليه، فقد جاءت كتابتهم فيه إخبارية لا فنية، تعرض صوراً من الحياة الماضية دون الحياة الحاضرة، ولكنها مع ذلك كانت ـ فيما نحسب ـ مما لفت الجاحظ إلى هذا الموضوع"(11). بل لقد كانت بلا ريب جرساً نبه نزعته الفنية إلى اقتحام هذا اللون، والإبداع فيه، فكان كتابه الثر، كتاب البخلاء الذي نرى فيه مظهراً من مظاهر النزعة الفنية الجياشة، السريعة الاستجابة، التي يمتاز الجاحظ بها، والتي كانت تطبع شخصيته بطابع مميز. وهنا يخطر سؤال هام يقول: أكان هناك غرض أو أغراض شخصية كانت تداخل نفس الجاحظ وتؤثر في توجيه قلمه، وتلوّن مجراه؟؟..‏
يجيب الدكتور الحاجري عن ذلك فيقول: "الواقع أن نزعة الجاحظ الفنية وحدها كانت حافزته وباعثته، فهي حافزته إليه، وباعثته فيه وصاحبة الأمر في تصريفه وتلوينه". ويؤكد الدكتور الحاجري على هذه القناعة مرة ثانية في مكان آخر من كتابه فيقول:"ومن هذا نرى أنه لم تكن تنزع بالجاحظ إلى هذه الأحاديث نزعة غير النزعة الفنية"(12). إلا أن الباحث المتعمق يجد في سخرية الجاحظ من أكثر الطبقات الاجتماعية، بدءاً بالملوك والرؤساء، وانتهاء بعامة الناس، مروراً بمن كانوا من أئمة المعتزلة، الذين ينتسب الجاحظ إليهم مثل أبي الهذيل العلاف، وعلي الإسواري، كما نجد في سخريته من الأصمعي العربي، وأبي سعيد المدائني أسباباً أبعد من تلك التي تعود إلى نزعته الفنية، وقد يكون من أهمها توجيه النقد اللاذع، بأسلوب ساخر خفيف، إلى الطبقة التي أعماها الثراء عن التبصّر في أمور الآخرين، وكشف زيف ذلك الثراء الذي قام على استغلال جهد الآخرين. وبذلك يكون الجاحظ قد أسهم أدبياً في خلخلة البناء الطبقي الاجتماعي، ونبه السلطة الحاكمة إلى ماهي فيه من غربة، وإلى القطيعة بين الحاكم والمحكوم!!!...‏
خلاصة كتاب البخلاء:‏
يتحدث الجاحظ في مدخل كتابه، من خلال مقدمة عنوانها: "ربِّ، أنعمتَ فَزِدْ". عن المحتوى، وعن أسلوبه فيه، وأنه في نوادر البخلاء واحتجاج الأشحاء، وما يجوز من ذلك في باب الهزل، وما يجوز في باب الجد... وكذلك عن الباعث على تأليفه، والإلماع إلى مصادره والأبواب التي سيتناولها. وقد جاءت مقدمته على شكل رسالة موجهة إليه من صاحب لم يذكر اسمه، رجاه فيها أن يحدثه عن البخيل ونوادر البخلاء بعد أن حدثه عن حيل لصوص الليل... وأوضح الجاحظ في المقدمة أن أشخاص البخلاء بعضهم حقيقيون، وبعضهم الآخر وهميون لم يذكر أسماءهم: "وقد كتبنا لك أحاديث كثيرة مضافة إلى أربابها، وأحاديث كثيرة غير مضافة إلى أربابها، إما بالخوف منهم، وإما بالإكرام لهم".(13). منهياً كتابه بفصل عن ضروب الطعام عند العرب، وما يتهاجون ويتمادحون به في هذا الباب... فمن رسالة سهل بن هارون في آداب الإنفاق، إلى تصوير بخل أهل خراسان، ولاسيما أهل مرو الذين يكاد يكون البخل فيهم فطرة وغريزة يولدون عليها... وفيهم يكتب الجاحظ قائلاً: "نبدأ بأهل خُراسان، لإكثار الناس في أهل خراسان، ونخص بذلك أهل مَرْو بقدر ما خُصُّوا به: قال أصحابنا: يقول المروزيُ للزائر إذا أتاه، وللجليس إذا طال جلوسه، تغديتَ اليوم؟ فإن قال: نعم، قال: لولا أنكَ تَغديتَ لغدُّيتكَ بغداء طيّب، وإن قال: لا.... قال: لو كنتَ تغديتَ لسقيتُكَ خمسةَ أقداح. فلا يصير في يده على الوجهين قليل ولا كثير...".(14). ويرى الجاحظ أن البخل في أهل خراسان لا يقتصر على البشر، وإنما هو وباء تسرب إلى الحيوانات أيضاً. وفي هذا يتابع الجاحظ فيقول: "وقال ثُمامة: لم أرَ الديك في بلدة قط إلا وهو لافظ، يأخذ الحبة بمنقاره ثم يلفظها قدام الدجاجة، إلا دِيَكَة مرو، فإني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج مافي مناقيرها من الحب. قال: فعلمتُ أن بخلهم شيء في طبع البلاد وفي جوهر الماء، فمن ثمَّ عَمَّ جميع حيوانهم".(15). ومن قصص أهل البصرة من المسجديين ص /56/ إلى قصص زبيدة(16)، بن حميد ص/64/ وليلى الناعطية /67/ وابن خلف /71/ وابن يزيد /77/ التي تدور على أن لُحمة البخل كصلة النسب. وأن بيوت الأموال درهم إلى درهم... وأن القناعة شيء لا يُدرك... وأن فضيلة المال في الحفاظ عليه، لا في جمعه.‏
ومن نوادر أبي جعفر الطرسوسي ص/97/، وأبي محمد الحزامي ص/98/، وخالد بن عبد الله القسري ص/107/، والحارثي /109/.... إلى نوادر أبي فاتك ص/122/، والكندي/129/ وابن المؤمل/147/، وابن جاني/159/ والثوري/160/ التي يفلسف فيها البخل: فالسخاءُ مالٌ وحمد، والبخل مال وذم، وأن سوء المعاملة في أمور المال تؤدي إلى هبوط الأسعار والكساد الاقتصادي، وأن الإنفاق مرتبط بالمنفعة والموت منوط بالتخمة..".‏
ومن كلام العقدي ص/198/ والمدائني/209/، والأصمعي/220/، وأبي عُيينة /221/... إلى رسالة الثقفي ص/235/ وابن التوأم /256/، وإلى أنواع مختلفة من ضروب الطعام عند العرب ص/319/، وحديث القِرى... والكرم... وآداب الضيافة عندهم!!... ومن خلال هذا العرض، يمكن أن نضع يدنا على أنموذجات متعددة مثلت جوانب كثيرة باستطاعتنا أن نردها إلى المسارات الخمسة التالية التي قصد الجاحظ إليها، وهي(17):‏
المسار الأول: في تصوير حال المقتصدين الضاربين إلى الادخار، والمقترين على أنفسهم وعلى ذويهم، وقد كان الجاحظ جاداً في سوق أقاصيصه هنا بحيث جعلها تنبئ عن النفور من الإسراف والتبذير، وأن الادخار هو العقل بعينه... الأمر الذي حدا ببعض الكُتاب إلى أن يسلك الجاحظ في زمرة البخلاء لأنه لم يدفع حجج البخلاء، ولم يذم صنيعهم ويستنكره.‏
المسار الثاني: وينزع الجاحظ فيه إلى تصوير نفسية البخلاء من خلال مجادلتهم ومناظرتهم في ذلك يقول: "وليس عجبي ممن خلع عِذَاره(18) في البخل، وأبدى صفحته للذم ولم يرضَ من القول إلا بمقارعة الخصم... كعجبي ممن قد فَطِنَ لبخله، وعَرَف إفراطه وشُحّه وهو في ذلك يجاهد نفسه، ويغالب طبعه... فلو أنه كما فطن لعيبه، وفطن لمن فطن لعيبه، فطن لضعفه عن علاج نفسه وعن تقويم أخلاطه... لترك تكلف ما لا يستطيعه، ولربح الإنفاق على من يذمه"(19).‏
المسار الثالث: وفيه يكشف عن سَوْءات البخلاء الذين يلجأون /يلجؤون/ إلى إخفاء السوءات في قرارة نفوسهم... إلا أن اللا شعور لا يلبث أن يلفظها دون وعي منهم. فتطفو على السطح وقد هتكت سترهم. وكشفت عن مرضهم "ودلت على حقائق التموهين... وهتكت عز أستار الأدعياء، وفرقت بين الحقيقة والرياء، وفصلت بين المقهور المنزجر ـ في طوايا النفوس ـ والمطبوع المبتهل".(20).‏
والكتاب من هذه الزاوية، ومن الزاوية السابقة يعد كتاباً في تحليل نفسية البخلاء.‏
المسار الرابع: يتجه الجاحظ فيه إلى تصوير حالات الشره والنهم في الأكل، وتبيان حال المعوزين في كيفية الحصول على المال، كقصص الحارثي؛ وكقصص خالد بن يزيد الذي اتخذ الكُدْية مهنة له... ويصنف النقاد الكتاب من هذه الوجهة بأنه صورة لأدب الكُدْية وصورة للمطبخ وآدابه.‏
المسار الخامس: ويبين جانباً من هدف الكتاب وهو الضحك واللهو وإملاء الفراغ من سخرية على البخلاء، ويصنف ذلك في ثلاثة أشياء "تبيّن حجة طريفة، أو تعرف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة"(21).‏
البخيل لموليير: ولد "جان باتست" في باريس عام /1622م/ بالقرب من مكان يدعى (بون نيف) كان ملتقى المهرجين والمشعوذين والمطربين!! كان جده لأمه المولع بالتردد على المسرح يصطحب جان معه وهو ما زال في الحادية عشرة من عمره... في حين كان جده لأبيه يملك متجراً في ساحة سوق (سان جرمان) حيث كانت تقام فيها العروض المسرحية الشعبية. من تلك السن المبكرة، ومن خلال هذا الجو والنشأة، بدأ الصبي يتشبع بالروح الفني لتبدأ ملامح الذكاء والتفوق تظهران عليه وهو يدرس في مدرسة (كليرمون) حيث يتجمع أبناء الطبقة النبيلة الذين غدا لهم شأن كبير فيما بعد في المجتمع كـ(برينييه الكاتب، وشابيل الشاعر، ودي بوربون) الذي قُدّر له أن يصبح "كونتي" وراعي الأدب، وحامي لموليير ونصيره.‏
بعد مدرسة كليرمون، انتقل جان إلى مدرسة "جاسندي" الفيلسوف المتحرر والمرح. حيث تأثر فيما بعد بالدراسات الفلسفية التي انعكست على بعض أعماله المسرحية.. ولما كان والده يرغب في تأهيله للخدمة في بلاط الملك "لويس الثالث عشر" وجهه باتجاه كلية الحقوق بجامعة "أوليان" وفيها حصل جان على ليسانس المحاماة. إلا أنه لم يزاول هذه المهنة التي كان يرى فيها ما سماه (بالعدالة الملتوية). ولأن طموحه الذي كان يتطلع إلى عالم التمثيل دفعاه إلى أن يصارح والده بأنه سيحترف التمثيل الهزلي. وشرع من توّه في العمل المسرحي. دخل جان عالم المسرح بشكل كامل عام /1643م/ واتخذ لنفسه اسماً لأحد مؤلفي الروايات هو "موليير" ثم اختار لفرقته اسم (المسرح الفخم) وبدأ نجمه يرتفع يوماً، بعد يوم فكثر أنصاره، وكان على رأسهم الملك لويس الرابع عشر، والناقد "بوالو".. كما كثر معارضوه، وكان على رأسهم رجال الكنيسة... لكنه استمر في عمله، وظل يكافح بعزيمة وعناد، على الرغم من كثرة العواصف التي كادت تطيح به... ، فأخذ يكتب المسرحيات، ويشارك في التمثيل بجهد ودأب، ليخرج للأدب العالمي روائع المسرحيات التي تمثل حتى اليوم، وتستقطب عشاق المسرح، و من أهمها:‏
ترتوف ـ الدون جوان أو (البرجوازي النبيل) ـ مريض الوهم ـ المتحذلقات ـ مدرسة الأزواج ـ طبيب رغم أنفه ـ زواج بالإكراه ـ الرجل النفور ـ مدرسة النساء... وغيرها.‏
في عام /1792م/ نقل إلى متحف الآثار الفرنسية حجر ضخم متشقق يميل لونه إلى السواد، كان كل ما بقي للإنسانية من قبر موليير الذي تصارع مع السل فصرعه الآخر عام /1673م/.‏
بخيل موليير: يشير النقاد إلى أن مسرحية "البخيل" لموليير من أحسن مؤلفاته. وهي مسرحية نثرية تقع في خمسة فصول، وتدور حوادثها في منزل البخيل "أرباغون" بباريس، حيث مثلت أول مرة في التاسع من سبتمبر عام /1668م/.‏
بطل المسرحية إذن هو البخيل ("أرباغون" Harpagon) ـ شيخ في الستين من عمره، استهواه جمع المال. فوضع ماله في صندوق خبأه في حديقة داره بعيداً عن أعين الرقباء والمتطفلين. لأرباغون ولد يسمى (كليانت Cleante) وبنت تدعى (أليس Ellse). يتركز دور كليانت في المسرحية حول علاقته بـ(ماريان Mertane)، الفتاة التي تسكن بجوارهم منذ عهد قريب، والتي تعيش مع أمها المريضة عيشة متواضعة. فيصارح كليانت أخته أليس بمشاعر نحو ماريان. وبرغبته في انتشالها من الفقر، ولكن كيف السبيل إلى ذلك مع بخل أبيه، الذي يحرمهما من السعادة؟ وبعد أن تتفق أليس معه في كل ما يقوله، ينصرفان لنرى أرباغون وقد تسلطت عليه الوساوس، وأصيب بالاضطراب النفسي بعد أن أصبح يعتقد أن الناس كلهم يطمعون في أمواله المخبوءة.. ثم يحضر (لافليش Lafleche) خادم كليانت، فيأمره أرباغون بالانصراف. ونسمع الحوار التالي:‏
أرباغون: اذهب لوجهك توّاً... ولا تجادلني... هيا أغرب عني... نابغة اللصوص... طريد العدالة.‏
لافليش: (يخاطب نفسه في شبه تمتمة): ما صادفت في حياتي قط شراً من هذا الشيخ اللعين. وأكبر ظني، ـ مالم يقم الدليل على العكس ـ أن به مساً من الشيطان.‏
أرباغون: أراك تتمتم!!‏
لافليش:لِمَ تطردني؟‏
أرباغون: نعم، نعم، هل يتجرأ صعلوك مثلك أن يطالبني ببيان؟ والله إن هذا لشيء عُجاب، هيا انصرف، وإلا لطمتك على وجهك.‏
لافليش: وماذا صنعتُ لك؟... هل أستحق هذا؟...‏
أرباغون: صنعتَ؟... إني أريد أن تغادر هذا المكان.‏
لافليش: لقد أمرني سيدي كليانت أن أبقى في انتظاره هنا...‏
وبعد حوار طويل يدور بين الاثنين يتهم فيه أرباغون لافليش بأنه يراقبه وبأنه جاسوس يمكن أن يذيع أخبار ماله المكنوز، يهم بصفعه طالباً منه الخروج ثم يصرخ به:‏
أرباغون: مكانك!.. لا ترحل...(مقترباً منه).. ألم تسلبني شيئاً؟..‏
لافليش: وماذا أستطيع أن أسلبك؟..‏
أرباغون: اقترب مني لأرى.. هات يديك....‏
لافليش: هاهما يداي...‏
أرباغون: والآخرين؟ (ظاناً أنه سرق بيدين أخريين).‏
لافليش: (يريه إياهما من خلفه) ها هما تان.‏
أرباغون: (مشيراً إلى سراويل لافليش)، هذه السراويل الواسعة تصلح لإخفاء المسروقات، وأتمنى لو يشنق بعضهم من أجلها.‏
وبعد انصراف لافليش، ولقاء على المسرح بين أرباغون وابنته وابنه حيث يصارحهما بأنه اعتزم الزواج بشابة تدعى ماريان، وأنه عازم كذلك على تزويج كليانت بأرملة غنية، وبأنه قد اختار السيد أنسليم، ذلك الرجل الناضج الذي أشرف على الخمسين، والذي اشتهر بثرائه الفاحش، زوجاً لابنته أليس، يتركهما مع الخادم "فالير" الذي كان يحب "أليس" وعلى علاقة بها، والذي زج نفسه في هذا العمل ليكون قريباً من محبوبته.‏
الفصل الثاني: يكثف الفصل الثاني حاجة كليانت للمال، فيحاول استدانته من أحد المرابين، وعن طريق خادمه لافليش الذي يتصل بالسمسار (سيمون)... وهنا تبرز الشروط القاسية التي يمليها المرابي المستتر، (والتي تذكرنا بشروط تاجر البندقية اليهودي "شايلوك"...)، وبعد أن يذعن كليانت مضطراً لذلك، يلتقي على المسرح المرابي الجشع، فيفاجأ بأنه والده أرباغون، لينتهي الموقف بمناقشة عنيفة بينهما، ثم لينتهي الفصل الثاني بين أرباغون و(فروزوين) الماكرة التي تدبر له الزواج من ماريان.‏
الفصل الثالث: ويتضمن تعليمات أرباغون المشددة بخصوص عدم الإسراف في مأدبة عشاء سيقيمها في المساء، مع اختيار مأكولات تميت الشهية... وبعد حوار طويل بين أرباغون والحوذي (جاك) يطلب أرباغون منه أن ينقل إليه ما يقوله الناس عنه، وبعد أن يخبره جاك عن سخرية الناس منه ينهال ضرباً بالعصا عليه حتى يسكته.‏
أما الفصل الرابع: فينقل إلينا الصدام الذي يقع بين أرباغون وكليانت بعد أن يكتشف الأب علاقة ابنه بماريان فيطرده ويتبرأ منه، ويحرمه من الميراث... ثم نادى (لافليش) قادماً من الحديقة، يحمل صندوقاً صغيراً كان أرباغون قد أخفى فيه نقوده، مقدماً إياه إلى كليانت... وعندما يكتشف أرباغون سرقة أمواله يصاب بمس من الجنون. ونراه يدخل إلى المسرح مهرولاً، عاري الرأس، زائع النظرات، يصيح كالمخبول: "إلى اللص!... إلى اللص!... إلى القاتل!... إلى الجاني!...، عدلك، أيتها السماء العادلة"... لينتهي هذا الفصل باستدعاء الشرطة في الفصل الخامس بعد أن اتهم أرباغون جميع الناس، فطلب إلى المفوض أن يعتقل جميع من في المدينة... ثم تتابع مشاهد المسرحية...‏
العوامل المؤثرة التي دعت الأديبين لأنموذج البخيل:‏
يشكل كتاب البخلاء للجاحظ، ومسرحية البخيل لموليير ظاهرتين من ظواهر الفكر العربي في المجتمع العباسي، والفكر الغربي في المجتمع الفرنسي. حيث تعكسان لنا أنماط الحياة في كلا المجتمعين، وقد أخذت تتحول من البساطة إلى التعقيد، بعد أن ابتعدت عنها تلك السهولة التي كانت تطبعها وتميزها... ولقد لعب العامل الاقتصادي الدور الأهم في ذلك التغيير، بعد أن غدت العراق مركزاً للتجارة وللحياة الاقتصادية النابضة من الهند والصين شرقاً، إلى المحيط الأطلسي وجنوب الحبشة غرباً... الأمر الذي جنب الأضواء، وحوّل الأذهان عن التفكير في جميع القيم باتجاه القيمة المادية التي طغت على ما سواها.... ولم يكن الأمر في المجتمع الفرنسي بأفضل من ذلك. بل كان أشد بؤساً وتعاسة، وأكثر افتتاناً بجمع المال... كما شاعت فيه ضروب النفاق والدّجل والحرص على المال. وجاءت حروب "لويس الرابع عشر معاصر موليير لتزيد الطين بِلّة، إذ أنهكت فرنسا، وخلّفت فيها أنواعاً من الشقاء، وضروباً من الطبائع الخسيسة، خلّفها بذخ الملك، ونفقات الحروب الطويلة، فاستقل ذوو الأقلام بعلاج هذه المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية حتى غدت حركتهم حركة تمهيد للثورة الفرنسية"(22).‏
وإذا كان الجاحظ قد انتقى أكثر أشخاصه من تلك الطبقة التي تكالبت على المال، فإن موليير انتقى أنموذجه ليجسم شراهة الطبقة البرجوازية المرابية الجشعة... مضافاً إليها طبقة رجال الدين المستغلة التي راحت تنتزع اللقمة من أفواه الناس.‏
وبطبيعة الحال، فقد قاد هذا الوضع الاقتصادي إلى خلخلة في المجتمع العربي، وكذلك في المجتمع الفرنسي الأمر الذي أدى إلى انشطار كل من المجتمعين ليفرز فئة كادحة تعيش في ضائقة خانقة، وتلتمس أغرب السبل والحيل من أجل حاجاتها... وكان الحال أسوأ في المجتمع الفرنسي الذي دخله الغرور بفعل كثير من التأثيرات، مما أدى إلى تمزق أصاب التركيب الاجتماعي فيه وقسمه إلى طبقات متناحرة.‏
هذه الأوضاع في كلا المجتمعين، ساقت إلى حالة خلقية متزعزعة قادت إلى الشك والريبة في كل القيم، ثم امتد الشك إلى القيم الروحية فانتشرت الرشاوى والمحسوبية، وأصبح المال سيد الموقف، والصوت الأعلى.‏
البخيل والبخلاء: تشابه واختلاف:‏
يتعقب الدكتور طه الحاجري أحد محققي كتاب البخلاء، وصف الجاحظ لبخلائه بدقة ومتابعة، ليرسم لنا أبرز الصفات الفنية التي تتجلى في أسلوب الجاحظ، والتي تأتي في أولها البراعة في الوصف، والدقة في التصوير، موضحاً أن الوصف عند الجاحظ يعني ما يشمل الوصف الحسي والوصف النفسي للبخيل.‏
والبخيل في أدب الجاحظ إنسان حقيقي موجود في المجتمع، لا شخصية أسطورية أو متخيلة، ونستطيع مع بُعد الشقة بيننا وبينه أن نراه أمامنا، كسهل بن هارون، والخزامي، والحارثي، والكندي، وابن أبي المؤمل، وابن التوأم والأصمعي... وبخيل الجاحظ إنسان يرى الاقتصاد في النفقة هو العقل بعينه، بل هو السلوك الصحيح. وتثمير المال هو الوسيلة الأجدى أو مذهب "الجمع والمنع"، كما يحلو للجاحظ أن يصفه. ثم إن البخيل يدافع عن حرصه هذا فيأخذ الجاحظ في إيراد تلك الحجج ليسوقها ممزوجة بالسخرية الناعمة تارة، ويُنطق البخيل حججاً ومسوغات تثير السخرية المكشوفة والتهزؤ الصريح طوراً آخر.... وهكذا...‏
كذلك فإن بخيل الجاحظ، من مثل أبي المؤمل، هو رجل بخيل بطبعه، لكنه يقمع بخله قمعاً كي لا يحط من منزلته... وهو يتكلف الكرم تكلفاً، فيخادع نفسه، ويخادع الآخرين، حين يعود فيقدم حججاً وأسباباً تدور كلها حول ضرورة الاقتصاد... وفي هذا تظهر الحركات النفسية التي تصدر عن البخل وتدور حوله... بينما بخيل موليير بخيل بطبعه لكنه يحيا بخله ولا يمثله أو يقمعه.‏
والجاحظ مولع باستشفاف الحركات التي تلابس البخل، وباستبطان الأحاسيس التي تصحبه وتبين الحركات الشعورية المختلفة وما بينها وبين السمات الظاهرة على البخيل من صلة، من مثل كلمة عابرة، أو إشارة طائرة، أو لفتة سريعة خاطفة.‏
وإذا ما حاولنا الاقتراب من بخيل موليير، وقارنا بين البخيلين، فإن الصورة تبدو في عديد من المواقف متشابهة، وتفترق في حالات أخرى، تبعاً لرؤية كل أديب لبخيله.‏
أولاً: فصفة التخصيص تظهر واضحة على بخلاء الجاحظ، لأنه كان يصور كل بخيل على حدة، ويخلع على الواحد منهم من الملامح والسلوك غير ما نجده لدى الآخر. فإذا قرأنا قصص المسجديين نجد صورة (زبيدة بن حميد) غير صورة(أبي محمد الخزامي)... وصورة صاحب النخالة غير ما صورة (مريم الصناع)... في حين جاءت صورة بخيل موليير على عكس صورة بخلاء الجاحظ من الجهة الفنية، أي أنها تحمل صورة عامة تصلح لكل بخيل، وفي الوقت الذي أعطى الجاحظ لبخلائه وصفاً لإنسان حقيقي موجود، سماه باسمه ـ كما مر معنا ـ فإن موليير في تصويره لبخيله "قد أعطاه صفات كثيرة ابتعد به فيها عن الواقعية كما كان يرى "فان تيغم" على حين يرى "بول هازار" أن هذا العطاء قد حقق مفهوم الأنموذج في الأدب المقارن لأنه ظهر في صورة أغنى وأجمل وأوضح في معالمه مما نرى في المجتمع".(23).‏
ثانياً: وبخلاء الجاحظ يختلفون عن بخيل موليير في كثير من الصفات والمواقف، إنهم في غالبيتهم الساحقة بخلاء مثقفون، لا بل متكلمون مناطقة... أما بخيل موليير فتبدو عليه البلاهة والسذاجة في أكثر مواقفه إلى درجة يخرج معها عن المألوف والمعقول حتى أنه يندهش من عبارة فالير عندما يؤنبه قائلاً: "إن على الإنسان أن يأكل ليعيش لا أن يعيش ليأكل"، وقد يتغابى بخيل الجاحظ أحياناً، لكنه تغاب معقول، وعلى شيء كثير من الذكاء والفطنة. حتى أنه يفطن إلى تغابيه فيسارع إلى تبريره بما يكاد يقنع... ويظهر ذلك الفرق الكبير بين عقلية أرباغون وثقافته من جهة، وبين عقلية عبد الله بن كاسب الحزامي الآنف الذكر وثقافته. ويعود السبب في هذا الاختلاف إلى أن موليير قد اختار بخيله من الطبقة الوسطى، طبقة التجار المحدثين، بينما اختار الجاحظ أكثر بخلائه من طبقة المثقفين، وكبار المسجديين، والوزراء والولاة... فالفرق ـ دائماً ـ بين بخيل موليير وبخيل الجاحظ هو الفرق بين طبقتيهما ودرجة ثقافتيهما.‏
ثالثاً: ثم إن الجاحظ قد صور لنا أنموذجاً واحداً للبخيل دون سواه (أرباغون)، في حين أن الدائرة اتسعت عند الجاحظ فانتقى نماذج البخلاء كثيرة ومتنوعة.‏
وإذا كان بخلاء الجاحظ ـ على تفلسفهم ـ يبدون عفويين لا يصطنعون الفلسفة حين يبررون أو يسوغون بخلهم وشحهم؛ فإن الفطنة والتفلسف الحاذقين يظهران عليهم كالخزامي، ورمضان الصيرفي، والإسواري والعقدي، وكعبد الله بن كاسب الذي كان له مع الجاحظ الحوار التالي: يقول الجاحظ:‏
"وقلت له مرة: قد رضيتَ بأن يُقال عبد الله بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم. قلت: وكيف؟... ، قال: لا يُقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال فسلّم إليَّ المال، وادعني بأي اسم شئت: قلتُ ولا يقال أيضاً فلان سخي إلا وهو ذو مال، فقد جمع هذا الاسم الحمد والمال. واسم البخيل يجمع المال والذم. فقد اخترتَ أخسهما وأوضعهما. قال: وبينهما فرق. قلتُ فهاتِهِ: قال: في قولهم بخيل تثبيت لإقامة المال في ملكه. وفي قولهم سخي إخبار عن خروج المال من ملكه. واسم البخيل اسم فيه حفظ وذم. واسم السخي اسم فيه تضييع وحمد. والمال زاهر نافع مكرم لأهله، معز. والحمد ريح وسخرية. واستماعك له ضعف وفسولة، وما أقل غَنَاء الحمد ـ والله ـ عنه إذا جاع بطنه، وعرى جلده، وضاع عياله، وشمت به من كان يحسده"(24).‏
رابعاً: على أن هناك فرقاً آخر كبيراً وواضحاً يكمن في تلك الحالة النفسية التي تعترينا بعد أن ندرك مدى أبعاد شح بخيل الجاحظ وبخله، ذلك أن هذا البخل، وهذا البخيل الذي قدمه هو ضحية اختلال القيم، وهذا الاختلال بقدر ما يثير في النفس الضحك، فإنه يبعث مشاعر الكآبة والأسى... وبخاصة حين نعلم ماقد جره بخيل موليير على أبنائه وأسرته كما سيمر معنا في العنصر التالي. على حين لم نشعر بهذه المشاعر ـ على ما أعتقد ـ بعد أن عايشنا بخلاء الجاحظ.‏
أوجه التشابه:‏
تبدو أوجه الشبه بين بخلاء الجاحظ وبخيل موليير واضحة ومتعددة. و أكثر ما تتجلى في:‏
أولاً ـ المبالغة في تصوير صفة البخل عند الكاتبين. لدرجة أن أعاب بعض النقاد على موليير تخطيه لكل ماهو معقول ومحتمل في طبائع أشخاصه. وقالوا: "إن بخيل موليير ليس إنساناً عادياً يعيش بيننا وإنما هو شخص مستحيل الوجود"(25)... وحججهم في ذلك أن في ملهاة "البخيل" عناصر كثيرة للتهريج، ومواقف خارقة للعادة، بحيث لا يعقل أن تكون صورة للواقع، أو مما يحتمل وقوعه في الحياة... بعض هذه المواقف يبدو محتملاً ومعقولاً، وبعضها في غاية السخف. كموقف "أرباغون" الذي نراه حين سُرقت صندوقته المليئة بالدراهم يتوجه للنظارة بالزعيق والصراخ طالباً منهم أن يرشدوه إلى سارقها... أو حين نراه يمسك بيده ظناً منه أنه يمسك بيد اللص...‏
ويوضح الدكتور يوسف محمد رضا سبب هذه المبالغة مبيناً أنه: إذا كان بخيل موليير مستحيل الوجود، فإن بخلاء الجاحظ هم كذلك مستحيلو الوجود، أو هم على الأقل فوق المألوف من البخلاء العاديين... ولكن المغالاة، كما نعلم، شرط أساسي في عملية التصنيع الفني القائم على تجاوز الواقع، أو الانطلاق منه إلى واقع قريب من المثال... إنه الواقع المنتخب لا المبتذل... وإلا لأصبح الأدب نسخاً عن الشائع المكرور... إن موليير والجاحظ أديبان فنانان يقدمان لنا نماذج فائقة للبخل في أقصى ما يمكن أن نتصوره لهذا البخيل من خصائص وتصرفات غريبة ومدهشة وشاذة... والمغالاة في التصوير والسبر هي سبيلهما إلى ذلك".(26).‏
ثانياً ـ على أن شخصية البخيل لدى الكاتبين تبدو لنا شخصية حقيقية، وكائناً يعيش بيننا، وينبض قلبه بدم الحياة ولو اعتراه شيء من المبالغة في سلوكه. إلا أن عيوبه وأهواءه هي التي تسيّره وهي التي تضفي عليه صفة من صفات البشر، لكنها هنا ظهرت بشكل "كاريكاتيري" مضخم... ولهذا يبدو لنا أرباغون كائناً حياً، واقعياً وعفوياً، على الرغم من خيالاته وتصوراته الغريبة... وإذا ما بدا لنا أكثر بخلاً وسذاجةً مما يجب، فما ذلك إلا لأنه وقع فريسة عيب يراه هو جادة الصواب، والسلوك الأمثل الذي يضمن سبب حياته ومبرر وجوده... وهذا الجانب كذلك نلحظه عند بخيل الجاحظ الذي لم يعد "يحفل بالذم والخمول"، وأصبح "زاهداً في الحمد والذكر الحسن"، كما يقول الجاحظ.‏
ثالثاً ـ وتبدو نقطة الالتقاء كذلك بين بخلاء الجاحظ وبخيل موليير في "نظرتهم للبخل". فهم يعتقدون أن الصفات التي يحملونها هي من صفات السلوك الصحيح من حيث الاقتصاد والحزم والتدبير، وغيرهم هو المخطئ... فأرباغون يريد أن يظهر بمظهر "شيخ الشباب"، رغم تقتيره أمام الشابة ماريان. و"زبيدة بن حميد الصيرفي" المليونير، يناقش البقال في الفرق الحاصل بين وزن "الشعيرات الأربع الصيفية"، وبين "الثلاث الشتوية الندية...". الخ.‏
رابعاً ـ حتى إذا أتينا إلى الأسلوب في الأداء، نرى أن كُلاً من الأديبين اعتمد أسلوب الحوار، سواء كان في الملهاة لدى موليير، أو في النثر لدى الجاحظ، الحوار الذي اقترب عند كليهما من اللغة اليومية، ومما ألِفَ الناس نطقه والاستشهاد به... وهذا هو السبب الذي أدى إلى الارتفاع بهذه الآثار الأدبية إلى مستوى الفن الرفيع الذي لا يبلى مع الزمن.‏
"وماكان لموليير أن ينجح، وأن يبلغ الذروة في هذا الفن لولا اعتماده الألفاظ والمصطلحات الشعبية التي اقتبسها من أفواه أصحابها الذين عايشهم في الريف الفرنسي. فجاءت ملاهيه مليئة بها... وأبو عثمان الجاحظ لم يوفق في نوادره، إلا لأنه تخلى عن الأسلوبية والتنميق، ونحا بها نحو العفوية والطبيعية والانطلاق ببخلائه على‏
سجيتهم".(27).‏
عنصر السخرية: يُعد عنصر السخرية من أبرز الصفات التي يمتاز بها أدب الجاحظ. ولا تكاد تخلو قطعة في كتابه البخلاء ـ بخاصة ـ من روح السخرية التي تسري بهدوء ورصانة، وخفة ظل ومداعبة... وإذا كان لحياة الجاحظ الممتلئة بالمعايشة والتجربة، وكذلك لألوان ثقافته المتعددة الوجوه، والتي أفضت به إلى الاطلاع على صنوف الأجناس وألوان العقول... ومن ثم روح الاعتزال، ونزعة الجدل والمناظرة التي كان قادراً على تمثلها واستبطانها ومن ثم تجسيدها إبداعاً أدبياً؛ إذا كان لذلك تأثير في أدبه، فإن لطبيعته ومزاجه، وروحه المرحة سبباً في نزعته إلى الضحك والسخرية. ومن ذلك ما نجده لديه من دعوة إلى الضحك والمزاح والفكاهة إذ يقول: "ولو كان الضحك قبيحاً من الضاحك، وقبيحاً من المضحك، لما قيل للزهرة والحَبَرة(28) والحلى والقصر المبني: كأنه يضحك ضحكاً. وقد قال الله جل ذكره: (وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا((29). وسخرية الجاحظ لا تأتي بصورة فجة وقاسية، بل تأتي في صورة رقيقة مستبطنة، لا يتنبه إليها إلا القارئ المتمتع بذهن متوقد وذوق رفيع... لقد سخر من بخلائه، لكن سخريته منهم بعثت البهجة في نفوسنا، وأثارت فينا مداعبة وخفة إلى درجة أن أصبحنا نخلع بعض أوصافهم ونعوتهم المحببة في عدد من المواقف والحالات المشابهة على أصدقاء لنا من باب المداعبة، لأن تلك السخرية التي جاء بها الجاحظ كانت مقبولة، ويمكن أن تقع للناس في كثير من أوجه حياتهم، وفي هذا يشير الجاحظ إلى مذهبه في السخرية، عندما يقول منبهاً إلى عدم الإفراط: "وللضحك موضع وله مقدار، وللمزح موضع وله مقدار، متى جازهما أحد، وقصّر عنهما أحد صار الفاضل خطلاً، والتقصير نقصاً"(30).‏
وفي تحليل عنصر السخرية والإضحاك عند موليير، يقول الدكتور عمر الدسوقي: "ولموليير ملاهٍ خفيفة ليس فيها هذا العمق في التحليل، والجودة في الصنعة. وإنما الغرض منها إثارة الضحك. وهي من النوع الذي يسمى في الأدب الغربي (Farce) أي الملهاة الفكهة أو الضاحكة. ومن هذا القبيل ملاهيه: الزواج بالإكراه ـ وطبيب رغم أنفه، وكان يلجأ إلى هذا النوع بين الفينة والفينة لأنه محبب إلى الجمهور. وهو في حاجة إلى اكتساب رضاه والإقبال على مسرحه".(31).‏
كيف جاء تفاعل الكاتب‏
وانفعاله مع بخيله؟..‏
لقد أراد الجاحظ، كما أراد موليير ـ على بعد الزمن بينهما ـ أن يجعلنا نكره البخل ونرفض البخلاء. ولهذا لجأ كل منهما لإظهار عواقب هذا السلوك، الذي هو البخل، على النفس والسمعة والعلاقة مع الناس أولاً، وعلى الأسرة والمحيط ثانياً...فالبخيل في صراع دائم مع نفسه ومع الآخرين، وإن أَلْبَسَهُ الكاتب جانباً مضحكاً... ولهذا فقد استطاع كل من الجاحظ وموليير أن يتغلغل إلى أعماق هذه الشخصية، ويُركِّبها تركيباً أثار فينا مشاعر الغبطة والمرح، لكنه بعث فينا ـ في الوقت ذاته ـ شيئاً من الأسى والمرارة. لأن مواقف البخلاء بقدر ما هي مضحكة مسلية، هي محزنة ومقرفة ومرفوضة، والسبب أن الشح الذي هو التقتير يجعل من حياة صاحبه وحياة من حوله صورة لا تُطاق، والدليل على ذلك أن "بخيل أرباغون كان مقدراً له أن يجعل من حياة ولديه حياةً شقية بائسة... وفضلاً عن ذلك فقد دفع بهما بخل أبيهما إلى مواقف ومشاعر مأساوية وغير هزلية على الإطلاق. فأضمرا لـه الحقد والازدراء وعاملاه كعدو لا كأب. وليس عن عبث قال "موسيه": "كان ينبغي لنا أن نبكي من حيث ضحكنا".(32).‏
وتأتي مقدرة موليير على التفاعل مع أنموذجه من عنايته الفائقة بتصوير الواقع الذي كان له شغف بمعايشته معايشة مكنته من التقاط أدق عادات الناس وتصرفاتهم وأخلاقهم... وتدل الدراسات النقدية للمسرحية على أن موليير "قد صب بخيله على قوالب معروفة لأناس عايشهم وخبرهم في مجتمعه بل وعاش مع بعضهم تحت سقف واحد... فأبوه الفرّاش الغني كان كزّاً حريصاً يجمع الدرهم إلى الدرهم.... "وجان تاردييه" على الأخص كان كأرباغون يصل الدانق بالدانق، ويستثمر أمواله وكنوزه بشتى الوسائل"....(33).‏
حتى إذا ما تقابلنا مع الجاحظ في ذلك، نراه يدخل أعماق شخصية البخيل ويتفاعل معها إلى درجة أن يسوق أقاصيصه عن البخل والبخلاء، والادخار والنفقة، والنفرة من الإسراف والتبذير بشكل "حدا ببعض النقاد إلى أن يسلكه في زمرة البخلاء"....(34). والسبب أن أسلوب الجاحظ يقوم على حذق ومهارة وخبث لطيف ومحبب. فهو حين يسخر من شخصية لا يتولّى التشنيع والتهجين. وإنما يجر القارئ إليهما، ثم ينسل بعد إيقاظ الفتنة. وقد يعمد إلى المفارقات والمتناقضات مستعيناً في ذلك بضروب من الجدل والاحتجاج والمغالطة، أو المقابلة بين الشخصية وأشياء أخرى. كما فعل بتصوير ابن عبد الوهاب... وقد يتبع طريقة أخرى في التهكم تدخل القارئ جو المحاورة كأحد طرفيها. فإذا عرض له خصم أدخله في أتون من السخرية. يخرج من باب ليدخله من باب آخر، ثم يمزقه تمزيقاً فيصغّره في عيون الناس، ثم يصغّره في عيون نفسه....‏
"لقد كان أبو عثمان يمتلك حقاً تلك القدرة القادرة على إحياء الأشخاص وتركهم يتصرفون وفق بيئاتهم وأذواقهم... وليس من عبث قالوا: إنه لو عرف المسرح أو لو اطلع على أدب اليونان اطلاعاً وافياً لكان موليير العرب بلا منازع... لم يكن ينقص جاحظنا سوى الفن المسرحي وأصوله. أما الروح والمقدرة على السبر والمداعبة والحوار والتشخيص فأمور مشهودة له تؤكد ريادته وأصالته وتفوقه. حتى أن موليير نفسه قد لا يرقى إلى محجته في التنويع والمبالغة المعقولة الشيقة وموليير حين يبالغ يقع أحياناً في الإطالة أو الضحالة‏
أو السخف، الأمر الذي يندر جداً عند‏
الجاحظ".(35).‏
ـ رأي واستنتاج:‏
أخيراً أستطيع القول: إن الجاحظ الذي كان له السبق في معالجة هذا الأنموذج البشري بأسلوب ميزّة عن الآخرين، وإن موليير، أديبان عبقريان. يكمن سرّ خلودهما في أنهما استطاعا الدخول إلى أعماق النفس الإنسانية بما تحويه هذه الأعماق من إضاءات أو ظلامات... كل حسب قدرته، وفنيته، وإن كان الجاحظ ـ على ما أرى ـ أكثر مقدرة، وأبعد شفافية، وأجود بياناً وعبقرية من موليير، مع الاعتراف بقصور الترجمة عن الإيصال... فاستطاعا نقل صور هذه الأعماق إلينا وقد نفخا فيها روحاً جديدة اقتربت إلى حد كبير من همومنا، بل تحمل في العديد من صورها همومنا، ومعاناتنا فرفضنا فيها القيم السلبية وأحببنا فيها خفة الظل والروح. وأنكرنا عليها كثيراً من مواقفنا التي لها بعض جذور فينا، ولو أن التصعيد الأخلاقي نحو الخير والحق والمحبة يقود في كثير من المواقف إلى سيادة التضحية والعطاء النبيل. أقول: إن الأديبين كلاهما قد التقيا في كثير من الخصائص، وافترقا في أكثر من ميزة وخاصة، بسبب اختلاف العصر، واختلاف المفاهيم الحضارية والمعايشة، واختلاف الجنس والبيئة والمعتقدات... إلا أنهما ـ وبشهادة أكثر الذين تذوقوا أدبيهما ـ قد ابتعدا في هذا الفن عن التهريج والإضحاك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
souf_mani
من قدامى المحاربين
من قدامى المحاربين
souf_mani


عدد المساهمات : 865
التقييم : 13
تاريخ التسجيل : 04/09/2010
العمر : 37
الموقع : في الجنة إن شاء الله

الجاحظ Empty
مُساهمةموضوع: رد: الجاحظ   الجاحظ Emptyالأحد سبتمبر 05, 2010 2:50 am

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://histoirphilo.yoo7.com/
مؤرخ المغرب الأوسط
المدير العام
المدير العام
مؤرخ المغرب الأوسط


عدد المساهمات : 1632
التقييم : 39
تاريخ التسجيل : 27/08/2010
العمر : 38
الموقع : مؤرخون وفلاسفة

الجاحظ Empty
مُساهمةموضوع: رد: الجاحظ   الجاحظ Emptyالإثنين سبتمبر 06, 2010 4:47 am

مقال رائع وجميل إلا أنه طويل جدا
انت تعرف يا أخي العزيز أن طول الغمعان في الشاشة
مجهد كثيرا للعينيين
وهذا ما يجعلك مطالب بالاختزال والتقليص حفاظا علينا

شكرا لك جزيلا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http:///histoirphilo.yoo7.com
مؤرخ المغرب الأوسط
المدير العام
المدير العام
مؤرخ المغرب الأوسط


عدد المساهمات : 1632
التقييم : 39
تاريخ التسجيل : 27/08/2010
العمر : 38
الموقع : مؤرخون وفلاسفة

الجاحظ Empty
مُساهمةموضوع: رد: الجاحظ   الجاحظ Emptyالسبت يناير 01, 2011 6:43 pm

ما شا الله
كلما ارجع إلى هذا المقال
وكأنني اكتشف فيه الجديد كل مرة
مشكور يا عادل
مومن وشكرا للشرق الجزائري صاحب السبق في تخريج المفكرين والعضماء
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http:///histoirphilo.yoo7.com
chocotop17
عضو ممتاز
عضو ممتاز



عدد المساهمات : 151
التقييم : 3
تاريخ التسجيل : 23/10/2010
العمر : 31

الجاحظ Empty
مُساهمةموضوع: رد: الجاحظ   الجاحظ Emptyالسبت يناير 01, 2011 6:53 pm

شكرا جزاك الله خيرا ياأخي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الأستاذ عبد الوهاب
محارب
محارب
الأستاذ عبد الوهاب


عدد المساهمات : 264
التقييم : 17
تاريخ التسجيل : 29/08/2010
العمر : 39

الجاحظ Empty
مُساهمةموضوع: رد: الجاحظ   الجاحظ Emptyالإثنين يناير 03, 2011 1:11 am

نيابة على الأخ عادل الغائب حاليا يا
شكوتوب
أشكرك على المرور
ونرجو ان شا الله أن يعود إلينا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
souf_mani
من قدامى المحاربين
من قدامى المحاربين
souf_mani


عدد المساهمات : 865
التقييم : 13
تاريخ التسجيل : 04/09/2010
العمر : 37
الموقع : في الجنة إن شاء الله

الجاحظ Empty
مُساهمةموضوع: رد: الجاحظ   الجاحظ Emptyالثلاثاء يناير 11, 2011 3:16 pm

شكرا على الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://histoirphilo.yoo7.com/
 
الجاحظ
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: ๑۩۞۩๑ منتدى الفكر والفلسفة ๑۩۞۩๑ :: الفلسفة الإسلامية-
انتقل الى: