أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيشرفنا أن تقوم بالتسجيل والمشاركة معنا
إذا أعجبك المنتدى يمكنك أن تضغط على زر أعجبني أعلى الصفحة .... شكرا لزيارتك
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيشرفنا أن تقوم بالتسجيل والمشاركة معنا
إذا أعجبك المنتدى يمكنك أن تضغط على زر أعجبني أعلى الصفحة .... شكرا لزيارتك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


(( الحكمــة لله وحــده ، وإنمـا للإنسان الاستطاعـــة في أن يكون محبًا للحكمة تواقًا الى المعرفة باحثًا على الحقيقة )) سقراط.
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  
ازرار التصفُّح
 البوابة
 الرئيسية
 قائمة الاعضاء
 البيانات الشخصية
 س .و .ج
 بحـث
المواضيع الأخيرة
» " فينومينولوجيا المعيش اليومي" من منظور المفكر مونيس بخضرة .
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالإثنين أبريل 17, 2017 2:59 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  هكذا تكلم المفكر الجزائري " د . الحــــــــــاج أوحمنه دواق " مقاربات فلســـــفية " بين الضمة و الفتحة و الكسرة "
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالسبت أبريل 15, 2017 2:26 am من طرف الباحث محمد بومدين

» كتاب فاتحة الفتوحات العثمانية
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالخميس أغسطس 18, 2016 2:21 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

» برنامج قراءة النصوص العربية
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالخميس أغسطس 18, 2016 2:12 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

» إشكالية الحرية فى الفكر الفلسفى
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالخميس ديسمبر 17, 2015 11:19 pm من طرف soha ahmed

» المغرب في مستهل العصر الحديث حتى سنة 1603م
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالأربعاء نوفمبر 25, 2015 8:24 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  هكذا تكلم المفكر الجزائري " د . الحــــــــــاج أوحمنه دواق " مقاربات فلســـــفية " بين الضمة و الفتحة و الكسرة "
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالأربعاء نوفمبر 18, 2015 8:41 pm من طرف الباحث محمد بومدين

»  هكذا تكلم المفكر الجزائري " د . الحــــــــــاج أوحمنه دواق " مقاربات فلســـــفية " بين الضمة و الفتحة و الكسرة "
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالأربعاء نوفمبر 18, 2015 8:33 pm من طرف الباحث محمد بومدين

»  هكذا تكلم المفكر الجزائري " د . الحــــــــــاج أوحمنه دواق " مقاربات فلســـــفية " بين الضمة و الفتحة و الكسرة "
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالأربعاء نوفمبر 18, 2015 8:30 pm من طرف الباحث محمد بومدين

» دخول اجتماعي موفق 2015/2016
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالجمعة سبتمبر 04, 2015 4:07 am من طرف omar tarouaya

» أنا أتبع محمد...
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالإثنين يناير 19, 2015 3:08 pm من طرف omar tarouaya

» بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالإثنين ديسمبر 01, 2014 2:12 pm من طرف omar tarouaya

» مرحيا يالاعضاء الجدد
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالسبت أكتوبر 11, 2014 11:16 pm من طرف omar tarouaya

» لونيس بن علي، التفكير حول الدين ضمن الحدود الإنسانية للمعرفة
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالأحد أغسطس 31, 2014 12:55 am من طرف عبد النور شرقي

» تحميل كتاب الحلل البهية في الدولة العلوية الجزء الثاني
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالخميس أغسطس 28, 2014 1:33 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

» في رحاب الزاوية الحجازية بسطيف
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالأحد أغسطس 17, 2014 12:37 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

» العز والصولة في معالم نظام الدولة
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالجمعة أغسطس 15, 2014 2:41 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير ( 12 مجلدا )
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالخميس أغسطس 14, 2014 11:10 pm من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  كتاب حول تاريخ الحضنة والمسيلة وما جاورها
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالإثنين يوليو 28, 2014 11:23 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

»  كتاب مهم في الانساب الجزائرية
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالإثنين يوليو 28, 2014 11:22 am من طرف مؤرخ المغرب الأوسط

سحابة الكلمات الدلالية
مقال محمد الموضوعية الذاتية مقالة الفيض الفلسفة المغلق اللغة الفلاسفة السؤال الحرب الظواهرية الفلسفي الفكر سقراط العالمية الامام الحيوان الانسان النسق البحث نظرية المسلمين فلسفة المنطق

 

 حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبد النور شرقي
محارب
محارب
عبد النور شرقي


الإبداع .
عدد المساهمات : 390
التقييم : 18
تاريخ التسجيل : 23/09/2010

حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Empty
مُساهمةموضوع: حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي    حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالجمعة نوفمبر 11, 2011 2:07 pm

سعيد ناشيد : قال الزعيم
مانديلا : الناتو إرتكب جرائم في ليبيا اكثر من نظام القذافي و الجزيرة صارت
الناطق الرسمي بإسم الناتو !


محمد
شوقي الزين


مع احترامي لنلسن منديلا، فهو يحتاج فعلا إلى
راحة جسدية وفكرية. في سنّه شارف التخريف والتزييف. كيف يقوم بقلب الحقائق ويجعل 8
أشهر من تدخّل الناتو أكثر إجراما من 40 سنة من الاستعباد والقهر والتفقير
والتهميش ونهب الثروات؟ طبعا، ينبغي دائما أن ندع للشعوب أن تكبر في عقولها وتأخذ
زمام مصيرها بأيديها دون تدخّل فلان أو علاّن، لكن نلسن مانديلا يرى العالم العربي
بعيون بسيطة تلامس السذاجة. هناك أنظمة غير قابلة للإصلاح بتاتا، ولست أنا الذي
أقوله، بل قاله كبار الفلاسفة في السياسة أمثال جون لوك وهوبس وجون جاك روسو. هناك
أنظمة مراوغة، محركها هو الفساد وقانونها هو القهر، ولا يمكنها الإصلاح بتاتا، لأن
نواياها فاسدة، وتشكّل عصابة أو جماعة مصالح من دولة بأسمى معاني هذه الكلمة.
الدولة هي مجرّد ذريعة أو الغطاء الرسمي الذي يحجب الممارسات الأكثر بدائية وبطشا
في الحكم والقرار، ونظام القذافي كان من هذه الطينة. إذا كان نلسن مانديلا يأمل
بأن يتغيّر الشعب الليبي بدون تدخل الناتو، فعلى هذا الشعب المسكين أن ينتظر إذن
عدة قرون، لأن بعد القذافي، كان هنالك ابنه سيف الإسلام، وحفيده، وحفيد حفيده،
إلخ. فلا إصلاح ولا تغيير. كذلك، لو كانت نظرية نلسن مانديلا صحيحة لانطبقت على
نظام آخر مثل النظام السوري الذي كلما تفوّه بكلمة، عمل بنقيضها؛ كلما قال
الإصلاح، يفعل العكس؛ كلما قال بتوقيف العمليات المسلّحة، كلما تمادى في القتل.
لأن هذا النوع من الأنظمة هو ذات طبيعة معقّدة، صلبة، مراوغة، خداعية، فاسدة ليست
قابلة بتاتا للإصلاح؛ ولو كانت قابلة للإصلاج لكانت الأنظمة السابقة: ستالين،
هتلر، موسوليني، هي الأخرى قابلة للإصلاح، ولم يكن الأمر كذلك؛ بل تطلّب الأمر
توحّد الأمم للحدّ من نزوات رجال اغترّوا بأنفسهم وتحوّلوا مع مناصيرهم إلى عصابات
إرهابية، وكان من الواجب قلعهم بالقوّة؛ لأن الإصلاح يصلح لمن له عقل، لا لمن له
إرادة عنيفة، ونزوات نرجسية، ورغبة جامحة في التسلّط، لأنّه ميئوس منه، ولهذا
السبب كانت الثورات في الماضي وستكون في المستقبل متى كانت الأمم يحكمها هذا النوع
من الأنظمة التي يتربّع في هرمها رجل تماهى مع الوطن ومع الألوهية، ولا يجد أي حرج
في قتل معارضيه والفتك بشعبه، وهذا للأسف، ونلسن منديلا يعرف ذلك، لا ينطبق عليه
الإصلاح، بل القلع بالقوّة.

سعيد
ناشيد


طبعا
عزيزي محمد شوقي كلنا مع ضرورة رحيل أنظمة الاستبداد العربي، ولا نشترط في ذلك أي
شروط، لكن نقد الوضع السابق لا يمنعنا من نقد الوضع اللاحق أيضا، لا سيما وأن
الوضع الميداني في ليبيا تسيطر عليه الجماعات السلفية المتشددة، وهذا ليس صدفة أو
في غفلة من الناتو وقطر. الغرب يهمه النهب أحيانا، وأمير قطر يهمه أن يشتري مكانة
استراتيجية لقطر بالمال، والربيع العربي لن يهم في الأخير إلا الثوار المدنيون.
ونحن منهم.

ثم لا ننسى أن التدخل الإنساني وحفظ السلام هي
معارك الأمم المتحدة وليس حلف الناتو.

محمد
شوقي الزين


نعم
عزيزي سعيد. هناك مفارقة لست الوحيد الذي ينبّه إليها، يل سبقني فيها جاك دريدا
(الذي كان السبب المباشر في إطلاق سراح نلسن مانديلا) وأيضا علي حرب، وهي ما يمكن
تسميته "تواطؤ الأضداد"، وهو أنّ الأنظمة الآفلة هي السبب في صعود
الإسلامويات الراهنة. وكأنّ العدو يخدم مصالح عدوّه بشكل متواري ولاشعوري. كان
بإمكان بن علي، القذافي، الأسد، صالح، وغيرهم أن يعفونا هذه الدائرة المغلقة التي
يأكل فيها رأس الأفعى ذنبها، وهي تخييرنا بين استبداد سياسي أو تطرف ديني (في
انتظار النتائج التي ستتمخض عنها التجربة التونسية). لو قاموا سلفا بتوعية
المجتمعات عوض الحديث باسمها وإحالتها على الصمت، لو قاموا بدمقرطتها وتوفير وسائل
العيش الكريم لها لما وجدنا أنفسنا اليوم في هذه الدائرة-الحيرة (والحيرة في الاشتقاق
اللغوي هي أساسا الدوران إلى حدّ الدوار والدوخة)، حيث نحن مخيّرون بين أن نقبل
بنظام استبدادي يقينا شرّ الإسلاميين، أو نظام ديني قريب من هموم المجتمعات ويتكلم
بلغتها وآلامها وآمالها ولكن يقمع الحريات والتفكير والنظر العقلي. للخروج من هذه
الدائرة المغلقة، لا أدري ما الممكن فعله سوى أن يبادر الجميع بحوار صريح، نقدي،
للوقوف على مواطن العلّة وإمكانيات الحلول. لست من المعارضين أن يحكم الإسلاميون
إذا كانت لديهم مشاريع وأفكار وفلسفات كما هو الحال مع التجربة التركية. بل
بالعكس، بإدماج الإسلاميين في الحضارة فإنّهم يكبرون في عقولهم ويرون العالم أقل
دوغمائية وأكثر تحليلا للأسباب والنتائج وأكثر تمعّنا في تطوره وارتقائه. لا ينبغي
إعادة نفس الأوضاع المخزية التي تقول بأنّ المجتمع طفل صغير ينبغي الحديث في مكانه
واتخاذ القرار رغما عنه. فلا السياسة ولا الدين يمكنهما تعويض الذكاء الأصلي،
الكامن في الأعماق الفردية، والقابع في التجارب الحيّة ودبيب الأفعال. عندما ننصت
إلى المجتمع، إلى ما يريده وما لا يريده، ندرك جيّدا أن هناك حكمة دفينة في هذا
الاختيار، عملت الايديولوجيات السياسية والدينية (وحتى العلمية والفلسفية) على
قهرها وإسكاتها لتعيد صياغتها حسب هواها. لهذا السبب هناك طريق ثالث يكسّر هذا
الطوق المغلق والمحكم (بين استبداد سياسي وتطرف ديني) وهو "المجتمع
المدني" بشبكاته وجمعياته ونسائه ورجاله وصغاره وكباره. فليس خطرا على
المجتمع سوى ايديولوجيات تزعم أن تقول أحسن منه ماهو صالح له، وهو ما ألفيناه لحد
اليوم في مجتمعاتنا المتعثّرة والمهمّشة.

سعيد
ناشيد


إنك تمارس فعلا من أفعال التفكير، بل أهمها على
الإطلاق، أن نبحث بمعزل عن الطرق المرسومة أصلا وسلفا عن طريق آخر، هو من قبيل
الطريق الثالث، هو طريق غير معبدة، لكنها الطريق التي قد تخرجنا من الدائرة
المغلقة. نحن في حيرة من أمرنا بالفعل، لكن أملنا الأكيد أن هذا الفايسبوك الذي
نتواصل عبره أنا وأنت وملايين مثلنا، لا يسمح بحكم طبيعته بأي تحكم من طرف جهة
معينة، ربما خاصيته الأساسية عدم القابلية للتحكم. إنه فضاء حاسم للمقاومة
ولمقاومة أي نزعات شمولية مستقبلا. أنت تكلمت عن المجتمع المدني. والمجتمع المدني
هو سلطة مضادة لكل سلطة كيفما كانت. هنا أرى -وأتمنى أن تتفق معي- أن دور المثقف
أو المفكر الآن هو المساهمة في التثقيف العام والتنوير الشعبي. لقد أدرنا ظهرانينا
للشعب واعتقدنا أن النخب تكفي لقيادة التحديث، وآن الأوان لننتبه إلى الخطأ ونلتفت
للشعب، ونطور مهارات في التواصل مع الشعب. أتذكر تجربة الفيلسوف الفرنسي ميشال
أونفراي في الجامعات الشعبية.

محمد
شوقي الزين


نعم أوافقك الرأي، ولعل الخطأ الفادح الذي
ارتكبته النخبة هو حجب صوت المجتمع لتتكلم باسمه. لم تتحاور معه، بل تكلّمت في
مكانه. وأشكال الإحالة على الصمت متعدّدة: قد تكون في شكل احتقار أو قهر أو عنف،
وهو مافعلته النخب السياسية بمباركة النخب الثقافية. فلا يمكن الحديث عن المجتمع
بتغييبه، بينما في كل ديمقراطية (بأتم معنى هذه الكلمة) تتحاور النخبة مع الشعب،
تغترف من تجاربه، تستشيره، تلجأ إليه لكل رؤية أو قرار. هذا ما تحتاج إليه ربّما
"النخبة" في العالم العربي (حتى وإن كنت لا أحب كلمة "نخبة"
لما فيها من مزاعم الاصطفاء والتميّز)، أن تنصت أكثر عوض أن تثرثر؛ أن تحاور عوض
أن تتكبّر، أن تتأمّل في التجارب الحيّة والوقائع اليومية والتمثّلات الجماعية عوض
أن تفبرك خطابات مجرّدة، مثالية، أفلاطونية، وثوقية، دوغمائية. وفكرة
"المجتمع المدني" هي للخروج من المأزق الواهن، ولتبيان لأولئك الذين
يخشون من سقوط الدولة بأفول الأنظمة، أنّ المجتمع المدني لا يموت أبدا، بل هو باقٍ
حتى وإن تعرّضت الدولة لمخاطر داخلية من جرّاء ثورات أو حروب أهلية. فهو الهيولى
التي تُصنَع منها أشكال الحكم، أي القاعدة التي تنبني عليها الصروح السياسية. فكيف
الخوف من انهيار النظام إذا كان المجتمع المدني باق؟ فقط تعوّدنا على الفكرة التي
تجعل من القائد أو الزعيم في قمّة الهرم، وتماهي بينه وبين الوطن أو مصير الأمّة،
فإذا سقط أو رحل فإنّه الوطن يسقط، وهو الوهم الذي ينبغي أن نخلّص رؤوسنا منه.
ينبغي التعويل على هذا المجتمع بكل مكوناته وشبكاته لأنّه المادّة التي يستعين بها
كل تأسيس أو تقنين.

سعيد
ناشيد


بالضبط، لقد جعلتني أتذكر أمرا مهما، وهو أن
المثقف العقلاني محكوم عليه بالشجاعة وبالتفاؤل في كل الأحوال. فالخوف والتشاؤم
يشجعان الارتكاس والنكوص. كثير من المفكرين استثمروا رصيدهم في الدولة، سواء كانوا
جزءا من الدولة أو كانت الدولة محور تفكيرهم (من ابن خلدون إلى ميكيافيلي إلى
هيجل)، أعتقد أن الاستثمار الفكري يجب أن يتجه فعلا، وكما قلتَ، إلى المجتمع
المدني. هذا ليس رهانا سهلا، إذ يتطلب مهارات وقدرات لم تمنحنا إياها الجامعة ولا
التكوين الأكاديمي. ربما الحل هو سقراط. بمعنى منهجه في المحاورات داخل الفضاء
العمومي. لقد كان الرجل مربيا كبيرا للشعوب.

عزيزي محمد شوقي، أنا الآن في السيارة، وإذا
انقطع الخط فسأستمر في هذا الحوار الممتع والمفيد فور وصولي. لكني أتمنى أن لا
ينقطع الخط.

محمد
شوقي الزين


المشكلة أنّ المثقف العربي يحيا في تشاؤم كبير
لعدة أسباب:

1- يعتقد أنّ
الزمن فجّ لا يتطوّر ولا يتبدّل، وبالتالي لا تتغير الأشياء؛

2- يقرأ
الواقع من خلفية قدرية، سحرية، كهنوتية، دوغمائية كالتي تحكّمت في تاريخه وفي
طريقة تفسير
الوقائع على أنّها نتاج قدرة إلهية ومحو الأسباب والعلل والتأثيرات.

3- نتيجة هذا
الإيمان السلبي في قدرة مفارقة دون قوانين موضوعة هو الإيمان بنظرية المؤامرة،
بأنّ كل ما يفعله الآخر هو بالضرورة يشتمل
على الشرّ والتهديم والتخريب.

4- إذا كان
المثقف يعتقد بأنّ كل شيء هو نتاج أيادي خفية فسيتشاءم لا محالة لأنّه لا يترك
للمجتمع نصيب من الحركة والقرار والأداء.

ومن
السخرية أن يتكلّم المثقف العربي عن أيادي خفية، فمن يحرّك قلمه يا ترى؟ ألا
تحرّكه الأيادي الخفية إذا عدنا إلى ما سمّاه هيغل "حيلة العقل" أو
"خديعة التاريخ"؟ طبعا لا ننفي أن هناك مصالح حيوية واستراتيجية يسعى
الغرب للحفاظ عليها في المنطقة العربية، لكن نفي ذلك هو ضرب من التضليل والسذاجة.
الحضارة القوية بطبعها تصبو إلى الحفاظ على قوّتها ومصالحها، وهي إرادة لا دخل
للأخلاق ولا للدين فيها. كل الحضارات على مر العصور تعاملت مع مثيلاتها بالمنطق
نفسه، منطق الغالب أمام المغلوب. اعترض عليّ أحد الأصدقاء قائلا: "إذن علينا
أن نقبل بهذه الحضارة المهيمنة كحتمية ونبقى متفرّجين؟". أجبت: "التنديد
السلبي والمنفعل لا يغيّر في الوقائع أيّ شيء وهو دأب الغالبية منّا، أشخاص عاديين
أو مثقفين. فالكل يندّد ويهوّل ويصرخ". الحصافة كما أراها هي بالأحرى الوقوف
إزاء هذه الهيمنة موقف الفاعل، الذكيّ، الذي يستعمل الحيلة دون أن يكون محتالا، أن
يستعمل الحصافة العقلية دون أن يكون مراوغا، بمعنى أن ينخرط في الحضارة بمسافة
نقدية، متبنّيا قيمها دون أن يذوب فيها. لأنّ الخروج عليها مطلقا أو الذوبان فيها
مطلقا ليست بالحلول الناجعة. بل ينبغي استعمال مبادئها لغايات أخرى غير تلك التي
سنّتها بنفسها. ومعلوم أنّ كل فكرة تنتقل من موطن النشأة إلى موطن الاستعمال،
فإنّها تتغيّر في بنيتها ووظيفتها، لتتأقلم مع السياقات التي ترتحل إليها. فعندما
يريد الغرب من المجتمعات الأخرى أن تتعقلن وتتعلمن وتتغرّب، فلا هي العقلانية ولا
هي العلمانية ولا هي الغربنة كما يريدها الغرب نفسه، بل هي العقلانية والعلمانية
كما تتأقلم في المواطن التي تختلط بها وتنطبق عليها، وبالتالي المواطن التي
تستقبلها أو تتلقّاها لا تفقد من خصوصيتها ولا من هويتها كما يزعم الإسلاميون
والخائفون على مصائر الهوية. فنجد أنفسنا إذن في وضعية نحن بمأمن فيها من المواجهة
مع الإرث الغربي بالفرار نحو الإرث التاريخي الإسلامي. نتواجد في منطقة نستعمل
فيها المهارة في أقلمة القيم وكيفية ترجمتها إلى الأبجديات المحليّة. إنّه السبيل
الوحيد الذي يجنّبنا الرفض القاطع للتراث والذوبان في الحضارة المعاصرة، أو الرفض
القاطع للغرب والذوبان في الماضي. كلتاهما عمليتين فاشلتين. علينا، بتعبير آخر،
التعوّد على قراءة الأمور قراءة "تداولية" تأخذ في الحسبان سياقات
الأداء وشروط الاستعمال وإرهاصات الممارسة في الأوقات السانحة والوضعيات الملائمة،
لنتجنّب البُعد الأحادي، الإقصائي، الدوغمائي في التعامل مع المعطيات.

سعيد
ناشيد


لقد توقفت بالسيارة في قرية نائية من قرى
المغرب، السفر ممتع لكن محاوراتك عزيزي أمتع. سأتجاوب معك قليلا، بالحب وبالكرامة،
قبل أن أستأنف السفر.

في
كلماتك الكثير من التروي والحكمة الهادئة التي يفتقدها الكثيرون. وما يجعلني أتفق
معك أني أعتقد بأن الوعي ما هو إلا التموقع في الزمان والمكان. ما يعني أن الذوات الفردية أو الجمعية لا يمكنها أن
تتطابق. لا يمكنني أن أصير غربيا لمجرد أن أكون حداثيا أو تنويريا أو علمانيا. لكن
هذا يدفعني إلى الاعتقاد بأن الحداثة هي إبداع، وكأنها في كل مرة خلق من جديد. لا
يمكنني أن أكون حداثيا إذا لم أكن مبدعا داخل الحداثة، وربما هذا ما سميته أنت
بالمسافة النقدية مع الغرب أو حتى مع الحداثة الغربية نفسها. في الأصل فالعقلانية
إما أن تكون نقدية أمام كل شيء حتى أمام نفسها، أو لا تكون.

انطلاقا
من المسافة النقدية المطلوبة مع الغرب يمكن توجيه أكثر من نقد إلى نخبنا التي تظن
أن كل نقد للغرب، من قبيل ما فعله إدوارد سعيد، هو من باب التواطؤ مع الأصوليات،
وهذا خطأ. المشروع الحداثي لا يتطور إلا بجرعات نقدية قوية بين الفينة والأخرى.
ولذلك أعتقد أن انتقادات فوكو وديريدا ودولوز للحداثة قد ساهمت في تطوير الوعي
الحداثي والحقوقي حتى داخل الغرب نفسه. هنا لسنا نتحدث عن الرفض أو النقض وإنما
النقد. الإسلاميون مارسوا النقض والرفض، في المقابل لم يمارس المثقف الحداثي النقد
أمام الغرب إلا نادرا.


المعضلة
الكبرى أن الغرب نفسه تحول في الكثير من مواقفه إلى مرجع للأصوليات الدينية: مثلا
كان الفيلسوف الأمركي ليو شترواوس سباقا إلى هدم مفهوم العلمانية بدعوى أنه يقود
إلى العدمية. لقد اعتمد الإسلام السياسي في لحظة تأسيسه على على المنظورات
المتشائمة لمستقبل الغرب، والتي هي نذر بعض المفكرين الغربيين. من هنا تكون
المسافة النقدية مع الغرب واجبا حداثيا وضرورة تنويرية.


بهذا
النحو قد نعيد الاعتبار لمفهوم الوعي كتموقع في الزمان والمكان.


لكن
من حيث التنزيل السياسي أيضا ألست تلاحظ معي بأن المواطن العربي يبحث عن رجال دولة
يتعاملون مع رجل الدولة الغربي تعامل الند للند، بما يحفظ كرامة الحكام العرب
أنفسهم؟


أليس
هذا هو ما أثار إعجاب الشعوب العربية في أردوغان، أكثر من كونه سليل حركة إسلامية؟





محمد
شوقي الزين



شكرا
العزيز سعيد، سفر ممتع في الأقاليم والأفكار في رحاب هذا المغرب الجميل والجليل :)
مشكلتنا مع الحداثة والعقلانية والعلمانية، ولقد بيّن ذلك علي حرب بذكاء نادر،
أنّها عندما تتحوّل إلى "معتقدات" أو "أقانيم" أو حتى
"أحكام قسرية" فإنّها تفقد من بهائها ورونقها، وتضحى مجرّد آلات
ميكانيكية. الأحرى تحويلها إلى مفاتيح نفتح بها بعض الأبواب المغلقة من تاريخنا
وتراثنا أو أدوات نستعملها في سياقات محدّدة من حاضرنا وحياتنا. لا أحد ينكر أنّ
للعقلانية والعلمانية منافع جمّة في الحفاظ على التوازن الاجتماعي والميزان
النظري، لكن تصبح عائقاً عمليا عندما يتمّ تحويلها إلى شعارات تُقدَس أو أحكام
تُعبَد. وبالتالي لا تصبح أفكار، بل معتقدات؛ لا إمكانيات، بل قسريات؛ لا عوامل في
التحرير بل قهريات. وهذا الخطأ الذي ينتهجه المثقف، أي عندما يأخذ المقولات بدلالة
أحادية لا يراعي فيها المستويات التداولية التي تنتقل إليها أو تطبّق فيها. والشأن
نفسه مع الدين والإسلام والقرآن التي تحوّلت إلى "تحنيطات"، بل وإلى
"فولاذ صلب" يجعل الإنسان في استلاب، يحيا في زمان ليس زمانه، فيقع في
مفارقات اجتماعية وسياسية عجيبة، إن لم يرجع أصلا إلى الزمن الغابر كما حصل مع
طالبان والصومال. طبعا، دون البحث عن خلفيات "نفسانية" لأسباب التشاؤم
والانطواء على الذات هناك إشارة ممتازة أحال إليها فرويد وهو ما يسمّيه
"الجرح النرجسي" من جرّاء فقدان العظمة السابقة. فالإنسان (أو الأمّة)
الذي يفقد من هيمنته (كما حصل مع كل الحضارات) فإنّه يحيا حالة شبيهة بالعُصاب أو
الاكتئاب، وكل ما يفعله هو "ردّ فعل" عنيف ضدّ الحاضر الذي قطعه عن جذره
البهيّ وأصوله المشرقة. ولعلّ ما تحياه المجتمعات العربية الإسلامية هو من هذا
القبيل، نوع من "الجرح النرجسي" في فقدان العظمة التاريخية للحضارة الإسلامية،
فيجدون في كل شخص له من الأناقة والذكاء والعلم والتواضع والجدية ما يذكّرهم بهذه
العظمة المفقودة (شبيهة بما قاله أفلاطون بشأن "الأطلنطيد" أو القارة
المفقودة)، فيرتبطون به ويعظّون عليه بالنواجذ، فيكون أردوغان مثلا هو
"مثال" صلاح الدين الأيوبي أو ابن رشد، أي الماضي المشرق الذي يعود (في
شكل أطياف) في اللحظة الراهنة ويذكّر "اللاوعي الجمعي" بهذا الإشراق
الخافت. وبالتالي، كما قلتَ، ترتبط الجماهير بهذا الرجل الآتي من صلب الماضي
المشرق لأنّه الذاكرة الماضية في الحاضر الحيّ، يعيد لها مجدها وثقتها بنفسها.
فهذا الرجل هو مثال التواضع والعلم، لا يعشق ذاته في نرجسية قاتلة كما كان
القذافي، وبالتالي نطاحه مع الغرب كما صراع خروف مع ذئاب. لكن قامة أردوغان تبيّن
تلك الحيلة الخلاّقة التي أتحدث عنها، أي تبنّي القيم الغربية (التي هي، بالتالي،
قيما "عالمية"، "كونية" لا يمكنه احتكارها)، وإعادة ترجمتها
حسب السياق الإسلامي، وفي الحيّز التداولي الذي تمتزج به. لقد فهم أردوغان (وأتمنى
أن يكون من طرازه أشخاصا آخرين) أنّ علاج "الجرح النرجسي" يكون بإعادة
الثقة إلى المجتمعات الإسلامية بذاتها، وربطها بحاضرها، وتحديث إرثها، وعلمنة
معتقاداتها وطرائق حكمها، وعقلنة ممارساتها. إنّه السبيل الوحيد للخروج من النفسية
المتشائمة التي استبدّت بهذه المجتمعات وجعلتها ترتمي في أحضان الخلاص الأخروي
والتديّن والعفّة. ولا ضير في ذلك، حتى إيمانويل كانط بثلاثيته في "نقد
العقل" كان يشتكي من استفحال الخرافة والتديّن في عصره وانتشار الرقابة. ليس
العيب في هذا النوع من "الهبتوس البشري" habitus كما سمّاه بيير بورديو والذي لا
ينفكّ عن تصوّرات الناس ومعيشهم المباشر، لكن العيب في مثقفين لا يحسنون نفث
التفاؤل في مجتمعاتهم، وينغمسون في سوداوية حالكة قائمة على التنديد والتهويل، دون
إدراك الستائر الخلفية والتركيبات المعقّدة للتصوّرات والوقائع. العيب فيهم وفي
نمط كتابتهم التي هي تشاؤمية، انهزامية، قَدَرية، لا تبحث في العلل والأسباب ولا
تدرس المبادئ والغايات ولا تقف على المبتدءات والمآلات.





سعيد
ناشيد



توقفت
في قرية ثانية تقع على مرتفعات جبال الأطلس. هنا احتفالية الناس بالحياة تغري
وتحرض على عشق الحياة وعلى التفاؤل. إنه عين التفاؤل الذي أراه مشعا في كلماتك.
أصارحك القول أنك تساعدني الآن على التخفف من بعض الزوائد التي أثقلت ذهني منذ
اللحظة الليبية من الربيع العربي. ربما استطعتَ أن تضع أصبعك على موضع الداء
مباشرة وبلا مواربة:"الجرح النرجسي للحضارة الإسلامية". لكن، كيف نداوي
الجرح؟ أسلوبان شائعان: 1-جلد الذات، وهو منهج أهل التبعية. 2-تمجيد الذات، وهو
منهج أهل التقليد. بين الجلد والتمجيد تضيع فرصة العلاج والتشافي من الجرح
النرجسي. لكن كيف نتشافى ونتعافى؟ لا وجود لوصفة سحرية تصلح لكل الحالات أو توجد
بين ثنايا نص من النصوص المقدسة أو المبجلة، وإنما يجب أن نعتبر الحداثة كحالة
إبداعية لا تخضع لأي نموذج جاهز قبلا أو سلفا في أي مكان وفي أي زمان. لا شيء قابل
للتكرار أو النسخ مهما بلغ نجاحه. لا بد في كل الأحوال من استعادة الحرية في النقد
والإبداع. وبذلك نضمن عدم الوقوع في ما يحذرنا منه علي حرب وهو أن نمارس الاستبداد
باسم العقل والحداثة.


مشكلة
الإسلاميين لا تكمن في انتقادهم للحداثة، فهذا الأمر مطلوب، بل الكثير من انتقادات
علي شريعتي للحداثة أمر جيد. وأظن أن رجال الدين لو لم يختطفوا الثورة الإيرانية،
لكان لانتقادات شريعاتي شأن آخر. لكن المشكلة والمعضلة حين لا يصدر النقد عن حرية
ابداعية، حين يكون النقد باسم مرجعية مطلقة وثابتة وأبدية ومقدسة ولا تقبل النقد
بدورها. نعم لحرية النقد، نقد كل شيء بما في ذلك نقد العقلانية نفسها، لكن النقد
يجب أن يكون حرا أولا. ولكي يكون حرا يجب أن لا ينطلق من مرجعية غير قابلة للنقد.
هنا معضلة الإسلام السياسي، إذ أنه يمارس النقد على كل شيء، سوى على مرجعيته،
والتي هي مسلمات دينية مقدسة ومتعالية.





محمد
شوقي الزين



استحضار "أطلس" هو استحضار لتلك
القوّة التي تتحمّل أعباء ما تحمله. فينبغي لها الكثير من القوّة والقاعدة الصلبة
والمتينة في تحمّل الثقل. ونعرف أن المجتمعات هي ذات بنية "أطلسية"
تتحمّل أعباء السياسة والواقع المعيش بكثير من اللباقة واللياقة. كما أشرتَ،
التداوي يتأرجح بين الجلد والتمجيد، أي البعد المفرط عن الذات، والقرب المفرط من
الذات. وكلاهما سيّان. سواء كنّا على بعد سحيق أو على قرب كبير، فإننا لا نرى، لا
يوجد مسافة معتبرة تمكّننا من رؤية حصيفة، معتدلة، متوسطة. وعلى غرار
"أطلس" يكون التداوي كنوع من التحمّل، تحمّل الجرح، ومعالجته عبر الزمن
بالأدوات المتاحة؛ لأنّ الجرح لا يلتئم بسهولة، خصوصاً إذا كان الجرح هو جرح نفسي،
يصيب الذات في الصميم ويمنعها من النهوض والتفاؤل. إذا كانت الحداثة لا تخضع لأي
نموذج فلأن الحداثة هي أصلا هذا "الحدث" الذي ينبثق في كل لحظة حاملا في
طيّاته الأشكال الممكنة من الحياة والتصرّف والتفكير؛ الحداثة هي أساسا
"الحدث" الذي يُبرز في كل مرّة عالما جديدا يلد، هنا والآن، بفعل
الإرادات والطاقات. لهذا السبب، وليعذر الجميع نزوعي "الإسمي"، أنّ ليست
الحداثة سوى الحدث (لغةَ ودلالة) تتم صناعته في سياقات محدّدة وبمشاريع آنية. قد يكون
التحديث هو مسألة إعارة ونقل تكنولوجي، كأن نستورد التقنيات من الدول الأخرى ومن
التجارب المغايرة، لكن "الحداثة" هي فريدة في نوعها ترتبط بحدث كل تجرية
إنسانية في الإقليم الذي تنبثق فيه. إذا أفلحنا بالوعي بأنّ الحداثة هي "ما
يحدث" (هنا والآن)، في سياقنا، في أطرنا العقلية والنظرية، يمكننا بالتالي أن
نتفقّه معنى هذه الحداثة التي عجزنا لحدّ الآن استيعابها وترسيخها؛ لأننا نبحث
عنها في أمكنة أخرى، بينما هي أمام أعيننا إذا أحسنا قراءة وفهم الحدث (الفكري،
السياسي، الثقافي) الذي نبتكره، في كل رقيقة ودقيقة، "كل يوم هو في
شأن"، والحداثة هي مسألة شؤون، مواقف، مواقع، ممارسات، أي ما نحن عليه
بالذات. وهنا يخطئ الإسلاميون الذين يعادون الحداثة لأنّها لا تأتي من القوالب
الفجّة لنصوص ثابتة، ولكن تنبع من التجارب الحيّة، من الاستعمالات الحصيفة
للمضامين النصيّة في هذا الظرف، في هذا المكان، في هذا السياق. كما قال ابن عربي،
في ما معناه، "تُعرف الأمور بالقوابل لا بالقوالب" (ويستعمل هنا
"القلب" اللغوي بشكل مدهش)، أي أنّ القيمة التي نضفيها على الوجود الذي
نحياه لا تأتي من النصوص الثابتة التي تمّ الإقرار بها منذ 1400 سنة، ولكن بما تتقبّله
الذات البشرية من هذه النصوص، أي بما تفهمه منها في سياقها، وما تفهمه هو حاضرها،
هو حدثها، أي حداثتها. فليست الحداثة سوى هذا التجديد (اليومي، في كل شأن وشنآن)
لأساليب الحركة والسلوك ولأنماط الفهم والتأويل. فكيف يرفض الإسلاميون الحداثة وهي
ترتبط عضويا ووظيفيا بالحدث الذي يجعل الوجود في كل مرّة مشابها ومختلفا، هو عينه
ولكن في كل يوم له شأن آخر وشكل مختلف؟ إذا أرادوا بها "الحداثة
الغربية" التي يرفضونها، فهل يمكنهم ابتكار حداثة ذاتية انطلاقا من الحدث
الذي يقومون بصياغته سياسيا أو نظريا أو ثقافيا؟ لا أعتقد ذلك ما داموا متمسكين
بالقوالب عوض القوابل، وأستثني من ذلك أردوغان الذي هو بالفعل يصتع حداثته لأنه
يصنع حدثه، ويعرف أنّ القوابل النفسية والموضوعية للشعب التركي تتحرّك مع القوالب
الموضوعة والمقنّنة، وبالتالي هذه القوابل التداولية والسياقية هي التي تمنح للنصوص
والتشريعات دلالتها وقيمتها. وأتحاشى عن الحديث عن "حداثة إسلامية" كما
نعتها طه عبد الرحمن أو المرزوقي، ولكن أسمّيها "الحداثة-الحدث". فهي لا
تحتاج إلى الشعارات والعناوين بقدر ما تحتاج إلى البراهين، إلى التوكيد، بأن تفرض
ذاتها بصناعة واقعها والمفاهيم المصاحبة لها.





سعيد
ناشيد



قد
أستعين بتأملاتك الثاقبة لأجل أن أخطو خطوة إضافية. هل الحداثة هي الحدث، أو الوعي
الممسك بالحدث، أم أنها تحديدا فعل الحدوث ذاته؟ هل هي اسم أم فعل؟ مقاربتك جعلتني
أدرك بأن الحداثة أقرب إلى فعل الحدوث منها إلى اسم الحدث. إنها لا تشير إلى هذا
الذي يحدث هنا والآن وإنما إلى فعل الحدوث نفسه. وهنا فأنا لست برسم مخالفتك وإنما
أضيف إلى مفهوم الحدث الذي نكلمت عنه أنت مفهوم التغيير الذي تكلم عنه ألان باديو.
ولعل التغيير كما يقول ألان باديو هو السمة الأساسية للراهن. هكذا يكون الوعي
بالحداثة هو الوعي بالحدوث كفعل من أفعال الزمن. الحداثة ليست فقط الوعي الممسك
بما يحدث هنا والآن وإنما هي أيضا الوعي المترقب لما سيحدث في المستقبل. الحدث
يجرد الوعي عن الزمن لكن الحدوث يعيده إلى الزمن. من هنا أميل إلى القول إن
الحداثة ما هي إلا الوعي الممسك بفعل الحدوث ذاته.


باستلهام
لغة ابن عربي، يمكننا القول أن الأحداث ما هي إلا تجليات متنوعة لنفس الفعل
الأصلي: الحدوث. لأنه لم يحدث في أي لحظة من لحظات تاريخ البشرية أنه لم يحدث أي
شيء. لا يمكن لأي مؤرخ أن يكتب أنه في عام كذا لم يحدث أي شيء. لا يمكن أن يمر ولو
يوم واحد أو ساعة واحدة من دون حدوث أي شيء. الحدوث هو الأصل، أما الأحداث فإنها
مجرد مضامين تختلف بين لحظة وأخرى.


دعنا
عزيزي نستعيد مفهوم الحدوث الدائم أو المتجدد عند ابن رشد. أليس يبدو لك أنه الأدق
تعبيرا عن "حال" الحداثة؟





محمد
شوقي الزين



بالطبع العزيز سعيد، الحدوث هو أقرب إلى روح
الحداثة لأنّه يفيد "الانبثاق"، "لحظة البروز"، أو "لحظة
الميلاد والإشراق" كما سمّتها أيضا حنه أرندت باعتمادها على ذخائر اللغة
الاغريقية archein تعني "بدأ"، "افتتح"؛ ويتقاطع الفعل نفسه مع
"قاد"، "حكم"؛ واستعملت "الأركاين" للدلالة على
الفعل السياسي في "الأداء" و"الحكم". أوردتُ حنه أرندت لأنّ
سؤال الحدوث عندها هو أروع تعبير عن التجربة البشرية الخلاّقة في ما وراء
الايديولوجيات التي تحاول اقتناصها في قوالب أو تنميطات. يمكن على الأقل، إذا
اتّفقنا، أن نجعل من "الحدوث" العتبة الأولية، الأصلية، الأنطولوجية
للحداثة؛ و"الحدث" هو العتبة الواقعية والموضوعية؛ و"الحداثة"
هي العتبة السياسية والثقافية والنظرية التي تنبني على "الحدوث"
كافتتاح، و"الحدث" كأداء. أظن أنّ حفريات في اللغة العربية من شأنها أن
تُبرز كل الأبعاد الممكنة لكل التشكيلات الفكرية والثقافية. وأعتقد أنّ من علامات
الأزمة في الفكر هي الأزمة في اللغة. فإذا كانت اللغة غير معالجة بالصرامة
الابستمولوجية والتفكيكية المنوطة بها، فإنّها لا تتطور ولا تقول مغزى الوجود في
أبهى تجلياته؛ وهنا أتحدث عن "نسيان اللغة العربية" في الثقافة
الإسلامية، وعدم إعطائها حقّها من التأمّل النظري والاشتغال التقني والحفري. ولا
أقصد بذلك مجرّد آليات ألسنية في الاشتقاق ولكن الأساليب الفلسفية والمنطقية في
استنفاد تاريخية الكلمة على شاكلة ما قام به هايدغر مع اللغة الألمانية
والإغريقية؛ وعندنا مع ابن عربي في الثقافة الإسلامية، حيث كل ما أكتبه هو سليل
هذه الثقافة اللغوية عند ابن عربي التي تلج في عمق الكلمة لتفجّرها مثلما نفجّر
الينابيع ولتكشف عن مضامينها والمسكوت عنه في تاريخها. والمتأمّل في صيغة الكتابة
عند ابن عربي يدرك ما يسمّيه فقهاء اللغة "محبّة الكلمة" (فيلو-لوجيا)،
وتدوير الكلمات للحصول على مشاهد جديدة. إنّه السبيل الممكن اتّباعه لقراءة كل
المقولات مثل "العقل" المنحدر من "العقال" (الرباط الذي يشدّ
الدواب خشية هروبها)، والهوية والتقدّم والثقافة والسياسة والحرية والحداثة
والعلمانية. إذا عدنا إلى الحداثة، فهي تبدو لي معضلة "لغوية" قبل أن
تكون مشكلة "ثقافية". وما دمنا لم نقرأ الحداثة بلغتها العربية
"المنسية"، فإننا سنتمادى بالحديث عن "مدلول" أوروبي modernité لـ"دال" عربي hadatha ومعلوم أنّ الحداثة في أصولها
الإغريقية modos تعني "اليوم"، واللاتينية modo تعني "الآن". ربّما دال
"الحدث" يتقاطع مع دال "الآن" أو "اليوم"، لكن لا
يقول بعمق وجدارة ما يعبّر عنه "الحدوث" الذي تقترحه، لأنّ
"الآن" هو بالفعل "الحدث" الذي أتكلم عنه. يعبّر
"الحدوث" عن البُعد الجنيالوجي للحداثة، بينما يدلّ "الحدث"
على بُعدها الآني (السياسي، الموضوعي)، تلك "اللحظة" التي تحدّث عنها
فوكو في قراءة بودلير ورسالة كانط حول الأنوار: "ما الآن الذي أتحرّك
فيه؟". تبقى المشكلة في كيفية منح "الحدوث" القيم النظرية التي
يمكن أن تبدأ مع بداية اللغة العربية نفسها، قبل القطيعة التاريخية ببروز القرآن
كظاهرة لغوية وفنية. أظن إذا استطعنا متابعة الخيط الرفيع الذي ينطلق من الآن
ويتقهقر نحو هذه اللحظة التأسيسية (المنهج الجنيالوجي)، يمكن إدراك القيم
الابستمولوجية والأنطولوجية لظاهرة الحدوث كشرط إمكان الحداثة. وينطبق الأمر نفسه
على المسار المستقبلي والتوقّعي في "الحدوث". لأنّ من مزية الحدوث أنّه
يقال للظرفين: الماضي والمستقبل، أي ما حدث فعلاً، وما يتوقّع حدوثه. فهو يشكّل
بالتالي أفضل أداة لغوية ورمزية ونظرية في الوقوف على ما خفي عندنا من إشكالية
الحداثة.





سعيد
ناشيد



ها
أنت أيها العزيز محمد شوقي، تجعل اقتراحي اللغوي يصبح ورطة أنطولوجية في الأخير.
لكن أليست الحداثة نفسها ورطة أنطولوجية في كل الأحوال؟ بوسعنا أن نتساءل: في
القديم كان الحدوث تبرره الآلهة أو القدر، حتى عند هيجل تبرره الغاية الكلية، أما
اليوم فنحن أمام سؤال صعب: ما مبرر الحدوث؟ قد نبرر حدثا معينا، مثل الثورة أو
الحرب، لكن كيف نبرر الحاجة إلى أن يحدث في كل لحظة شيء ما؟ هل فقط لأن الزمن هو
الآخر يخشى الفراغ؟


ربما
كان العقل المسلم عقلا متخلصا من العلل الغائية للأحداث، ولذلك فإن ورطة الحداثة
ليست غريبة عنه. لا ننسى أن المسيحية الغربية ومن خلال بنية الكتاب المقدس تجعل
الوجود الإنساني سردية كبرى من سفر التكوين وخلق آدم إلى سفر الرؤيا حيث الألفية
الأخيرة. أما بنية القرآن فلا تتخذ شكل سردية كبرى، إنما هو قصص متناثرة الأطراف
والأجزاء غبر آيات متشظية. أظن أن العقل الإسلامي غير مرتبط بالسرديات الكبرى، ما
يجعله قابلا لتقبل الوعي بالحدوث بمعزل عن الغاية.


لكن
هذا لا يكفي:


الحدوث
في الوعي الإسلامي مبرر لذاته، من هنا كان العقل الفقهي في الإسلام عقلا تبريريا
بامتياز. إن الانقلاب على السلطان مثلا غير مبرر ابتداء بالنسبة للعقل الفقهي
الإسلامي، لكنه ما أن يحدث حتى يصبح مبررا فقط بسبب حدوثه.


الأزهر
نفسه رفض الثورة على حسني مبارك، لكن الثورة ما أن حدثت حتى اعتبرها الأزهر مبررة
فقط بفعل حدوثها. كذلك فعل المتصوفة في مصر. الأمر ليس انتهازية سياسوية بقدر ما
هو نوع من الولاء لمرجعية الحدوث.


لكن،
مشكلة الوعي الإسلامي أن علاقته بزمن الحدوث تأتي متأخرة عن لحظة الحدوث، طالما
أنها علاقة تبريرية وليست نقدية ولا إبداعية. إنه وعي منفعل بما يحدث، فيبرر أو
يستنكر، لكنه ليس عقلا متفاعلا مع اللحظة. إنه ليس جدليا وإن كان جداليا.


مشكلة
الإسلام السياسي، باعتباره جزءا لا يتجزأ من الوعي الإسلامي، أنه وعي متأخر عن
لحظة الحدوث، وظيفته أن يبرر أو يستنكر. ومثلا لم يلتحق الإخوان المسلمون بالثورة
المصرية إلا بعد ثلاثة أيام عن انطلاقها، والتحقوا كأفراد أول الأمر، ولم يلتحقوا
كتنظيم إلا عندما انقلبت موازين القوى لصالح الحدوث الثوري. أما السلفيون فإنهم لم
يلتحقوا بالثورة إلا بعد رحيل "الإمام الفاجر". وبالعودة إلى المثال
التركي، فإن الإسلام السياسي لم يكن فاعلا في بناء العلمانية، لكنها ما أن أصبحت
أمرا واقعا حتى أصبح حزب العدالة والتنمية يبررها بكل المقاييس.


الإسلام
السياسي، بالخلاصة أبعد ما يكون عن روح الحداثة والتي لا تتمثل في الموقف مما
يحدث، وإنما المشاركة النقدية والإبداعية في فعل الحدوث.





محمد
شوقي الزين



إن
الحدوث مبرره هو "العفوية"، هو "السلوكات" التي تحدث دون قصد
معيّن رغم أنّها تبتغي قصدا معينا. ولعل هذا الأمر جعل فلاسفة الاختلاف يتكلمون عن
"ما بعد الحداثة"، أي مجاوزة هيغل، ليكون الحدوث ليس نتاج نسق أو منظومة
(إله، دين، أخلاق، مبدأ متعالي)، ولكن نتيجة أفعال عفوية ودهشة أمام ما يقع هنا
والآن. لهذا السبب كانت تتحدث حنه أرندت عن "المعجزة اليومية"، ليس
المعجزة بالمعنى الديني المفارق، ولكن بوصفها افتتاحا فريدا للوقائع البشرية،
ولادة جديدة في كل لحظة. لكن هناك فرق بين "الحدوث" و"الحديث"
عن هذا الحدوث. لقد استعملت الثقافة المسيحية السرديات الكبرى، لأنها لم تقصد
الحدوث (ميلاد المسيح) بقدر ما كانت تتفانى في "الحديث" عن كيفية الحدوث
من خلال الأحبار والروايات المتعدد للإنجيل (إنجيل متى، لوقا، بولس، يوحنا..). لقد
كان السرد أولى من حدث "الحدوث". في الإسلام، جاءت السردية متناثرة،
متشظية، لأنها كانت تقصد فعلا الحدوث، فجاءت التعبير عفويا، شعريا، رمزيا،
إيحائيا، ليترك للفعل محاكاة هذه الحدوث. إذا كان النص الاصلي (القرآن) يتكلم عن
الحدوث بعفوية تاركا للمتلقي درجة استيعاب هذا الحدوث حسب طاقته وإمكانيته، فإن
اللوم يعود على السرديات التأويلية (الفقه، التفسير، الكلام) التي جعلت من
"الحدوث" "حديثا"، ولم ترتقي به إلى "الحدث" سوى مع
المعتزلة والأنسنة العربية (التوحيدي، ابن مسكويه، الجاحظ) وابن رشد، ولا إلى
"الحداثة" سوى في زمن متأخر جدا مع رواد النهضة وطه حسين ورواد النقد
العربي (الجابري، أركون..).


لهذا
السبب يرتبط التبرير بالحديث، لا بالحدوث ولا بالحدث ولا بالحداثة؛ لأن
"الحدوث" هو عفوي، لا ندري كيف وقع، ونكتفي بالبناء عليه في شكل
"حدث" سياسي وثقافي وفكري ليشكّل حداثة خاصة وفق هذه المعطيات. وأقصد
بالحديث إذن كل تلك السرديات التأويلية التي تغلق النص ولا تفتح الإمكان، وتقوم
بتجميد "الحدوث" وتمجيده، أي تثبيته في الأحكام وتقديسه. لهذا أضحت هذه
السرديات هي العائق إذا لم يتم اختراق كثافتها والتواصل بالحدوث، ليس في الماضي،
ولكن في الحاضر، هنا والآن، بقراءة مبتكرة وتأويل جديد، لأن كل قراءة وتأويل هي
"الآن"، أي هي "حداثية". ومعضلة "الحديث" عن الحدوث
أنّه يفضي إلى التصلّب والانغلاق والانكفاء، وبالتالي تكمن وظيفته في التبرير، لأن
مهمته هو الحفاظ على تعالي "الحدوث" المثبّت في النص؛ وليس أقلمته مع
تطور الزمن وارتقاء العقليات والضروريات الفردية والجماعية في الحرية والإرادة
والإدراك. وهذا يفسّر كيف أنّ تقنيات "الحديث" عن الحدوث هي دائما
محافظة، تكره التغيّر، وتعارض التغيير، لأنها لا تفقد فقط سلطتها على الوعي الفردي
والجماعي، ولكن تجد نفسها هي الأخرى داخل لعبة التغيير الذي تقاومه بشدّة. وهذا
يفسّر أيضا لماذا "حدوث" الثورة تلتفّ عليه القوى التي، بلجوئها إلى
السرديات التأويلية أي باعتمادها على "الحديث"، فإنّها تختزل هذا الحدوث
العفوي إلى مجرّد حدث عابر، وأنّه ينبغي الرجوع إلى التأسيسات الأصلية الضامنة
للاستقرار والوحدة.





محمد
شوقي الزين



وبطبيعة
الحال لا يأتي "الحديث" سوى بوجود "الحدوث"، لهذا السبب كان
"الحديث" (السياسي، الفقهي، الإعلامي، الإخواني..) في تأخّر زمني ولكن
في تقدّم ايديولوجي؛ لأنه ينعطف على الحدوث ليحتكره ويبرّره ويعيد صقله حسب
التبريرات الموجودة والمسنّنة منذ 1400 سنة. ولا شكّ أنّ الكلمة السحرية،
التبريرية في جوهرها، التي يستعملها هذا الحديث الإيديولوجي (الفقهي منه والإخواني
والسلفي) للالتفاف على "الحدث" الثوري والحدّ من عنفوانه وابتكاريته، هي
"الفتنة". كلمة "فتنة" هي أقوى عبارة على جبين هذا "الحديث"
أو هذه السرديات التأويلية، لأنّ المراد هو كبح جماح "الحدث" الثوري
بناءً على "الحدوث" العفوي؛ وايقاف كل إرادة في تجاوز الوضع القائم
وابتكار أساليب جديدة في ممارسة السياسة وفهم الدين. "الفتنة" هي
الكلمة-الشفرة التي تقطع كل رغبة في التغيير. والعجيب إذا وضعنا الآية
"الفتنة أشدّ من القتل" في سياقها التداولي، أي في سياق
"الحدث" الثوري الذي نحياه، لا معنى لها إطلاقا، لأنّ في هذه الحالة، في
ليبيا كما في سوريا، "القتل هو أشدّ من الفتنة" ! وكأنّ الفتنة تغطّي
أساسا على القتل، فكيف تكون هي "أشدّ" من القتل، والقتل يمارَس يومياً،
بل وأضحى مؤسسة سياسية وإرادة ايديولوجية في إحالة كل معارضة على الصمت وإكراه
المجتمع على القبول بالوضع القائم؟ لأن الكلمة-الشفرة "الفتنة" معناها:
الاستقرار أولى من التغيير، الحاكم الظالم أولى من الغدّ الغامض؛ وهي كلها سرديات
"مراوغة" لأنّها تسعى للحفاظ على امتيازات طبقة لها مفاتيح الحل والعقد
من أهل "الحديث" الديني والسياسي والايديولوجي، أي الحفاظ على سلطتها من
ارتجاجات الزمن والأحداث الثورية. لهذا السبب لا معنى لكلمة "فتنة"
إطلاقا، هي مجرّد لغو الكلام، مجرّد كلمة سحرية، كهنوتية، مضادّة للطبيعة البشرية
والتاريخية التي هي في جوهرها "تغيّر"، نحن الأحسن أو الأسوأ، أي ارتقاء
وتقدّم. إذا كان المراد بها اتّقاء الشرّ والخوف من الغدّ المبهم والالتزام
بالحاضر الواضح، فهي تنقض ذاتها بذاتها، لأنّ "الفتنة" لا تقي أيضا شرّ
فتنتها بالذات، أي من فرط ما ينادي الإسلام السياسي بأنّ الفتنة أشدّ من القتل فهو
يمارس "فتنته" في قهر كل تغيير ومنع كل توق إلى الحرية والاستقلال عن
الوصايات والسرديات، أي الاستقلال عن "الحديث" بالتأمّل المباشر في
"الحدوث" والانغماس في "الحدث" لصناعة "الحداثة".





سعيد
ناشيد



ها
نحن نتورط في تفكير حر وبالصوت المسموع وعلى رؤوس الأشهاد ربما. لا أظن أن مثل هذا
حدث من قبل في آغورا الفايسبوك. لا أحب ادعاء السبق لكني أزعم فقط أننا نتحاور من
دون أي شروط مسبقة. وأننا لم نجعل لنا من مرجع حواري عدا لحظة الحوار ذاته. ألم
يقل فوكو أن الحياة ما هي إلا صراع صدف؟ لكن هل يعني هذا أننا نفكر بالصدفة أيضا؟
دعنا نجرب. لقد نقلتني من التفكير في فعل الحدوث إلى التفكير في
"الحديث"، وللحديث كما يقال شجون. لكن هل ثمة شجون أكبر من الحديث عن
"الحديث"؟ أتساءل ابتداء: ما هي وظيفة الحديث بالضبط؟ ولماذا احتاج
العقل الإسلامي أصلا إلى الاستعانة بالحديث؟ ألم يكن كلام الله كافيا؟ هل يحتاج
كلام الله إلى الاستعانة بأي كلام آخر؟ بكل تأكيد، كلام الله يبدو ناقصا لمن
تجاهلوا أن العقل البشري هو المصدر الأول للتشريع. المشكلة أنه حين استقال العقل
أو شرع في الاستقالة، اكتشف المسلم أن القرآن ليس مصدرا كافيا لتشريع ما يجب أن يكون،
فآياته حمالة أوجه، وقصصه مجرد لقطات ومشاهد متناثرة وخارج الزمن الطبيعي، ربما هو
زمن الحلم أو اللاوعي، ولذلك فالعقل الإسلامي قد احتاج إلى ملأ الفراغات حتى يعود
إلى زمن السرديات الكبرى. القرآن في تشظيه السردي يترك العقل المسلم وجها لوجه
أمام الفراغات والشقوق ولحظات الصمت التي هي شرط الحرية. الإسلام هو دين الصحراء،
لا حدود، لا طرق معبدة لا حصون ولا قلاع، إنما هو مجرد أفق مفتوح على الفراغ
الأنطولوجي. مبتدأ الإسلام هو أداة النفي "لا إله...". أنظر مثلا إلى
الكعبة، وهي أقدس مكان عند المسلمين، ماذا يوجد بداخلها؟ لا شيء ولا رمز ولا روح
ولا معنى، إنما مجرد صندوق فارغ إلا من الهواء. أليس الطواف احتفاء بالفراغ والذي
هو شرط الحرية الوجودية للإنسان وغياب أي عناية غيبية، بالمعنى السارتري؟ طبعا
هناك الحجر الأسود، لكنه على هامش الفراغ المكعب. أليس الإسلام احتفاء بالفناء؟ (كل
ما عليها فان). أليس هيدجر هو نفسه القائل بأن الإنسان كائن من أجل الزوال؟ هذا
مخيف لكنه شرط الحرية، بل هو شرط الحرية التي لا تفتك بنفسها على مذبح اليقين
المقدس. لكن، ولكونها مخيفة فقد سعى العقل الفقهي الذي ورث الخوف الأرسطي من
الفراغ، إلى ملأ الفراغات التشريعية والسردية التي تتخلله الذكر القرآني. وهنا
وظيفة الإيديولوجية الحديثية.


مدونة
الحديث هي التي كرست باراديغم الخوف من ليل الفتن التي لا تبقي ولا تذر. إلى أن
صار "إمام جائر خير من عدمه". العقل الفقهي في أفضل امكاناته الاجتهادية
لا يبحث سوى عن المستبد العادل، طالما أن البديل عن الاستبداد هو الفتنة.


يقلقني
السؤال التالي: يبدو أن الإسلام السياسي بدأ يتحرر سياسيا من باراديغم
"المستبد العادل"، إلى حد ما على الأقل، لكن السؤال المقلق: هل سقفه
الفقهي والاجتهادي تجاوز فعلا سقف ابن تيمية؟ لا أظن. هل سقفه الاجتهادي تجاوز سقف
الإيديولوجية الحديثية؟ لا أظن. وبالأحرى هل استطاع أن يستعيد ما يسميه جورج
طرابيشي بإسلام القرآن. أظن أن ما نسميه بكلام الله يظل الغائب الأكبر خلف أصوات
الشيوخ والدعاة ورجال الدين والحركات الدينية. هل سينجح عقلاء المؤمنين في استعادة
كلام الله بفراغاته ولحظات صمته، من التوظيف السياسي؟ أليس ما يصنع إيقاع الموسيقى
هو الفراغات ولحظات الصمت ومددها الزمنية؟





محمد
شوقي الزين






أكيد أننا نتحاور بشكل عفوي دون مسبقات أو
تنميطات، ولا شك أنّ الانتقال من "الحدوث" إلى "الحديث" هو
للبقاء في التربة اللغوية والنظرية التي يتيحها الجذر "ح د ث". طبعا لا
أتكلم هنا عن "الحديث" كفرع معرفي من السيرة النبوية، أي أقوال النبي
التي تخضع من بعد إلى العدل والتجريح أو إلى تقنيات في امتحان المصداقية مع
مدوّنات معروفة "بالصحيح" (البخاري ومسلم وغيرهما)، لكن أقصد بالحديث
مطلق "الخطاب"، أي الخطاب حول فعل الميلاد. إذا كان الخطاب في الثقافة
الإسلامية يحجب "حدث" الصدور أو الحدوث، فلأنّه يجعل من
"حدثه" هو الأصل والمنبع والنشأة. هذا ما قصدته بالحديث، بمعنى السرديات
التاريخية والتأويلية التي أطبقت على العقل بالنقل وحجرت عليه التفكير السليم والمغامرة
النقدية. وبقولك أنّ الإسلام هو "دين الصحراء" فإنك تضع على مشكلة نبّه
إليها العديد من المفكرين، وهي أنّ انعدام الحدود (الحدّ بالمعنى المنطقي)،
وبالتالي الافتقار إلى التسمية. فعندما يكون المكان رحباً، واسعاً، شاسعاً
كالصحراء فإننا نفتقد إلى المعالم والحدود التي نسير وفقها. ولعل هو ما يفسّر
ميلاد العقل في الثقافة الإسلامية من هذا "العقال" الواجب-وجوده في
البيداء لمنع الدواب من الشرود. لقد أسّست الثقافة الإسلامية لعقل تائه، عقل لا
يتعقّل، لأنه يفتقر إلى الحدود، يفتقر إلى تسمية مسمّياته، ويفتقر إلى تعيين
الأشياء. فليس من الغريب إذا كانت عقيدة "وحدة الوجود" هي عقيدة
صحراوية، لأنّ كل شيء يتماهى مع كل شيء، الكل هو الكل، ويصعب الوقوف على التمييزات
أو إيجاد الفروقات، لأنّ الحدود تم استغراقها، والفرديات تمّ محوها ودمجها في
الجماعات والمتعاليات. لهذا السبب، ربّما، لا يعي الفرد العربي بأهمية الحدود،
لأنّ في منظومته العقلية لا يزال يحتكم إلى الشساعة والفراغ. يحتفي بشيء فارغ كما
بيّنتَ ذلك، ويتيه في البيداء، حتى وإنّ قام بملأ الفراغ بالمدن وملأ الهواء
بناطحات السحاب. هناك شيء في الذهنية لا يزال يحتكم إلى "الليس" بتعبير
الكندي، لأنّ رغمّ الشساعة الصحراوية الكبيرة هناك تقليص للمسافات واختصار للمراحل
والأشواط، وهذا التقليص والاختصار يُسمّي "كل من عليها فان". فالفرد
العربي يتأرجح بين بداية أصلية فلتت منه وهو يبحث عنها بالغالي والنف
[b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبد النور شرقي
محارب
محارب
عبد النور شرقي


الإبداع .
عدد المساهمات : 390
التقييم : 18
تاريخ التسجيل : 23/09/2010

حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي    حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالجمعة نوفمبر 11, 2011 10:21 pm

محمد شوقي الزين :

فالفرد العربي يتأرجح بين بداية أصلية فلتت منه وهو يبحث عنها بالغالي والنفيس، بالعبادة والتقديس؛ ونـهاية لا ينفكّ عن جرّها نحو الحاضر والتوجّس منها وتتخذ في ذهنيته أشكال عدّة (الاستسلام للقدر، استحضار الموت، عذاب القبر). وكأنّه يختزل ما يحياه في ماضي يجلبه إلى الحاضر، وفي مستقبل أخروي، اسكاتولوجي، مسياني، يجرّه إلى حاضره. ولا ريب أنّ هذه العيش في الفراغ وانتظار النهاية هي من بين العوائق التي تكبّل الإرادة وتميّع الحرية. لأنّ الفرد العربي يختزل حياته في ذاته (بمن في ذلك من يحكمه: القذافي، الأسد، صالح الذين يختزلون أممهم وأوطانهم في أنفسهم)، ويعمل لأجل ذاته، ناسياً أو متناسياً أنّ بعد مماته هناك الحياة مستمرة لأبنائه وأحفاده ولأجيال عديدة قادمة ولحياة تبقى مستمرة ما دام الزمن الفلكي مستمر (حيث لا ينتهي الكون سوى بعد ملايير السنوات). إن هذه الأنانية في البحث عن الخلاص الذاتي وملأ الرصيد البنكي بالعبودية والحسنات واستحضار الفراغ والموت والعدم في اللحظة الراهنة هي، نفسياً وأنطولوجياً، من بين المعوّقات التي تحول بناء حضارة وحداثة، لأنّ تقليص الأزمنة قلّص أيضاً الذهنيات، وتعرف معي كيف أنّ العقل الديني (السلفي خصوصا) هو من التقليص المرعب حيث لا يوجد أفكار ولا مشاريع ولكن فقط السكون والعبودية وإقامة الحدود الشرعية، أي اختزال "الكون" القرآني والحضاري في "ذرّة" من الحماقات الدينية المتطرّفة. وهي مشكلة نفسية ووجودية، أي إمكانية أن يكون عقلنا يزداد يوماً بعد يوم من التقلّص والانحصار والانحسار إلى أن يصبح عقل "طفل" أو "رضيع"؛ وهو يتقلّص من جرّاء هذا الانغماس في الأصوليات والأخرويات إلى حدّ الاستلاب وهجران الواقع والحاضر.

سعيد ناشيد :

عتقد بأن بحث المستبد عن "الخلاص الذاتي ... واستحضار الفراغ والموت في اللحظة الراهنة، هي نفسيا وأنطولوجيا من المعوقات". قد أتفق معك فيما أظن، لكن بشرط، أن تقبل فهمي للمسألة. وهكذا أفهم المشكلة: لا أذكر أين قرأت أن بعض خطباء السياسة في أثينا كانوا يستهلون خطاباتهم للمواطنين بنداء "أيها الفانون". إن كان الأمر صحيحا، فلعله يؤكد لنا مسألة بالغة الأهمية، وهي علاقة فكرة الديمقراطية بما اصطلح عليه سارتر بالوجود العرضي. هنا تبدو مشكلة الطغاة ليست مشكلة سياسية وحسب وإنما مشكلة أنطولوجية أيضا. مشكلة الطغاة منذ نيرون روما إلى أسد دمشق أنهم يعاندون عرضية الوجود بأبدية السلطة. لذلك أحب أن أقول بأن الاستبداد مجرد عبث، هو ذات العبث الذي يقود إلى الفتن، طالما يصبح الصراع على السلطة تعويضا عن عشبة الخلود، عشبة جلجامش. أستحضر بيتا شعريا لمحمود درويش يقول فيه: "لا حلول ثقافية لهموم وجودية". وبمزيد من التدقيق أريد أن أقول لا حلول سياسية لهموم وجودية. مشكلة الطغاة تكمن بالضبط في أنهم يبحثون عن حل سياسي لمشكلة سياسية، بمعنى يجعلون السلطة ملاذا يحميهم من الوجود العرضي.
بهذا المعنى، ألا تكون الديمقراطية، بما هي تناوب وتداول، ما هي إلا انعكاس لأنطولوجيا الوجود العرضي؟ ألا تكون الديمقراطية مصالحة سياسية مع الوجود العرضي، أي مع الموت؟
هنا أتذكر أحد الحوارات الأخيرة لجاك ديريدا، يقول فيه بأن وظيفة الفلسفة اليوم أن تعلمنا كيف نموت.
Apprendre à mourir
طبعا فغاية تعلم الموت، ليس أن نجعل الموت غاية، وإنما أن نتعلم كيف نعيش حياة عرضية ونستمتع بهذه العرضية. أليست أقوى لحظات العشق حين يكون موضوع العشق في حالة انسحاب؟ عندما ننظر إلى الأشياء عبر نافذة القطار، أفلا تبدو أجمل وهي في حالة انسحاب عنا؟ لست أدري إن كنت قد استلهمت نوعا من شعرية هيدجر، فأنا أقبل تقييمك في الأخير، لكني أتجاوب معك بالوجدان الحر. وفي كل الأحوال فقد قيل بأن الثقافة هي ما يبقى بعد أن ننسى كل شيء.
أن نتعلم الموت معناه أن نتعلم أيضا أفعال الموت، من قبيل التنحي والاستقالة والانسحاب والتنازل... وهي مفاهيم تبدو لي أنطوسياسية.
حين يواجه الطاغية مطلب "ارحل" بالمعاندة العبثية إلى حد اقتراف المجازر، فلأنه جعل السلطة ملاذه الوحيد من الوجود العرضي، ولأنه لم يتعلم كيف يستمتع بالحياة كميتات متتالية، تماما مثلما يفعل بيل كلينتون الآن.

محمد شوقي الزين :

معضلة الخلود في السلطة جاءت من الوهم "المسياني" messianique أو "المهدوي" في أداء رسالة في الحياة. والوهم الذي أصاب كل الطغاة عبر التاريخ جاء من هذا الشعور بالخلود عبر الآثار والروائع التي يخلّدونها. لكن إذا كان نيرون قد خلّد روما قوية، ونابوليون خلّد امبراطورية فرنسية، فإنّ العظماء المعاصرين خلّدوا ايديولوجيات عادت بالبوار على البشرية (ستالين والشيوعية، هتلر والتمييز العرقي، موسوليني والشوفينية الرومانية، القذافي والنرجسية القاتلة، الأسد وعدم المبالاة المطلقة). هؤلاء لم يخلّدوا معماريات أو مكتبات أو جامعات وإنما غرس بالقوّة والقهر في ضمير كل مواطن الحب المرعب للقائد أو الزعيم. فهل هي نتيجة مثمرة؟ لا أعتقد. وأستحضر دوما المثال الشهير في حوار فيلسوف رواقي مع امبراطور أذاقه مرّ العذاب ليخبره بمكان تواجد معارضيه، فكان جواب الفيلسوف درس فلسفي عابر للتاريخ: «تعتقد أيها الامبراطور أنّ هؤلاء الرعاع يصفقون لك ويسبّحون بحمدك، فهو يحتفون بك بألسنتهم ويلعنونك بقلوبهم وينتظرون اليوم الذي يرون فيه تهاوي عرشك وسقوط نجمك. لك السطوة على جسدي، لكن ليس على ضميري ولا لساني» وقطع لسانه بأسنانه وبصقه في وجه الإمبراطور ينضح بالدمّ (عن ديوجين اللاؤرسي). إن هذه الشعور النرجسي والإلهي بالعظمة الذاتية الذي يقوّض كل فكرة في الديمقراطية والتداول على السلطة. من مفارقات اللغة العربية التي لا تتبع واقعها ولا تاريخها، أنها تنفرد بحنكتها ومعقوليتها وبقوّة مقولاتها. فمثلا لدينا "الدولة" (في الاسم بالذات) و"التداول" على السلطة لم يكن في تاريخ العرب سوى أضحوكة ولم يتم ممارسته فعلاً. لدينا أيضاً "المسؤول" (السياسي، الإداري، الحزبي) ولكن لا "يُسأل" أبداً، لا يخضع للمساءلة من جراء المسؤوليات التي يتقلّدها (يسمّى "مسؤول" على وزن "مفعول" ولا يُسأل عما يفعل ولا يقدّم الحسابات لمواطنيه). وكما قلت سابقا، هناك شيء في الثقافة العربية الاسلامية يجعل الفعل لا يتبع القول، لأنّ المواعظ والأخلاقيات هجرت الواقع وارتحلت في الخطاب، وتظلّ تدور في فلك الخطاب دون أن تنزل إلى الواقع، سواء في الخطابات السياسية أو في المواعظ الدينية أو في الأخلاقيات النخبوية والثقافية: هناك شيء يقال بإطناب وتضخّم في فلك الخطاب، ولكن يبقى الواقع منه في عراء. والأمر نفسه مع "العلاقة المرضية" أو الباتولوجية بالسلطة. المتمسك بالسلطة إلى حدّ الانتحار وقتل شعبه وذويه هو من الجُبن ما لا يصفه واصف. الإنسان الحرّ والعاقل والحكيم هو الذي يحسن أحيانا أن يقول أيضاً: "لا أعرف"، "لا أحسن"، "لست أهلاً لذلك". لكن بما أننا ابتلينا بأنصاف آلهة، جبناء، لا وجه لهم ولا كرامة، فهم يتموضعون في الحلبة الخطيرة من الألوهية بادّعاء التماهي مع الوطن، وأنّ لهم رسالة إلهية للبشر، وأنّهم أولى بالناس من أنفسهم، وأنّ لهم العلم اللدني وبحر المعرفة وسحر الوجود. هذا، على الأقل، ما تمنحه لهم القوّة المسلوبة أو الشرعية المصطنعة؛ وعندما ينفجر المجتمع بالثوران على هذا القهر، ترى أحدهم يفرّ كالجبان، والآخر يحترق مسودّ الوجه، والآخر ملقى على الفراش خائر القوى، والآخر يُنكّل به بعدما تمّ إخراجه من أنابيب صرف المياه وكان ينعت فقط قبل شهور شعبه بالجرذان، فكانت نهايته بما تفوّه به، والآخر في "فصامية خطيرة"، منقطع عن الواقع، في ألوهية متجسدّة، لا يعبأ بالعالم من حوله، ولا بالأصوات التي تنادي بالكفّ عن قتل شعبه. فهؤلاء الذين كانوا بالأمس يتمتعون بالقوّة، عندما تهجرهم هذه القوة يصبحون في حالة يرثى له، مدعاة للشفقة، بينما كان لهم الوقت الكافي (عقد أو عقدين أو ثلاثة أو أربعة) لبناء دول قوية ومجتمعات سعيدة وديمقراطيات نموذجية. أي كان لهم الوقت ليخلدوا في الذاكرة والتاريخ بأجمل الأشياء لا بأشنعها. لكن، كما قلت، ما دام "الموت" في صيغته الإيجابية والأنطولوجية غير حاضر أمام أعينهم، فإنّهم تصرّفوا كآلهة لا تموت وفاجأهم مكر التاريخ من حيث لم يحتسبوا، ونزع عنهم القوّة التي كانوا يتبجّحون بها ويمارسونها على شعوبهم قهرا وظلما وعدوانا، فكانت النتيجة أنّ الشعوب تبقى والأنظمة تفنى، أنّ الشعب هو في أرضه ووطنه كالإله المتربع على عرشه كما قال آباء الثورة الأمريكية في القرن الثامن عشر. وبالتالي الإله هنا هو الشعب وليس الأنظمة.

سعيد ناشيد :

أنا عائد الآن من جبال الأطلس، وأرى أننا بلغنا نقطة تكامل بالغة الأهمية: من جهتي كل ما حاولت القيام به هو البرهنة على أننا نستطيع استثمار الإسلام في بعده الأنطولوجي، بما يجعله منتجا للوعي الديمقراطي من حيث هو وعي متصالح مع الوجود العرضي. ومن جهتك أظهرت بنباهتك المعهودة أننا نستطيع استثمار اللغة العربية بما يجعلها منتجة للوعي الديمقراطي من حيث أن الدولة اصطلاحا تعني التداول والمسؤول هو اصطلاحا موضوع للمساءلة المستمرة.
فهل هذا يعني أننا متفقان حول أن معارك الإصلاح الثقافي والديني التي تنتظرنا، يمكننا أن نكسبها بالاستناد على مكامن القوة في الإسلام وفي اللغة العربية؟
دعني أضيف قبل أن أستأنف طريق العودة من السفر، أنك جعلتني أنتبه فعلا إلى أن وعينا دون مستوى لغتنا العربية: فكرت في أمثلة إضافية: مثلا عالم الغيب. فالغيب هو الغائب الذي لا يحضر ولا يمكننا استحضاره. فكيف يسعى الإسلام السياسي إلى استحضاره في السياسة؟ مثال آخر: الهوية تحيل إلى "هو"، الغائب الذي لا يحضر. وعموما فاللغة أفضل طريق للعودة إلى الانطولوجية. كيف نستمر في التناحر حول ما هو غائب (عالم الغبي) أو حول ضمير الغائب (هو- هوية)؟ ألسنا دون مستوى لغتنا؟؟؟

محمد شوقي الزين :

نعم لقد لاحظت ذلك على ممر قراءتي لأعلام الفكر. هناك ما أسميه أسوة بهايدغر "نسيان اللغة العربية"، ولا أقصد بذلك الترف اللغوي والتوغّل في الاشتقاقات اللامتناهية، ولكن كيف الربط بينها وإيجاد معقولية وقيمة نقدية وأنطولوجية من جرّاء هذا الربط؟ لم تكن العربية سوى في نطاق التمجيد التاريخي والتبجيل الماورائي، لكن كهندسة عملية، كممارسة نقدية، كمعالجة تقنية ويومية، فهي الغائب الأكبر، ومعها الفكر الذي يتكلّم عبرها. نعم، لقد أشرت إلى الغائب "الهو" من "الهوية" في مقالي «سؤال الهوية أمام تحديات المستقبل» (جريدة "المستقبل"، بيروت، 30 ديسمبر 2002) وأظهرت كيف أنّ البديهي والقريب والمألوف من "الهوية" يختزن على الغائب والمضمر (الهو)، وكتبت بالحرف الواحد: «"الهو" البارز في "الهوية" من فرط إخفائه وحجبه، له وظيفة الإزاحة والمجاوزة لتفتتح هذه الأخيرة على قيم الغيرية الكائنة في أعماقها وتنحو في الغالب صوب اختزالها أو إنكارها». وكتبت مراراً أنّ "لغة الضادّ هي لغة الأضداد"، فهي للتدقيق وليس للتنميق. يمكننا إحداث ثورة ابستمولوجية بالاشتغال عليها، لأنني واثق بأنّ إعادة إحياء العربية هو إعادة إنهاض الفكر المسجون فيها. وهنا أشير بالخصوص إلى ابن عربي وفتغنشتين ودريدا الذين أيقظوني من سباتي المتعالي نحو الاشتغال على هذا البحر الذي لا ساحل له، والمسمى العربية. لأنّ الحداثة المرجوة، أو تلك التي نرجوها ونسعى لتحقيقها لا يمكنها أن تكون سوى "حداثة لغوية"، وبالطبع هي مغامرة مريرة، جسيمة، شاسعة، لأنها مسألة إعادة حياكة الخيوط بحكاية التاريخ الفكري الذي حجبها، وإعادة النظر في اللغة ما لم تقله في التشكيلات التاريخية التي قامت بتحنيطها وتثبيتها وإسناد دلالة أحادية لها. إنه مشروع العمر، بل مشروع الجيل، أن يعاد التأمّل الثقافة اللغوية. ولعلّ الأدوات التفكيكية والتأويلية تمنحنا في هذا المقام بعض المفاتيح ولكن دون الجذوة الفكرية التي يحرّكها، لأنّ من شأن العربية نفسها أن تكشف بذاتها ما بداخلها، وتفجّره تفجيراً. لهذا السبب هناك مقولات لا تزال في عداد "البداهة"، وأسعى للكشف فيها عن "الباده" (مقولة صوفية)، أي عن العفوي، المضمر، الحدوث، النشأة. ما معنى الإسلام؟ القرآن؟ النص؟ التاريخ؟ الوطن؟ الديمقراطية؟ السياسة؟ الثقافة؟ الحداثة؟ القيمة؟ النفس؟ الفرد؟ المجتمع؟.. إننا نتداول بداهات، ولم نتوقف بعد على البواده فيها، على صيغة الحدوث والارتقاء.
عودة ميمونة من سفرك، والسفر من الإسفار، أي الكشف، ولعلك تكشف في الإسفار والأسفار ما لا تكشفه في التفسير.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبد النور شرقي
محارب
محارب
عبد النور شرقي


الإبداع .
عدد المساهمات : 390
التقييم : 18
تاريخ التسجيل : 23/09/2010

حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي    حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2011 1:40 pm

سعيد ناشيد

أناأفكر باللغة العربية، لكنك أنت تفكر باللغة العربية وفي اللغة العربية في
نفس الأثناء. أنت تفكر في ما يبدو لي "سياسة الكلمات". ربما مثل هذا
العنوان أتوقع أن تكتب فيه وتلهمنا. لأنه لا يكفي أن نفكر بالكلمات في
السياسة وإنما أن نفكر أيضا في السياسة ككلمات تحمل فعلها في ذاتها. مثل
الدولة والهوية (التي يبدو أني تأخرت في إدراكها عنك عشر سنوات). لست أدري
لكني بصدق متفائل بإمكانياتك وربما تفكر قريبا في إنتاج "قاموس مضاد". في
كل الأحوال هذا مجالك. شكرا أنك كنت خير رفيق في رحلتي الأطلسية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبد النور شرقي
محارب
محارب
عبد النور شرقي


الإبداع .
عدد المساهمات : 390
التقييم : 18
تاريخ التسجيل : 23/09/2010

حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي    حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالخميس نوفمبر 17, 2011 9:20 pm



حوار عفوي على صفحات الفيسبوك بين محمد شوقي الزين وسعيد ناشيد حول الربيع العربي.

للتحميل

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبد النور شرقي
محارب
محارب
عبد النور شرقي


الإبداع .
عدد المساهمات : 390
التقييم : 18
تاريخ التسجيل : 23/09/2010

حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي    حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي  Emptyالخميس نوفمبر 17, 2011 9:26 pm

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
حوار بين سعيد ناشيد ومحمد شوقي الزين حول الربيع العربي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مناقشة مع الدكتور شوقي الزين حول مكانة المرأة
» من هو محمد شوقي الزين
» تهاني للدكتور محمد شوقي الزين
» ملخص اللقاء الفكري مع محمد شوقي الزين.
» إعلان : لقاء فكري مع محمد شوقي الزين

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: ๑۩۞۩๑ منبر النقاشات والمناظرات الفلسفية والتاريخية๑۩۞۩๑ :: حوارت و منقاشات هادفة-
انتقل الى: